مقدمة للترجمة

في هذه المادة، فإن فلاتكو فيدرال، وهو فيزيائي بريطاني من أصل صربي اشتهر بإسهاماته في نظرية الكم يريد أن يصنع آلة “مستحيلة” تتجاهل قوانين الديناميكا الحرارية التي تحكم هذا الكون، عبر استغلال ثغرة خفية ولكنها مشروعة، وهي فيزياء الكم، ثم يعمق فكراته بعد ذلك وصولا إلى الحواسيب الكمومية، ومن ثم الفروق بين أكثر الأمور عمقاً: الحياة، والموت.

نص الترجمة

قبل بضع سنوات، راودتني فكرة قد تبدو جنونية بعض الشيء، فقد ظننت أنه بإمكاني ابتكار محرِّك يعمل بكفاءة تتجاوز ما تسمح به قوانين الفيزياء. يحق لك بالطبع أن ترفض مثل هذا الاقتراح، فكفاءة المحركات تخضع في نهاية المطاف لقوانين الديناميكا الحرارية، التي تُعدّ أحد أكثر الأسس ثباتًا في علم الفيزياء، وهي مجموعة من القوانين الطبيعية التي لا يُمكن التلاعب بها.

ومع ذلك، حينما أغادر مكتبي في جامعة أكسفورد وأتجول في الممر، يتراءى أمامي محرك لا يكترث بهذه القوانين أو على الأقل يتجاوز بعض المفاهيم التقليدية لكفاءة المحركات كما تُحددها قوانين الديناميكا الحرارية الكلاسيكية. يُعتبر هذا المحرك آلة ذات قوة وتعقيد هائلين، وقد استُبدلت فيه المكابس والوقود بأشعة الليزر الخضراء والأيونات. صحيح أن الطريق لا يزال أمامنا طويلا، لكنني أؤمن أن مثل هذه الأجهزة سيشكل مستقبل التكنولوجيا.

لن تقتصر التقنيات التي يعتمد عليها هذا المحرك الجديد على تطوير الحواسيب فحسب، بل سيمتد تأثيرها إلى مجالات أخرى، كما أن هذا المحرك يعتبر مؤشرًا لعصر جديد في العلوم، لأنه استلزم أثناء عملية بنائه اكتشاف مجال علمي جديد يُسمى “الديناميكا الحرارية الكمية”، وهو المجال الذي من شأنه إعادة تشكيل أفكارنا عن سبب وجود الحياة والكون ــ وكل شيء في الواقع ــ على هذا النحو الحالي.

الديناميكا الحرارية هي النظرية التي تصف التفاعل بين درجة الحرارة والحرارة كسلوك للمادة، والطاقة، والعمل (وهو الطاقة التي تُنقَل من نظام إلى آخر نتيجة تغيير في الحجم أو الضغط*). وبما أنها تتحكم في هذه العناصر، فإنها تؤثر تقريبًا في كل شيء في حياتنا، بدءًا من دماغك وعضلاتك، مرورًا بمحركات السيارات والخلاطات في المطبخ، وصولًا إلى النجوم والكوازارات (وهي أجرام سماوية تُعتبر من ألمع وأبعد الأجسام في الكون*).

فنجان القهوة فلا يسخن من تلقاء نفسه عندما يُترك على الطاولة، بل يتأثر بالقانون الثاني للديناميكا الحرارية (بيكسابي)

تُشكِّل الديناميكا الحرارية أساسًا لفهم ما يمكن وما لا يمكن أن يحدث في الكون. فإذا تناولت شطيرة برغر على سبيل المثال، فعليك أن تحرق السعرات الحرارية وإلا سيزداد وزنك. أما فنجان القهوة فلا يسخن من تلقاء نفسه عندما يُترك على الطاولة. ومع توسع الكون، تنخفض حرارته باستمرار، وسيتجه نحو ما يُعرف بـ الموت الحراري في المستقبل البعيد. كل هذه الحقائق الحتمية تنبع من قوانين الديناميكا الحرارية. وبالأخص، تستند إلى القانونين الرئيسيين في الديناميكا الحرارية، المعروفين ببساطة باسم “القانون الأول” و” الثاني”.

