أعلنت اليونسكو عام 2025 سنة دولية للعلوم والتكنولوجيا الكمية، احتفاء بعلم غيّر فهمنا للكون وفتح آفاقا جديدة للتطور التكنولوجي. إنها فيزياء الكم، فيزياء الأشياء متناهية الصغر مثل الذرات والجسيمات، عالم مواز لعالمنا تحكمه قوانين غريبة ومختلفة جذريا عن تلك التي تتحكم في الأجسام الكبيرة من حولنا.
لم تعد الفيزياء الكمية التي نشأت في بداية القرن الماضي، مجرد نظرية علمية فحسب، بل أصبحت أساس أهم التطبيقات التي نستخدمها في حياتنا اليومية. لكن لكي نفهم أهمية الفيزياء الكمية والثورة التي أحدثتها في التقنيات التي نستخدمها اليوم، يتعين أولا فهم أهم القوانين التي ينبني عليها هذا العلم والظروف التي أدت لنشأتها.
على خطى بلانك
يقول الدكتور عادل الطرابلسي أستاذ الفيزياء الكمية في كلية العلوم بتونس في حوار خاص مع الجزيرة نت، إن الفيزياء الكمية نشأت في بداية القرن الـ20. في تلك الفترة بدت بعض المسائل مثل تبادل الطاقة بين الأجسام غير قابلة للتفسير بواسطة الفيزياء الكلاسيكية. وكان لا بد من البحث عن حلول مبتكرة خارج النظريات العلمية التقليدية التي وضعها علماء كبار في تاريخ العلوم مثل نيوتن وغاليلي وماكسوال وغيرهم، ولم يكن ذلك بالأمر الهين.
ويضيف الطرابلسي أن عالم الفيزياء الألماني ماكس بلانك كان أول من أدرك أن طاقة الموجات الضوئية تتكون، عكس التصور التقليدي، من حزم متناهية الصغر من الطاقة غير المتصلة سماها “الكوانتا”.
وتمثل هذه الفكرة الأساس الذي انبنت عليه الفيزياء الجديدة. بعد ذلك قام العديد من العلماء بتطوير نظرية كان أولهم عالم الفيزياء الشهير ألبرت أينشتاين الذي اعتبر أن حزم الطاقة التي تحدث عنها بلاك هي في الحقيقة ليست كمية طاقة بل هي جسيمات فوتون. ثم قام مجموعة من العلماء من بينهم النمساوي أروين شرودنغر والألماني فيرنر هايزنبرغ والإنجليزي بول ديراك الذين قدموا إسهامات جوهرية لوضع أسس فيزياء الكم.
خصائص غريبة
تتميز هذه الفيزياء بقوانين أو خصائص تجعل الجسيمات متناهية الصغر مثل الفوتون والإلكترون، تتصرف بطريقة عجيبة. وفق الطرابلسي، يمكن لجسيم في هذا العالم المجهري أن يكون في حالتين متناقضتين مثل أن يكون ساكنا ومتحركا في الوقت نفسه أو يدور من اليمين إلى الشمال ومن الشمال إلى اليمين في وقت واحد.
كما يمكن لعنصرين أن يترابطا بشكل وثيق بينما يفصل بينهما الكون، فإذا تعرض أحدهما لتأثير خارجي تجاوب الثاني مع هذا التأثير بمثل طريقة الأول حتى وإن كانت تفصلهما مسافة كبيرة كما تقول الدكتورة سهام الجزيري أستاذة الفيزياء الكمية بكلية العلوم بتونس في حوار مع الجزيرة نت.
وحسب مبادئ فيزياء الكم فإن الجسيمات المادية، مثل الإلكترونات، تُظهر خصائص موجية إضافة لخصائصها كجسيم مادي، مما يعني أنها يمكن أن تتصرف كموجة وتتداخل وتؤثر على بعضها البعض كما تفعل الأمواج.
كما يحدث أن يتفاعل جسيمان بطريقة تجعل حالة أحدهما مرتبطة بحالة الأخرى، ويكونا في حالة تشابك، بغض النظر عن المسافة الفاصلة بينهما. وإذا تم قياس حالة أحد الجسيمات، فإن الجسيم الآخر يتأثر على الفور، وهو ما يتحدى فهمنا التقليدي للزمان والمكان.
ويمكن لهذه الجسيمات أيضا أن تتجاوز حواجز طاقية تبدو مستحيلة، فيما يطلق عليه العلماء اسم “تأثير النفق” وهو ما يفسر ظواهر مثل النشاط الإشعاعي.
الإلكترونيات الدقيقة والحواسيب
هذه الخصائص الغريبة، كانت وراء العديد من التطبيقات التقنية الأساسية في حياتنا اليوم مثل الحواسيب والإلكترونيات الدقيقة التي تقوم على الترانزستور.
والترانزستور هو أول جهاز تطبيقي كمي يستعمل خصائص الكمية للإلكترونات داخل المادة كما تقول الدكتورة سهام الجزيري أستاذة الفيزياء الكمية في كلية العلوم بتونس.
تعتمد الترانزستورت على مبادئ ميكانيكا الكم، وتحديدا على حركة الإلكترونات داخل المواد شبه الموصلة وفق خاصية “تأثير النفق” التي تسمح للإلكترون بالدخول والخروج دون تعديل مجموعة الذرات المكونة للترانزستور.
