مقدمة للترجمة

ما سبب تلك الفجوة الكبيرة بين التنبؤات النظرية والقياسات الفعلية لطاقة الفراغ؟ وهل يمكن للتجارب أن تساعدنا في إيجاد إجابة لهذا اللغز؟ ولم يعد بوزون هيغز أخف بمقدار 1000 تريليون مرة من توقعات العلماء؟ وما هو العدد الغامض للجسيمات في الكون؟ وما احتمالات أن يكون لك شبيه يمثل نسخة طبق الأصل منك في هذا الكون؟ زلم يهم أن نبحث عن احتمالات من هذا النوع؟ وماذا يحدث داخل الثقوب السوداء؟ وهل يقبع معنى اللانهاية هناك؟ في هذه المادة المترجمة من نيوساينتست يستخدم أستاذ الفيزياء البريطاني أنطونيو باديلا 5 أرقام ليسافر بنا إلى أعجب عوالم الفيزياء والكونيات، والأسئلة التي حيرت العلماء في هذه النطاقات.

نص الترجمة

قد يراودك شعور بأن أيامنا تحكمها أرقام قد تبدو عادية ومملة بعض الشيء، أرقام تخبرك بأنك ستتأخر عن العمل، أو ما مقدار الفائدة التي ستدفعها على رهنك العقاري، وكم سيكون عمرك عندما تسدده في النهاية. ومع ذلك قد تكون الأرقام أيضا مبهجة وتتجاوز تلك التفاصيل اليومية المملة.

وبصفتي عالما فلكيا، اهتديت إلى أن ثمة أعدادا قد تتركنا مشدوهين، بعضها صغير جدا إلى حد لا يوصَف، وبعضها الآخر كبير جدا لدرجة عصية على إدراكنا. وما قد يجمع هذه الأرقام هو قدرتها على إزاحة الستارعن كيفية عمل الكون، إضافة إلى أنها تمثل ألغازا عميقة لا زالت تحيِّر علماء الفيزياء إلى الآن. وفيما يلي سنناقش خمسة من أفضل هذه الأرقام.

¹²⁰⎻10 (طاقة الفراغ)

ولكي ندرك مدى صغر هذا الرقم، فلنتخيل أننا قلّصنا حجم شخص ما ليصبح بحجم بروتون، ثم كررنا هذه العملية ثماني مرات، في النهاية سيغدو حجم هذا الشخص أصغر بمقدار ¹²⁰⎻10 مقارنة بحجمه الأصلي. يُعد هذا الرقم صغيرا للغاية لدرجة أنه أصغر بكثير من “طول بلانك”، وهي وحدة أساسية في الفيزياء، حيث يبدأ مفهوم المسافة كما نعرفه في فقدان معناه وفقا للنظرية الكلاسيكية (بمعنى آخر، الطول يصبح غير قابل للتحديد أو الفهم بالطريقة التقليدية عند هذا المقياس).

نادرا ما نجد في الطبيعة نسبا أسية كبيرة جدا أو متناهية في الصغر، ولكن ما إن تظهر هذه النسب حتى يسعى علماء الفيزياء تلقائيا للبحث عن تفسير لها، إذ لا يتعلق هذا الرقم الصغير جدا ¹²⁰⎻10 بوجود بشر بهذا الحجم بالطبع مقارنة بحجم الإنسان العادي، بل يظهر عندما نقارن الملاحظات الكونية مع أفضل نظرياتنا عن الكون، وهي نظرية المجال الكمي. يظهر هذا الرقم عند التفكير في طاقة الفراغ، وهي الطاقة الموجودة في الفضاء الفارغ والقوة المتسببة في توسع الكون، وهذا يعني أن فهم هذه النسبة الضئيلة للغاية يمثل أحد أعظم الألغاز التي لم تُحَل في الفيزياء بعد.