تعود هذه القوانين إلى زمن بعيد، فإحدى الحكايات المفضلة لديّ والمتعلقة بوضع هذه القوانين، هي قصة يوليوس فون ماير، الطبيب الألماني الذي كان شغفه الحقيقي هو الفيزياء. تروي القصة أنه في أربعينيات القرن التاسع عشر، حصل ماير على وظيفة جراح على متن سفينة إلى جاكرتا. وأثناء هذه الرحلة، لاحظ شيئًا غريبًا، فقرب المناطق الاستوائية، لم يكن الدم في أوردة البحارة مائل للون الأزرق كما هو الحال في ألمانيا، بل كان أحمرَ داكنًا.

افترض ماير (ولكن اتضح لاحقًا أن افتراضه كان خاطئًا) أن سبب احمرار الدم الزائد في أوردة البحارة أثناء  المناخ الحار يرجع إلى أن الجسم يستهلك كمية أقل من الطعام لإنتاج الحرارة، نظرًا لعدم حاجته لتدفئة نفسه كما هو الحال في المناخ البارد.

بمعنى آخر، كان يعتقد أن كمية الطعام المُستَهلكة لإنتاج الحرارة في الجسم تؤثر على لون الدم، إذ إن الطعام يولد طاقة، وعندما يكون الجو حارًا، يحتاج الجسم إلى طاقة أقل للحفاظ على درجة حرارته، وهو ما يؤدي -وفقًا لافتراضه- إلى تغير لون الدم.

لكن أثناء تفكيره في العلاقة بين التمثيل الغذائي ودرجة الحرارة وتوليد الحرارة داخل الجسم، توصل بصورة غير مباشرة إلى جوهر القانون الأول للديناميكا الحرارية الذي ينص على أن الطاقة لا تُفنَى ولا تُستَحدث من العدم، ولكنها تتحول من شكل إلى آخر. غير أن المثير للانتباه أن القانون الثاني  للديناميكا الحرارية بدأ في التبلور قبل عشرين عاماً من صعود ماير على متن سفينته.

في ذلك الوقت، تمكنت المحركات البخارية من إحداث ثورة صناعية في أوروبا، فكانت الأفران والمكابس تُشغِّل المصانع والمطاحن. ومع ذلك، لم يكن المهندس الفرنسي سادي كارنو راضيًا عن حقيقة عدم وجود من يفهم بدقة كيفية عمل هذه المحركات، لهذا السبب شرع في تطويرها.

كان الاكتشاف الأساسي لسادي كارنو هو أن الأجسام الساخنة تنقل الحرارة دائمًا إلى محيطها إذا تُركت دون تدخل.على سبيل المثال، في المحركات البخارية، عندما يسخن الماء، فإن جزءًا من الحرارة يتسرب دائمًا إلى الهواء الخارجي، مما يعني أن هذه المحركات لا يمكن أن تكون فعالة بنسبة 100%، لأن هناك دائمًا فقدانا للطاقة.

في عام 1824 نشر كارنو كتابه الوحيد ليعمم فكرته ويثبت أنه لا يمكن لأي محرك أن يتجاوز حدًا معينًا من الكفاءة، وهو ما يُعرف اليوم بـكفاءة أو (مردود) كارنو، وهو المردود الذي يعتمد على الفرق في درجة الحرارة بين مصدر الحرارة مثل “النار”، والمشتت الحراري (وهو الوسط البارد الذي تُستقبل منه أو تُطلق إليه الحرارة*) مثل “الهواء الخارجي”.

