في حين نعلم أن جنسنا البشري ظهر وعاش في أفريقيا منذ أكثر من حوالي 300 ألف عام، قبل أن ينتشر ليشغل جميع المناطق الأحيائية في العالم، من الصحاري إلى الغابات المطيرة الاستوائية الكثيفة، فإن العلماء لا يملكون حتى الآن صورة واضحة عن نوع البيئة الطبيعية التي عاش فيها البش.
في البحث عن إجابات، تُشكك دراسة جديدة أجراها فريق دولي من الباحثين في الأفكار السائدة حول صلاحية الغابات الاستوائية القديمة للسكن، وتشير إلى أن غرب أفريقيا ربما كان مركزا مهما لازدهار جنسنا البشري.
وفي الدراسة المنشورة في مجلة “نيتشر”، أظهر الباحثون أن الجماعات البشرية كانت تعيش بالفعل في الغابات المطيرة في أفريقيا قبل 150 ألف عام، أي قبل وقت أطول مما كان يُعتقد سابقا.
إعادة استكشاف الموقع
وفقا للفريق البحثي، لطالما أُهملت الغابات المطيرة كمكان لازدهار جنسنا البشري، فحتى وقت قريب، كانت الفكرة السائدة أن الإنسان العاقل استقر في السافانا بشكل أساسي، وكان يُعتقد أن المناطق الأحيائية وبيئات الغابات المطيرة الرطبة، بظروفها المناخية والبيئية القاسية، شكَّلت حواجز طبيعية أمام التوسع البشري، ولم تُسكن إلا في وقت متأخر جدا من تاريخ البشرية.
وللوقوف على مدى صحة هذه الاعتقادات، فحص الباحثون في دراستهم موقعا أثريا يُطلق عليه اسم “بيتي 1” في منطقة أنياما فيما يُعرف اليوم بجمهورية كوت ديفوار، بالقرب من الساحل الجنوبي لغرب أفريقيا. ويُعد هذا الموقع من المواقع القليلة في أفريقيا التي تتميز بتاريخ طويل من ترسب الطبقات الأرضية.
وتم التنقيب في هذا الموقع الأثري لأول مرة في ثمانينيات القرن الماضي من قِبل بعثة إيفوارية-سوفياتية مشتركة، برئاسة عالم الآثار البروفيسور فرانسوا يودي جيدي، من جامعة فيليكس هوفويت بوانيي في منطقة كوكودي بأبيدجان، والذي شارك أيضا في الدراسة الجديدة.
كشفت نتائج هذه الدراسة الأولية، التي نُشرت عام 2000، عن موقع ذي تسلسلات رسوبية عميقة يبلغ طولها حوالي 14 مترا، وتضم عدة طبقات تحتوي على أدوات حجرية محفوظة في منطقة تقع اليوم ضمن غابة مطيرة.
وعُثر في هذا الموقع على مجموعة أدوات حجرية تتكون من أكثر من 1500 قطعة، بما في ذلك معاول وأدوات أصغر مُعدّلة، خلال عمليات التنقيب التي استمرت حتى أوائل التسعينيات، لكنها فُقدت لاحقا خلال الحرب الأهلية الإيفوارية الثانية عام 2011. في ذلك الوقت، لم يتسن تحديد عمر هذه الأدوات بدقة ولا بيئة الموقع عند ترسبها فيه.
وأوضحت إليانور سكيري، الباحثة في معهد ماكس بلانك لعلم الإنسان الجيولوجي، والمؤلفة المشاركة بالدراسة، في بيان صحفي رسمي، أن العديد من نماذج المناخ الحديثة أشارت إلى أن المنطقة ربما كانت ملاذا للغابات المطيرة في الماضي أيضا، حتى خلال فترات الجفاف التي شهدت تجزئة الغابات (عملية تغير الغابات على مستوى المناظر الطبيعية)”.
وتضيف “كنا نعلم أن الموقع يُمثل أفضل فرصة ممكنة لنا لمعرفة إلى أي مدى امتدت مساكن الغابات المطيرة في الماضي البعيد”. لذلك، شرع فريق النظم القديمة البشرية في مهمة لإعادة استكشاف الموقع.

أقدم الأدلة
بعد 36 عاما، أعاد الباحثون استكشاف الموقع الأثري في غرب أفريقيا، وتبيّن أن عودتهم جاءت في الوقت المناسب، إذ دُمّرَ الموقع منذ ذلك الحين بسبب أنشطة التعدين خلال جائحة كورونا (كوفيد-19).
وحصل الباحثون على عينات من الرواسب التي عُثر فيها على الأدوات الحجرية، ودرسوها باستخدام مجموعة متنوعة من أحدث الأساليب التحليلية التي لم تكن متاحة قبل 30 إلى 40 عاما، للحصول على صورة أكثر دقة لعمر العينة ونوع البيئة التي كانت فيها أصلا.