إن كوننا يتوسع، والمسافة بين المجرات البعيدة تزداد (شترستوك)

إن كوننا يتوسع، والمسافة بين المجرات البعيدة تزداد. وتُفسَّر هذه الظاهرة عموما بأنها نتيجة للطاقة الكامنة في الفضاء الفارغ، والتي تُعرف بطاقة الفراغ، وهي الطاقة التي نحصل عليها من جسيمات افتراضية لا يمكن رصدها مباشرة مثل الإلكترونات والبروتونات في التجارب، بل هي فكرة تُستخدَم لتفسير المجالات الكمية المحيطة التي تؤثر على كل جسيم في الكون، بل وحتى على الفضاء نفسه. نحن نعلم أن هذه المجالات موجودة لأننا نرى تأثيراتها في التجارب العلمية. ومن المفترض أن هذه الحقول تضيف طاقة إلى الكون تُعرف بطاقة الفراغ.

تبدأ المشكلات في البزوغ عندما نحسب مقدار طاقة الفراغ. وفقا لنظرية الحقول الكمية، فإن كثافة طاقة الفراغ يجب أن تكون مهولة، فمثلا يمكن لكوب صغير من الفضاء الفارغ أن يحتوي على طاقة كافية لتدمير جميع الكواكب في الكون المرئي أكثر من تريليون تريليون تريليون تريليون مرة. لكن لحسن الحظ أن هذا السيناريو ليس الواقع الذي نعيشه، وهو ما يُعتبر شيئا إيجابيا يجب أن نكون ممتنين له.

فوجود هذا القدر الهائل من طاقة الفراغ سيُفضي إلى انحناء الكون بفعل الجاذبية بطريقة تدمّره تماما، إذ تشير القياسات الفعلية لتوسع الكون، والتي رصدتها التلسكوبات، إلى أن طاقة الفراغ أقل بمئات المرات من النسبة المتوقعة في نماذجنا النظرية. بمعنى آخر، تبلغ طاقة الفراغ الفعلية ¹²⁰⎻10 فقط من القيمة التي تتنبأ بها نظرية المجال الكمي.

ومن هنا يبزغ السؤال المهم: ما سبب تلك الفجوة الكبيرة بين التنبؤات النظرية والقياسات الفعلية لطاقة الفراغ؟ ثمة احتمالان للإجابة عن هذا التساؤل. يشير الاحتمال الأول إلى وجود خطأ في نظرية المجال الكمي، إلا أن هذا الاحتمال يبدو غير مرجح لأن نظرية المجال الكمي هي أكثر النظريات دقة في الفيزياء، وأُثبتت صحتها في العديد من التجارب العلمية.

أما الاحتمال الثاني فيشير إلى وجود شيء مفقود أو خلل ما في نظرية الجاذبية لألبرت أينشتاين. ففي نهاية المطاف، لا يمكننا الشعور بتأثير طاقة الفراغ الحقيقية إلا من خلال الجاذبية، لكن المشكلة تكمن في أن نظرية أينشتاين متماسكة للغاية، وأي تغيير كبير سيطرأ عليها قد يُفضي إلى موجة من عدم الاستقرار في الكون أو حدوث كوارث رياضية.

على الجانب الآخر، يشير بعض علماء الفيزياء إلى تفسير آخر مثير للجدل لشرح السبب وراء القيمة الصغيرة جدا لطاقة الفراغ، يتبنى بعضهم نظرية تنص على أن هذه القيمة الصغيرة لم توجد بالصدفة، بل هي ضرورية لتطور الحياة المعقدة.

تقترح نظرية هؤلاء العلماء وجود أكوان متعددة، وهي عبارة عن مجموعة شاسعة من الأكوان التي تختلف في الجسيمات والقوانين والخصائص الفيزيائية. وفي إطار هذا التصور، لا بد من وجود أكوان ذات طاقات فراغ مختلفة تماما، لكن في الوقت ذاته لا بد لكون واحد من هذه الأكوان على الأقل أن يكون شبيها لكوننا. ومع ذلك، تظل فكرة الأكوان المتعددة نظرية غير مكتملة، إذ لا يوجد حتى الآن نموذج رياضي متكامل في الفيزياء الأساسية يشرح هذا المفهوم بدقة.