(Entropy) ما هي الأنتروبيا

فوضى لا مفر منها

تُوفي كارنو بعد بضع سنوات، ولم يُلقَ بالٌ لكتابه لعدة عقود حتى لاحظه عالم الفيزياء الألماني رودولف كلاوزيوس. اعتقد كارنو أن الحرارة هي نوع من المادة عديمة الوزن تُسمى “الكالوريك”، في حين أدرك كلاوزيوس أن الحرارة مرتبطة في الواقع بسرعة حركة الذرات أو الجزيئات. وقد مكنه هذا الفهم الجديد من إعادة صياغة أفكار كارنو من خلال مقياس الفوضى أو العشوائية التي أطلق عليها الإنتروبيا. تخيل أن لديك صندوقًا ساخنًا يحتوي على جسيمات تتحرك بسرعة، وصندوقًا باردًا به جسيمات تتحرك ببطء. وهو ما يُعدُّ ترتيبا منظما لأن الجسيمات المتشابهة في الطاقة تكون معًا.

لكن وفقًا لكلاوزيوس، فإن الكون لا يحب الحالات ذات الإنتروبيا المنخفضة (أي الحالات المنظمة*). فإذا فتحت الصناديق، ستختلط الجسيمات، مما يؤدي إلى زيادة الإنتروبيا (أي زيادة الفوضى*). وهو ما أدى به إلى صياغة القانون الثاني للديناميكا الحرارية كما نعرفه اليوم، والذي يشير إلى أن كل شيء في الكون يميل إلى أن يصبح أكثر فوضى مع مرور الوقت، ولا يمكن عكس هذه العملية دون بذل طاقة أو عمل لتقليل الفوضى. (دعنا نُعرِّف الإنتروبيا على أنها مقياس لعدد الاحتمالات الممكنة لحالات منظومة مُغلقة، لفهم الفكرة خُذْ مثلا كتابا عدد صفحاته 100، لتحقيق أفضل ترتيب لها هناك احتمال واحد فقط وهو أن تُرتِّبها: 1، 2، 3، 4، 5، وهكذا حتّى 100، هذه هي الحالة المنتظمة، لكن بالنسبة لحالة فوضوية يمكن أن يكون هناك عدد هائل جدا من الاحتمالات، فقد تضع الصفحات في أي ترتيب، هنا نقول إن الإنتروبيا أقل في الحالة المنتظمة وأعلى في الحالة الفوضوية، لأن الاحتمالات أقل في الحالة المنتظمة، وأعلى في الحالة الفوضوية*)

أما إذا اتبعت المنطق الكامن وراء القانونين الأول والثاني للديناميكا الحرارية، ستصل إلى وصف دقيق لما هو ممكن وما هو مستحيل في الكون. وذات يوم، قال عالم الفيزياء الفلكية آرثر إدينجتون عن أهمية القانون الثاني للديناميكا الحرارية: “إذا وجدت نظريتك تتعارض مع القانون الثاني للديناميكا الحرارية، فلا أمل لك على الإطلاق، وستفشل نظريتك تمامًا وبطريقة مخزية.”

ولكن ماذا عن فكرتي لمحرك يتلاعب بالقواعد؟ قد يبدو الأمر ضربًا من الخيال أو حلمًا بعيد المنال، إلا أننا في الواقع أطلقنا على أي محرك يتجاهل الديناميكا الحرارية اسم “المحرك دائم الحركة”، وهو مصطلح مرادف “للدجل العلمي”(إذ يُعتبر أي محرك يدّعي العمل دون فقدان للطاقة انتهاكًا صارخًا للقوانين الفيزيائية*). ولكن المحرك الموجود في نهاية الممر الذي أسير فيه ليس من هذا النوع، فهو لا يخالف قوانين الفيزياء، بل يستغل ثغرة خفية ولكنها مشروعة، وهي فيزياء الكم.

وُجدتْ الديناميكا الحرارية قبل ظهور نظرية الكم، وكانت السبب في ميلادها. ففي عام 1900، حاول الفيزيائي الألماني ماكس بلانك فهم خصائص جسم افتراضي يُسمى “الجسم الأسود”، وهو جسم يمتص جميع الإشعاعات الساقطة عليه ثم يبعثها مرة أخرى (الحديد على سبيل المثال يتصرف مثل جسم أسود، حينما تسخّنه لدرجات حرارة شديدة فإنه يمتص ذلك الإشعاع الحراري، ثم يطلقه في صورة إشعاع أيضا، يظهر في تغير لونه للأحمر ثم الأزرق*).