ولتحديد تاريخ الرواسب، استخدم الباحثون عدة تقنيات للتأريخ، بما في ذلك التلألؤ المُحفَّز بصريا (تقنية لقياس جرعات الإشعاع المؤين، وتستخدم لتأريخ حبيبات الرمل)، والرنين المغزلي للإلكترون (طريقة لدراسة خواص مواد في ذرتها إلكترون منفرد).
باستخدام هاتين التقنيتين، كشف تحليل حبيبات الكوارتز من الطبقات التي استُعيدت منها الأدوات الحجرية أنها ترسبت في نقاط مختلفة من طبقات الرواسب منذ حوالي 150 ألف عام.
في الوقت نفسه، تم فحص عينات الرواسب التي تم جمعها في الموقع بشكل منفصل، بحثا عن حبوب اللقاح، وشمع الأوراق، وبقايا النباتات المتحجرة التي تُسمى “الحصوات النباتية”، والمعروفة باسم “الفيتوليثات”، وهي أحافير نباتية مجهرية تتكون من ترسب ثاني أكسيد السيليكا المائي غير المتبلور في الخلايا.
وأشارت هذه التحليلات مجتمعة إلى أن المنطقة كانت كثيفة الأشجار في زمن الاستيطان البشري القديم، وأن عينات حبوب لقاح وشمع أوراق الشجر تتوافق مع أنواع النباتات الموجودة في الغابات المطيرة الرطبة في غرب أفريقيا.
علاوة على ذلك، أظهرت المستويات المنخفضة من حبوب لقاح العشب المُكتشفة أن الموقع لم يكن يقع ضمن شريط ضيق من الغابات فحسب، بل كان يقع ضمن غابة كثيفة مليئة بالنباتات المهمة في هذا النوع من النظم البيئية، مثل نخيل الزيت.
وجاءت هذه المعلومات البيئية من عينات على طول التسلسلات الرسوبية، وفي المستوى نفسه الذي عُثر فيه على أعمق الأدوات، مما مكّن الباحثين من إرجاع تاريخ عيش البشر في الغابات المطيرة إلى 150 ألف عام، أي قبل 80 ألف عام من التاريخ المُكتشف في مواقع الغابات المطيرة الأخرى حول العالم.
وقبل الوصول إلى هذه النتائج، كان أقدم دليل قاطع على وجود البشر في هذه الغابات الاستوائية الرطبة في أفريقيا يعود إلى حوالي 18 ألف عام، على الرغم من وجود أدلة على انتشار واسع لتجمعات من العصر الحجري الأوسط في مناطق الغابات المطيرة الأفريقية الحالية.
وفي آسيا، يعود أقدم دليل على وجود البشر في بيئة الغابات المطيرة في سومطرة بإندونيسيا إلى ما يقرب من 70 ألف عام، وهذا يشير إلى أن البشر كانوا قادرين على العيش في الغابات المطيرة قبل مغادرتهم أفريقيا، موطن جنسنا البشري.
دحض ادعاءات الماضي
تُجادل الدراسة بأن الغابات المطيرة الاستوائية لم تكن عائقا أمام انتشار الإنسان الحديث، وتدعم نظرية أن النشاط البشري حدث عبر مجموعة متنوعة من الموائل والمناطق.
وتُظهر الأدلة المتقاربة أن التنوع البيئي يكمن في صميم الجنس البشري، وهذا يعكس تاريخا معقدا من التقسيم السكاني، حيث استطاعت مجموعات سكانية مختلفة العيش في بيئات مختلفة منذ مرحلة مبكرة من تاريخنا.
ويُبرز وقوع هذا الاكتشاف في غرب أفريقيا أهمية استكشاف مختلف المناطق الأفريقية للحصول على صورة أشمل لأقدم عصور ما قبل التاريخ البشري.
كما يفتح هذا الاكتشاف آفاقا جديدة من الأسئلة ليس فقط حول كيفية تأثير العيش في الغابات المطيرة على حياة أسلافنا القدماء، بل أيضا حول كيفية تأثير هذه التوسعات البشرية المبكرة على النباتات والحيوانات التي تشاركت معهم البيئات الطبيعية نفسها المحيطة بهم.
وإذا تعمقنا أكثر في غرب أفريقيا، نجد أن علماء الآثار اكتشفوا أيضا العديد من السلوكيات الثقافية المميزة في هذه المرحلة المبكرة من المنطقة.
فعلى سبيل المثال، في عام 2021، يُظهر موقع “رافين بلانك 1” الأثري في وادي فاليمي بالسنغال حِرَفا يعود تاريخها إلى حوالي 125 ألف عام، بأدوات حجرية تبدو مختلفة تماما عن تلك الموجودة في موقع “بارغني 1” على الساحل السنغال.
كما أنها تختلف عن تلك الموجودة في موقع “بارغني 3” في السنغال، والتي يعود تاريخها إلى 140 ألف عام، أي أقدم بقليل من “رافين بلانك”. وتختلف الثقافة المادية في هذه المواقع عما هو موجود في موقع “بيتي 1” الأبعد والأكثر اختلافا بيئيا.