هل يمكن للتجارب إذن أن تساعدنا في إيجاد إجابة للغز طاقة الفراغ؟ حتى الآن، كانت التجربة الوحيدة التي وفرت أدلة عن طاقة الفراغ هي التوسع المتسارع للكون الذي يُرصَد من خلال التلسكوبات ودراسة حركة المجرات. لكنني الآن أعمل حاليا مع زملائي في نوتنغهام بالمملكة المتحدة، ولندن، ولالكويلا بإيطاليا، على دراسة خصائص الجاذبية لطاقة الفراغ. وتشير الفكرة الأخيرة إلى دراسة طاقة الفراغ من خلال النجوم النيوترونية، التي تعد أكثر الأجسام كثافة في الكون. يُعتقَد أن كثافة النواة في هذه النجوم قد تكون عالية جدا لدرجة أنها قد تؤدي إلى تغيير في طاقة الفراغ. يمكن لهذا التغيير أن يترك أثرا على حجم وشكل النجم النيوتروني، وهو أمر يمكننا محاولة اكتشافه من خلال موجات الجاذبية، وهي تموجات في الزمكان اكتشفها العلماء لأول مرة لأول مرة عام 2015. والهدف من هذه الدراسات هو استكشاف بعض أكثر الأجسام غرابة في الكون لمحاولة فهم أحد أصغر الأرقام في الفيزياء.

(FILES) British physicist Peter Higgs, creator of the Higgs boson, poses for photographs next to a statue of Albert Einstein at the CosmoCaixa science museum in Barcelona, Spain, 06 November 2012. Two scientists have won the Nobel prize in physics for their work on the theory of the Higgs boson, it was announced 08 October 2013. Peter Higgs, from the UK, and Francois Englert from Belgium, shared the prize. EPA/TONI ALBIR *** Local Caption *** 50585100
الفيزيائي البريطاني بيتر هيغز الذي تنبأ بوجود بوزون هيغز (الأوروبية)

0.0000000000000001 (ما سبب خفة بوزون هيغز؟)

يُعتبر هذا الرقم ضخما بالنسبة للرقم السابق، ومع ذلك لا يزال صغيرا جدا بالنسبة إلينا. فمثلا، إذا قلّصنا حجم شخص ما إلى هذا المقدار، فسيصبح أصغر بمليون مرة من عرض الذرة، وأصغر بعشر مرات من البروتون. وشأنه شأن الرقم الأول، يعبِّر أيضا عن نسبة بين ما نرصده بالفعل وما تتنبأ به أفضل نظرياتنا. وفي هذه الحالة، يتعلق الأمر ببوزون هيغز.

عندما أُعلن عن اكتشاف هذا الجسيم في الرابع من يوليو/تموز 2012، اعتُبر إنجازا عظيما للنموذج القياسي لفيزياء الجسيمات، الذي يصف بدقة الرقص المجهري لكل المادة المرئية في كوننا. وكان جسيم هيغز هو القطعة الأخيرة المفقودة في “أحجية الجسيمات”، والتي تفسر سبب امتلاك الجسيمات الأساسية، بما في ذلك بوزون هيغز، للكتلة. ومع ذلك، ثمة خطأ ما يتعلّق ببعض القيم المرتبطة بهذا الاكتشاف، وخاصة كتلة بوزون هيغز نفسه.

مثل جميع الجسيمات، تتأثر كتلة بوزون هيغز بالمجالات الكمية المحيطة التي ذكرناها سلفا. تنتشر هذه الحقول في كل مكان في الفضاء، وتبدو أشبه بالسائل الكمومي الذي يحيط بالجسيم ولا يمكن الهروب منه أبدا. يسحب هذا السائل بوزون هيغز؛ ما يسبب مقاومة يتمخض عنها زيادة في كتلة الجسيم. عندما نحاول حساب كتلة بوزون هيغز، سنكتشف وفقا للحسابات النظرية أن كتلته تزن بضعة ميكروجرامات، وهو نفس وزن حشرة صغيرة تُعرف باسم الدبابير الخرافية. إلا أن المفارقة العجيبة ظهرت عندما قاس العلماء كتلة بوزون هيغز مرارا وتكرارا، واكتشفوا أنها أخف بمقدار 1000 تريليون مرة من توقعاتهم النظرية. بعبارة أخرى، تساوي كتلة هيغز الفعلية نحو 0.00000000000000001 مرة من الكتلة التي تنبأت بها الحسابات النظرية.