الفيزيائي الألماني ماكس بلانك (مواقع التواصل الاجتماعي)

ووفقًا لأفضل القوانين الفيزيائية في ذلك الوقت، كان من المفترض وجود عدد لا نهائي من الأطوال الموجية (أنواع الإشعاع*) التي يمكن إصدارها، مما يعني أن الجسم الأسود سيُصدر كمية لا نهائية من الطاقة. إلا أن ذلك الاقتراح لم يكن منطقيًا. ولحل هذه المشكلة، افترض بلانك أن الطاقة لا يمكن أن تظهر إلا في شكل “حزم” أو “كمّات” محددة، وأطلق عليها اسم “الكم”.

اعتُبرتْ قفزة بلانك العلمية مفتاحًا لحل العديد من الأسئلة المحيرة والمزعجة في الفيزياء. لكن عندما بدأ العلماء في دراسة الظواهر التي تخضع لقوانين ميكانيكا الكم، اكتشفوا أنها تتصرف بطرق مذهلة وغير متوقعة. ومن أشهر هذه الظواهر، ظاهرة التشابك الكمّي، التي تنص على أنه عندما يتشابك جسيمان، يغيِّر أحدهما خصائص الآخر فورا بغض النظر عن المسافة بينهما.

أما الظاهرة الأخرى فهي التراكب الكمّي، وتعني أن الذرة يمكن أن توجد في أكثر من حالة في الوقت نفسه، ولكن عند قياسها، تنهار إلى حالة واحدة فقط. هذا يعني أن الذرة يمكن أن تكون في حالتي طاقة (منخفضة وعالية) معًا، لكنها تبقى كذلك طالما لم تُرصَد أو تُقاس.

تتعارض هذه الظواهر (مثل التشابك والتراكب الكمّي) تمامًا مع القواعد التقليدية للديناميكا الحرارية، لكن يبقى السؤال الأهم: “هل الديناميكا الحرارية مستثناة من هذه القوانين الكمّية الغريبة؟” لم يكن لدينا الأدوات اللازمة للتحقق من هذا السؤال إلا خلال السنوات الخمس الماضية فقط. ولنتأمل هنا عمل توبياس شيتز في معهد فرايبورغ للدراسات المتقدمة بألمانيا. في عام 2016، أجرى شاتز تجربة على الأيونات داخل بلورة بعدما زودها بالطاقة ثم راقبها وهي تبرد. إلا أن ما حدث كان مفاجئًا. في العادة، يبرد أي جسم ساخن تدريجيًا، مثل فنجان القهوة الذي يبرد بمرور الوقت.  لكن في التجربة، فقدت الأيونات طاقتها فترة، ثم عادت الطاقة إليها فجأة مرة أخرى.

كان هذا دليلًا على ما اشتبه به العلماء فترة طويلة، وهو أن القواعد التقليدية للديناميكا الحرارية لا تنطبق دائمًا في عالم الكم. المشكلة هي أننا لا نعرف بالضبط ما القوانين التي تنطبق على عالم الكم، والسبب هو عدم وجود مفاهيم كمّية واضحة تعادل مفاهيم الديناميكا الحرارية التقليدية، مثل الحرارة أو الإنتروبيا. فمثلاً، في الديناميكا الحرارية الكلاسيكية، تنشأ هذه المفاهيم من حركة عدد هائل من الجسيمات، لكن ماذا يحدث عندما نحاول تطبيق هذه المفاهيم على عالم الكم، حيث نتعامل مع جسيم واحد أو جسيمين فقط؟

لكن لا بأس! رغم كل هذه التعقيدات، قررتُ تصميم نسخة كمّية من المحرك الحراري على أي حال. يختلف هذا المحرك تمامًا عن أي شيء كان سادي كارنو على دراية به، لكن المبدأ الأساسي لا يزال كما هو. كانت الفكرة هي استخدام  أزواج من الجزيئات العضوية ورفع طاقتها إلى مستوى عالٍ من خلال تسليط الضوء عليها. وعندما تُترك هذه الجزيئات وحدها، فإنها تفقد بعضًا من طاقتها تدريجيًا، وتُعيد إصدار الضوء ولكن بتردد مختلف عن الضوء الأصلي.