وتتحكم هذه الترانزستورات في تدفق التيار الكهربائي، مما يسمح بتمثيل البيانات ومعالجتها. وبدون الترانزستورات، لم يكن من الممكن لجميع الأجهزة الإلكترونية من حولنا مثل الهواتف وأجهزة التلفاز والحواسيب أن توجد.
أشعة الليزر
الليزر هو شعاع ضوء اصطناعي تم تطويره من قبل علماء الفيزياء من خلال تطبيق قوانين الكم، ويعتمد على مبدأ الانبعاث المحفز للإشعاع، وهو ظاهرة كمية تقوم خلالها فوتونات ذات طاقة محددة بتحفيز ذرات لإطلاق فوتونات أخرى بنفس الطاقة والطور والاتجاه، مما ينتج عنه شعاع ضوء متسق وعالي الكثافة.
وتشمل تطبيقات الليزر مجالات واسعة، من قراءة الأقراص الضوئية والاتصالات عبر الألياف الضوئية إلى الجراحة الدقيقة وحتى الأبحاث العلمية المتقدمة.
تقول الدكتورة الجزيري إن الليزر، يمثل مع الترنزستور أبرز أسس الثورة الكمية الأولى التي انطلقت منذ أواسط القرن الماضي.
التصوير بالرنين المغناطيسي
عند درجات حرارة منخفضة للغاية، لا تتصرف الإلكترونات كجسيمات منفصلة داخل شبكة الذرات، بل تتحول إلى موجات عملاقة طبقا لقانون الموصلية الفائقة. وبفضل هذه الظاهرة الكمومية، يمكن للعلماء إنشاء حقول مغناطيسية كبيرة تشكل أساس تقنية التصوير بالرنين المغناطيسي.
تتسبب هذه الموجات في اهتزاز نوى الهيدروجين (البروتونات) الموجودة في جميع الأنسجة الحية. وبما أن كل عضو يحتوي على كمية معينة من الهيدروجين ويكتسب بالتالي ترددا موجيا خاصا به (زنين طاقي)، يمكن إنتاج صورة ثلاثية الأبعاد للأنسجة الداخلية للجسم.
أنظمة تحديد المواقع
تم إطلاق أول نظام عالمي لتحديد المواقع في عام 1978، وتستخدم اليوم هذه الأنظمة التي تعتمد على ميكانيكا الكم، على نطاق واسع في الهواتف الذكية وأنظمة الملاحة في السيارات، والمعدات العسكرية والعديد من التطبيقات الأخرى.
وتعمل أنظمة تحديد المواقع العالمية، مثل نظام “جي بي إس”، وفق الجزيري، باستخدام الساعات الذرية المضمنة في الأقمار الصناعية التي تدور حول الأرض. وعلى عكس ساعة البندول التي تعتمد على حركة البندول وتتأثر بالعديد من المتغيرات، فإن دقة الساعة الذرية تعتمد على الذرات عنصر السيزيوم المعروفة بثبات ترددها.
الحوسبة الكمومية ستقود الثورة الكمية الثانية
الحوسبة الكمومية هي تقنية ناشئة تستخدم مبادئ ميكانيكا الكم لمعالجة المعلومات بطرق جديدة. على عكس أجهزة الكمبيوتر التقليدية، التي تستخدم البتات كأصغر وحدة للمعلومات، تستخدم أجهزة الكمبيوتر الكمومية البتات الكمومية.
ويشرح الدكتور عادل الطرابلسي الفرق بين الحوسبة الكمية والتقليدية بقوله “في الحاسوب الكلاسيكي، يمكن للعمليات التي يتم إجراؤها بالبتات أن تكون لها قيمتان أو حالتان فقط هما صفر أو واحد. أما في الحاسوب الكمومي، فيمكن أن تكون البتات في الحالتين في الوقت نفسه (تراكب الحالات)، وتُسمى هذه الوحدات بالبتات الكمومية أو كيوبتات. كما يمكن أيضا ربط الجسيمات كميا بشكل وثيق مع بعضها البعض بفضل خاصية التشابك”.
وأضاف المتحدث أن تطبيق هذين المبدأين يضاعف الاحتمالات الممكنة، وكأننا نقوم بعدة حسابات متوازية في الوقت نفسه. وهذا ما يسمح لحاسوب الكمومي بإجراء حسابات معقدة بشكل أسرع بكثير من الحواسيب الحالية، حيث إن العمليات التي تستغرق الحوسبة الكلاسيكية مئات السنين لحلها، قد لا تأخذ سوى ثوان قليلة في الحوسبة الكمية.
يجري حاليا تنافس كبير بين الباحثين لتطوير الحوسبة الكمية وقد بدأت تطبيقاتها تنتشر بالفعل، وفق الدكتورة سهام الجزيري مضيفة أنها في طور إحداث ثورة كمية ثانية.
منذ أن وضع ماكس بلانك حجر الأساس قبل أكثر من قرن، تحولت الفيزياء الكمية من نظرية غامضة إلى قوة تكنولوجية تغير حياتنا. سواء كنت تتصفح هاتفك، أو تسخن طعامك في الميكروويف، أو تتابع موقعك على الخريطة، فإن الكم موجود حولك. وبينما نحتفل بهذا العلم في 2025، يبدو أننا على مشارف حدوث طفرة تكنولوجية جديدة ستجعل المستحيل حقيقة، وكل ذلك بفضل عالم الجسيمات الصغيرة الذي تحكمه قوانين فيزياء الكم الغريبة.