تُعتبر كتلة جسيم هيغز المتناهية في الصغر تلك مصدر قلق لعلماء فيزياء الجسيمات. وقد دفع هذا التناقض بين الكتلة المتوقعة والكتلة الفعلية العلماء إلى اقتراح تفسيرات محتملة لهذا التناقض: أولها الأبعاد الإضافية (قد يكون وجود أبعاد إضافية في الكون غير الأبعاد الأربعة المعروفة: الطول والعرض والارتفاع والزمن، له تأثير على خصائص الجسيمات؛ ما يفسِّر الكتلة الصغيرة*).

أما التفسير الثاني فهو مضاعفة عدد الجسيمات في بعض النظريات، الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى تغييرات جذرية في طبيعة “السائل الكمي المحيط” مع زيادة الطاقة. أما التفسير الثالث فهو تفكيك بوزون هيغز إلى أجزاء أصغر. وعند هذه المستويات المجهرية، تتفاعل هذه الجسيمات الصغيرة مع الحقول الكمية المحيطة بطرق مختلفة تماما.

لم تقدِّم التجارب التي أُجريت حتى الآن في مركز الأبحاث الفيزيائية سيرن (CERN)، الذي يقع بالقرب من جنيف بسويسرا، أي دليل يدعم التفسيرات المطروحة سابقا لحل لغز الكتلة الصغيرة جدا لبوزون هيغز. ومع ذلك، يوجد تقدم جديد، فقد عاد مصادم الهدرونات الكبير LHC للعمل في دورته الثالثة بعد توقف دام ثلاث سنوات. ومن المفترض أنه خلال هذه الدورة الجديدة سيبدأ العلماء بدراسة تصادمات الجسيمات بطاقة أعلى ودقة أكبر من أي وقت مضى، وهو ما يعني تقديم أدلة تدعم إحدى الفرضيات المطروحة، وقد تؤدي إلى فهم السبب وراء الطبيعة الخفيفة وغير المتوقعة لجسيم هيغز.

10⁸⁰ (العدد الغامض للجسيمات في الكون)

والآن حان دور الرقم الثالث، وهو10⁸⁰، الذي يُعتبر ضخما بكل المقاييس، فإذا رغبت في تضخيم حجم إنسان بهذا المقدار، فسيصبح حجمه أكبر بـ10 مليار مليار مليار مليار مليار مرة من حجم الكون المرئي.

والواقع أن 10⁸⁰ هو عدد الجسيمات العادية الموجودة في هذا الكون المرئي، لذا من الطبيعي أن نفترض أن أن يكون هذا العدد ضخما. ولكن ما لا يبدو منطقيا بالنسبة لي، بصفتي عالم فيزياء، هو سبب وجود أي جسيمات في الكون أساسا (فبعد الانفجار العظيم، كان من المفترض أن تفنى المادة تماما بسبب وجود المادة ونقيضها المادة المضادة. ومع ذلك، بقيت المادة، ولا يزال سبب هذا الأمر غامضا*).

ينطوي كوننا على نحو 5% من المادة العادية التي تشكّلني وتُشَكلك وتشكّل جميع الأشياء التي نستطيع أن نراها مثل النجوم والمجرات، ولكنه يحتوي أيضا على المادة المضادة التي تُعتبر نادرة للحد الذي يجعلها عموما أغلى مادة في الكون، إذ تُقَدّر تكلفة إنتاجها بأكثر من 60 تريليون دولار للجرام الواحد باستخدام المصادمات الجسيمية.

والمادة المضادة هي نسخة معكوسة من المادة تشبه المادة العادية ولكنها مختلفة في الخصائص. والواقع أنك إذا أردت تحويل جسيم عادي إلى جسيم مضاد له، فستضطر إلى أن تعكسه في جميع الاتجاهات في الفضاء، بالإضافة إلى عكس شحنته الكهربائية. ويُعرَف هذا التحول الافتراضي باسم “انعكاس التكافؤ في الشحنة”، إذ يحوّل إلكترونا سالبا إلى بوزيترون موجب (الجسيم المضاد له).