التراكب الكمي يعني أن الذرة يمكن أن توجد في أكثر من حالة في الوقت نفسه، وأقرب توصيف لهذا المبدأ نراه في تجربة قطة شرودنغر الفكرية الشهيرة، التي تحتمل وجود القطة في حالتين (ميتة وحية) بنفس الوقت داخل صندوق مغلق (بيكسابي)

هل يمكن للوقت أن يتحرك في اتجاهين؟

وهنا يأتي الجزء المهم. فإذا أعددنا التجربة بالطريقة الصحيحة، فلن يحمل الضوء المنبعث أي معلومات عن أي الجزيئين مسؤول عن انبعاثه. ووفقاً لنظرية الكم، فإن هذا يجبر الجزيئين على التشابك، أي عندما ينخفض مستوى طاقة أحدهما، سرعان ما تنخفض طاقة الآخر تلقائيًا أيضًا، مع إصدار كل منهما الضوء في انسجام في عملية تسمى الإشعاع الفائق.

لقد توقعت أن يظل هذا المحرك الكمي عرضة لتسرب الطاقة بالطريقة التي وصفها كارنو قبل ما يقرب من 200 عام، لكن بسبب الإشعاع الفائق، فإن المحرك ينقل الطاقة بسرعة أكبر، مما يجعله أكثر كفاءة من المحركات التقليدية التي لا تعتمد على ميكانيكا الكم.

بالتعاون مع زميلّي تريستان فارو، و روبرت تايلور، أنجزنا تجربة العام الماضي إذ لم تكن الجزيئات فيها متشابكة. ولكن قبل أن ننهي النسخة الأكثر إثارة للاهتمام في التجربة، تفاجأنا بأن فريقًا آخر سبقنا إلى النتيجة ذاتها. في أكتوبر/تشرين الأول 2017، وصف زميلي من  جامعة أكسفورد إيان وولمسلي وفريقه تجربة مماثلة تمامًا للتي كنا نخطط لها. لكن بدلا من استخدام الجزيئات العضوية لامتصاص وإطلاق الطاقة، استخدموا ذرات محصورة داخل تجاويف خاصة في ألماسة. لم تكن هذه الذرات متشابكة، بل كانت في حالة تراكب كمّي بين حالتين؛ حالة طاقة عالية، وأخرى منخفضة. و كما كان متوقعًا، لاحظ وولمسلي وفريقه أن الضوء انبعث أسرع مما تتنبأ به القوانين الكلاسيكية للديناميكا الحرارية.

ولكن لم يتضح بعد السبب وراء حدوث ذلك. ومن المؤكد أن مدى الانتهاك للقوانين الكلاسيكية ضئيل جدًا  لدرجة أنه لا يمكن الاستفادة منه عمليًا في الوقت الحالي. ومع ذلك، فإن هذه النتيجة تشكل دليلًا أوليًا حاسمًا على أن المحركات الحرارية الكمّية يمكنها تجاوز تلك القوانين الصارمة.

أتوقع أن هذا المحرك يمكن تحسينه، وأنا متحمس لمستقبل المحركات الحرارية الكمّية. وما جذبني في البداية إلى هذا المجال هو عملي على الحواسيب الكمّية. صحيح أنه يكثر الحديث عن هذه الأجهزة المستقبلية، التي تعتمد على وحدات الكمّ (الكيوبتات)، التي من المفترض أنها ستتمكن من حل أنواع معقدة جدًا من الحسابات التي يصعب حلها بالحواسيب التقليدية، إلا أن ثمة تحديًا كبيرًا يكمن في أن تشغيل هذه الحواسيب يتطلب تبريد مكوناتها إلى درجات حرارة منخفضة للغاية، مما يستهلك كميات هائلة من الطاقة.