ووفقا للنموذج القياسي لفيزياء الجسيمات، فإن هذه الانعكاسات هي ما يُعرف بالتناظر (وهي خاصية أساسية في الطبيعة تشير إلى التوازن بين المادة والمادة المضادة*). ولكن عندما تلتقي المادة بالمادة المضادة، تفنى المادتان. وإذا كانت الكميات متساوية حقا، فإن الكون بأسره كان من المفترض له أن يتحول إلى مجرد حمام من الإشعاعات المضجرة دون أي جسيمات مادية. ومع ذلك، وجودنا اليوم كدليل على وجود المادة في الكون يعني أن هذا الفناء الكامل لم يحدث، ولا يزال السبب عصيا على التفسير.

إن أحد الخيارات هو أن المادة المضادة المفقودة موجودة في مكان ما في الكون بعيدة عن متناولنا، ولكن إذا كان هذا صحيحا، فمن المفترض أن نلاحظ دليلا على وجودها مثل أشعة غاما الناتجة عن تفاعل المادة المضادة مع المادة العادية، ولكننا في الحقيقة لا نرى أي إشارات توحي بذلك في الكون المرصود، وهو ما يقود العلماء إلى استنتاج أن هناك حاجة إلى آلية أو عملية تكسر التناظرات التي تربط بين المادة والمادة المضادة، ولحل هذه المشكلة نحتاج إلى توسيع النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات.

الخبر السار هو أنه يمكن حل لغز هيمنة المادة على المادة المضادة في الكون من خلال التجارب العلمية الحديثة، بدءا من تصادم الجسيمات في مصادم الهدرونات الكبير، وصولا إلى رصد موجات الجاذبية. كما أن إحدى الأفكار المثيرة للاهتمام التي يختبرها العلماء حاليا هي تفكيك بوزون هيغز “أجزاء أصغر”، وهذا من شأنه أن يسمح بتكوين جسيمات جديدة تكسر التماثل بين المادة والمادة المضادة، والتي يمكن اكتشاف تفاعلاتها مع الجسيمات الأساسية الأخرى في الدورة الثالثة من مصادم الهدرونات الكبير.

ربما لعبت الجسيمات الجديدة التي يُفترض وجودها دورا حاسما في كيفية بدء بوزون هيغز في توزيع الكتلة على الجسيمات الأخرى في المرحلة المبكرة من الكون المعروفة باسم الحساء البدائي التي حدثت بعد الانفجار العظيم، ربما أثرت هذه الجسيمات على التوازن بين المادة والمادة المضادة؛ ما ساعد على منع حدوث فناء كامل بينهما.

ويُعتقد أن هذه التغيرات تركت بصمة على خلفية موجات الجاذبية القديمة، والتي تحمل معلومات عن العمليات التي وقعت في الكون البدائي، تماما كما يحمل إشعاع الخلفية الكونية الميكروي أثر الانفجار العظيم. يأمل العلماء أن يتمكنوا من اكتشاف هذه الخلفية باستخدام أدوات مستقبلية مثل هوائي مقياس التداخل الليزري الفضائي (ليزا)، وهو مشروع يُتوقع إطلاقه في ثلاثينات القرن الحالي. وإذا رُصدتْ هذه الموجات، فقد تُقدِّم أدلة ثمينة حول كيفية نشوء المادة العادية التي نراها اليوم، ولماذا تمكنت من تجنب الفناء.

نتحدث عن وجود نسخة منك بالملامح ذاتها وربما حتى الأفكار نفسها في نفس الكون الذي نقطنه (غيتي)

10¹⁰⁶⁸ هل لك شبيه آخر في الكون؟

الرقم التالي هو رقم ضخم للغاية لدرجة يصعب تصور حجمه أو مقارنته بأي أرقام أخرى. هذا الرقم هو 10¹⁰⁶⁸، إذ يُكتب 1 متبوعا بعدد هائل من الأصفار، يبلغ نحو 100 مليون تريليون تريليون تريليون تريليون تريليون صفر. وهو رقم أطلقتُ عليه اسم “النسخة المماثلة” أو “الشبيه التوأم”، لأنه يتعلق باحتمالية وجود شخص آخر مثلك تماما، أو شبيه لك في مكان آخر في كوننا.

إننا هنا لا نتحدث عن شبيه لكَ في أكوان أخرى موازية كما تتصور ميكانيكا الكم، أو أي نظرية أخرى من نظريات الأكوان المتعددة، بل نتحدث عن وجود نسخة منك بالملامح ذاتها وربما حتى الأفكار نفسها في نفس الكون الذي نقطنه، وهي فكرة تعود إلى الفيزيائي ماكس تيغمارك من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.

قد تبدو الفكرة عبثية، إلا أنها تستند إلى الاحتمالات. يتلخص الأمر في أنه من الممكن نظريا وجود منطقة أخرى في الكون، بنفس حجم المنطقة التي تشغلها الآن، وفي نفس الحالة الكمومية تماما. وتمثل هذه الحالة الكمومية الترتيب الدقيق لكل الجسيمات التي تُشكل جسمك وكل ما يحيط بك. الحقيقة هي أن هناك عددا محدودا فقط من الحالات الكمومية التي يمكن أن تصف المساحة التي تحتلها في الكون، ولحساب عدد هذه الحالات، يتعين علينا نحن علماء الكونيات أن نستعين بأحد أكثر الأشياء المذهلة التي تعلمناها عن الجاذبية في الأعوام الثلاثين الماضية، وهي قدرة الجاذبية على التصرف مثل الهولوغرام، بمعنى أن المعلومات الكمومية لا تُخزَّن داخل الفضاء، بل على السطح ثنائي الأبعاد المحيط به.

ولحساب الحالات الكمومية، يتعين عليك أن تتخيل السطح الذي يحيط بك، ثم تقسمه إلى أصغر “كتل بناء” ممكنة بحجم طول بلانك، ثم تحسب جميع الأنماط الممكنة التي يمكن تشكيلها من هذه الكتل. وعند جمع هذه الأنماط المختلفة، ستحصل على رقم ضخم للغاية وهو 10¹⁰⁶⁸، الذي يعبّر عن احتمالية وجود نسخة مماثلة لك في مكان آخر في الكون. إن كل شيء في الكون، سواء كنت أنت أو أنا أو حتى بقرة أو متر مكعب من الفضاء الفارغ، هو جزء من عدد هائل من الاحتمالات الكمومية الممكنة. صحيح أن احتمالات وجود نسخة منك في مكان آخر في الكون ضئيلة جدا في أي متر مكعب من الفضاء، لكن يختلف الأمر إذا كان الكون كبيرا بما يكفي، لأنه حينها ستكون الفرص أكبر في إيجاد شبيه لك. وبما أن الكون واسع جدا بالفعل، فقد توجد نسخة منك في مكان آخر لأن هناك عددا هائلا من الاحتمالات الكمومية التي قد تتكرر في أماكن مختلفة.

إذن هل يمكن للكون أن يكون كبيرا بما يكفي؟ يمتد حجم الكون المرصود إلى حوالي 47 مليار سنة ضوئية، ولكن القياسات التي أُجريت على الإشعاع المتبقي من الانفجار الكبير (إشعاع الخلفية الكونية الميكروي) تشير إلى أن الكون الفعلي أكبر من هذا بحوالي 250 مرة.

كما تكشف هذه القياسات عن أن منطقتنا من الكون خضعت لاندفاع من التوسع المتسارع في وقت مبكر جدا؛ ما ساعدها على النمو بصورة سريعة جدا في فترة زمنية قصيرة جدا. ويمكن لهذه العملية أن تتكرر في أي مكان في الكون وفي أي لحظة؛ ما يحول مناطق صغيرة من الفضاء إلى مناطق غاية في الضخامة.

وهذا يسمح لنا بتخيل عوالم شديدة البعد إلى الحد الذي لا يمكن فيه أن تطأها قدمنا يوما ما أو نسبر أغوارها، ولكنها جزء من نفس الكون الذي نعيش فيه. وبفضل التضخم الكوني المستمر الذي يتسبب في تمدد الكون في كل لحظة في مكان ما، تصبح فكرة وجود كون ضخم أكثر منطقية. وفي حالة كان الكون كبيرا بما يكفي، ستجد نسخة شبيهة لك قد تكون موجودة في مكان بعيد، تقرأ الآن مقالا عن أرقاما مدهشة تكشف خبايا الكون، تماما كما تفعل أنت الآن.