قد تكون الأجيال القادمة من آلة وولمسلي مفيدة في هذا المجال. ففي النهاية، يحوّل المحرك الحراري الحرارة إلى شغل موجّه أو مباشر، مثل تحريك مكبس المحرك البخاري. لكن إذا عكسنا العملية، يمكن استخدام الشغل الموجّه لضخ الحرارة بعيدًا، عمّا يؤدي إلى تطوير “ثلاجة كمّية” وهي جهاز يستخدم المبادئ الكمّية لتبريد المواد، ولكن بطريقة تختلف عن الثلاجات التقليدية التي تعتمد على العمليات الحرارية الكلاسيكية*”. ويجري جليب ماسلنيكوف من الجامعة الوطنية في سنغافورة وزملاؤه فعلا تجارب على ثلاجات كميّة، وثمة مؤشرات واعدة على أنها قد تكون أكثر كفاءة من نظيراتها التقليدية.

ليست الحواسيب الكمّية هي التي قد تستفيد من ذلك، فإحدى العقبات الرئيسية أمام تصغير الدوائر الإلكترونية التقليدية هي أنها ستسخن أكثر إذا حاولنا تقريب المكونات أكثر، وعليه فإن تحسين التبريد هو الحل الأمثل لهذه المشكلة.

أما إذا كنت تعتقد أن الثلاجات الكمومية مفيدة، اسمح لي أن أقدِّم لك البطارية الكمومية. لقد أثبت  أحد طلابي السابقين، فيليكس بايندر، الذي يعمل الآن في جامعة نانيانغ للتكنولوجيا في سنغافورة، أن البطاريات الكمومية يمكن شحنها بسرعة أكبر من البطاريات التقليدية. (البطارية الكمّية هي نوع من البطاريات التي تعتمد على المبادئ الكمّية لتخزين الطاقة، ويمكنها شحن نفسها بسرعة أكبر من البطاريات التقليدية التي تعتمد على قوانين الديناميكا الحرارية الكلاسيكية.*)

وبدلاً من تحريك الأيونات، كما تفعل البطاريات التقليدية، فإن هذه الأجهزة ستعتمد على “بتات إلكترونية” تشبه بتات الكمبيوتر التي يمكن أن تكون إما مشحونة أو غير مشحونة.

وفي ظل الديناميكا الحرارية الكلاسيكية، تزداد كمية الطاقة المستخدمة لشحن البطارية خطياً مع عدد البتات. إلا أن بايندر أظهر أن البتات الكمية إذا تشابكت، فإن كمية الطاقة اللازمة لشحن البطارية بالكامل تتناسب مع الجذر التربيعي لعدد البتات. وهذا يعني أن بطارية كمية تحتوي على مليون بت ستُشحن بالكامل في الوقت الذي يستغرقه شحن بطارية تقليدية بسعة 1000 بت. ويأمل فيتوريو بيليجريني من المعهد الإيطالي للتكنولوجيا في جنوة في بناء مثل هذه البطارية الفائقة في غضون بضعة أعوام.

المساحة الأكثر فوضوية

ولكن لا ينبغي لنا أن نعتقد أن الديناميكا الحرارية الكمّية تتعلق فقط بصنع الأجهزة التكنولوجية، ولكنها تلامس الفروق بين أكثر الأمور عمقاً: الحياة، والموت. فالكائنات الحية تسعى باستمرار إلى مقاومة القانون الثاني للديناميكا الحرارية، فتمتص الطاقة للحفاظ على النظام داخل خلاياها.