في الفيزياء، فإن اللانهايات تشير إلى الحدود التي نصل إليها في معرفتنا (مرصد أفق الحدث).

اللانهاية (ماذا يحدث داخل الثقوب السوداء؟)

العدد التالي هو العدد الأكبر على الإطلاق، العدد المُقدّر له أن يستمر إلى الأبد. في الرياضيات، توجد العديد من اللانهائيات. ففي الوقت الذي توجد فيه لا نهايات تخص الأعداد الصحيحة، هناك لا نهايات أكبر تتعلق بمجموعة الأعداد الحقيقية التي تقع بين 0 و1.

أما في الفيزياء، فإن اللانهايات تشير إلى الحدود التي نصل إليها في معرفتنا، فإذا ما غامرنا بالغوص في أعمق أجزاء الثقب الأسود على سبيل المثال، أو عدنا إلى لحظة ولادة الكون، فإننا نواجه ما نسميه بـ”نقطة التفرد” أو “المتفردة”، وهي المنطقة التي يصبح فيها مجال الجاذبية لانهائيا.

وفي نظرية النسبية العامة لألبرت أينشتاين، يُشار إلى الجاذبية على أنها تشوه الزمكان، حيث تتبع الكواكب مسارات منحنية في الزمكان المشوه حول الشمس لأنها الطريقة الأكثر كفاءة، بمعنى أنها المسارات التي تتبعها الكواكب بصورة طبيعية بسبب التشوه الناتج عن الجاذبية، وتُعتبر هذه المسارات هي الأكثر “منطقية” أو “طبيعية” (من حيث إن الكواكب لا تحتاج إلى قوة إضافية لدفعها في تلك المسارات، بل تسير ببساطة وفقا للانحناء الذي يفرضه الفضاء*). لكن عند نقطة التفرد، يتضخم هذا التشويه في الزمكان إلى ما لا نهاية؛ ما يعني أن قانون أينشتاين لم يعد قادرا على وصف ما يحدث.

ولكي نفهم هذه المتفردات، فإننا بحاجة إلى نظرية قادرة على وصف أقوى وأعنف مجالات الجاذبية، وكل المادة التي تتفاعل معها. بمعنى آخر، إننا بحاجة إلى نظرية تفسِّر جميع جوانب الكون. في رأيي، فإن نظرية الأوتار هي المرشح الأكثر إقناعا لتفسير الظواهر الفيزيائية المتعلِّقة بالمتفردات، وهذا لأنها تقدم تفسيرا للكون يتعامل مع جميع الجسيمات على أنها مكونة من كيانات دقيقة تهتز وتُعرَف بالأوتار أحادية البُعد.

وعلى عكس بعض النظريات المنافسة، يمكن من خلال نظرية الأوتار إجراء حسابات موثوقة، وتخليص المعادلات من اللانهايات التي تظهر في بعض النظريات الأخرى. والانتقال من الجسيمات إلى الأوتار يعني أننا لم نعد بحاجة إلى القلق بشأن تفاعل الجسيمات مع بعضها بعضا عبر مسافات صغيرة للغاية.

كانت المسافات الصغيرة جدا هي السبب وراء اللانهايات التي تسببت في عدم إكمال المعادلات الفيزيائية في بعض النظريات، ولكن في نظرية الأوتار يمكن للعلماء التخلص من هذه اللانهايات؛ ما يجعل المعادلات قابلة للحل. وعلى الرغم من أننا لا نعرف بعد كيفية تطبيق هذه النظرية لحل مشكلات المتفردات في مركز الثقوب السوداء أو لحظة ولادة الكون، فإننا بمجرد أن نتمكن من إيجاد طريقة رياضية لفهم هذه الظواهر، سنكون قادرين على فهم كيف نشأ الكون نفسه.

هذه المادة مترجمة عن نيوساينتست ولا تعبر بالضرورة عن الجزيرة نت

شاركها.
Exit mobile version