كل هذا يغذيه ما يعادل المحركات الحرارية في أجسامنا: الميتوكوندريا. وهنا يبرز سؤال مثير للاهتمام: إذا علمنا أن الانتقاء الطبيعي يميل إلى تشجيع الكفاءة، فهل يمكن أن تكون الميتوكوندريا قد تطورت لتعمل كـ”محركات حرارية كمّية”؟ يتأجج  جدال حاد عمّا إذا كانت التأثيرات الكمّية  تلعب دورًا في البيولوجيا، لكن من وجهة نظري، ليس من الجنون التفكير في أن التطور قد أنتج أكثر المحركات كفاءة.

وحتى تدفق الزمن قد يُعاد صياغته بواسطة الديناميكا الحرارية الكمية. ولا يوجد قانون فيزيائي يوضح سبب عدم قدرة العمليات الطبيعية على العودة بالزمن إلى الوراء إلا القانون الثاني للديناميكا الحرارية. ويؤدي إصرار هذا القانون على ضرورة زيادة الإنتروبيا إلى دفع العديد من علماء الفيزياء للشك في أن الزمن ربما  ينشأ بطريقة ما لتغيرات في الإنتروبيا.

من الناحية الكلاسيكية، فإن الإنتروبيا لها مفهوم بديهي. على سبيل المثال، تقول الديناميكا الحرارية الكلاسيكية إن الكون لا بد وأن يكون على الأقل بنفس درجة فوضى الأجزاء التي يتكون منها. وهذا أشبه بالقول إن الفوضى الإجمالية لمنزل ما – والتي تُقاس بكمية الطاقة اللازمة لترتيب المنزل – لا يُمكن أن تكون أقل من فوضوية غرفة غير مرتبة داخله أو أكثر الغرف فوضوية فيه.

ستختلف الصورة جذرياً إذا خضع الكون لقوانين الديناميكا الحرارية الكمومية. صحيح أننا لا نعرف بالضبط ما هذه القوانين حتى الآن، ولكننا نعلم من معادلات نظرية الكم أن إجمالي مقدار الفوضى في الكون يجب أن يبقى ثابتًا.

علاوة على ذلك، فإن عدم اليقين الكمّي يمنعنا من الحصول على معلومات كاملة عن حالات الأجزاء الفردية من الكون، مما يعني أن بعض الأجزاء قد تكون أكثر فوضوية من الكون ككل. بمعنى أن إجمالي الفوضى في الكون قد يبقى ثابتًا، ولكن نظرًا لوجود عدم يقين كمّي، قد تكون بعض الأجزاء أكثر فوضوية من الكل، بعكس ما تنص عليه القوانين الكلاسيكية على أن الفوضى يجب أن تكون متزايدة عبر الكون بالكامل.

قد يعني هذا أنه إذا نظرت إلى الكون ككل، فلن تجد أن الإنتروبيا تتغير وعليه لن يكون هناك وقت. ولكن إذا نظرت إلى أجزاء صغيرة حيث تتغير الإنتروبيا، فسيبدأ الوقت في التقدم. ولأن الأشياء لا يجب أن تتراكم في كل مكان طوال الوقت، فمن الممكن حتى تسير أسهم الزمن في اتجاهات مختلفة في أجزاء مختلفة من الكون.

بمعنى أبسط، قد لا يتغير الزمن على مستوى الكون ككل وفقًا للديناميكا الحرارية الكمّية، لأن الإنتروبيا الإجمالية ثابتة. لكن عند النظر إلى أجزاء صغيرة من الكون حيث تتغير الإنتروبيا، تبدأ تجربة الزمن في التغير وهو ما يعني أن الزمن قد يسير في اتجاهات مختلفة في أماكن مختلفة من الكون. ولهذا السبب فإن المحركات الحرارية الكمومية مثيرة جدا للاهتمام، ولا أستطيع الانتظار لاختبار محركي الكمي الحراري.

____________
* إضافة المترجم

هذه المادة مترجمة عن نيوساينتست ولا تعبر بالضرورة عن الجزيرة نت

شاركها.
Exit mobile version