لا يتعلق فهم طبيعة الاقتصاد التركي بالحقائق والأرقام فحسب، بل يتعلق أيضاً بفهم تاريخ تركيا ومسارها نحو الحداثة.

يميل الأتراك، بطبيعتهم، إلى الفخر الشديد بتاريخهم وانتمائهم، وبالتالي فإن المساس بهذه القيم لمواكبة التطور الاقتصادي يعتبر أمراً صعباً، لذلك تزداد صعوبة التحديث الاقتصادي في تركيا، لا سيما أن عملية «التحديث» نفسها تمثل اعترافاً من الأتراك بتفوق العالم الغربي، وهو ليس بالأمر الهين بسبب اعتزازهم بكرامتهم الموروثة من الإمبراطورية العثمانية.

ومع ذلك، يتعين على تركيا أن تتكيف مع التحديث الاقتصادي، لأنه في الماضي لم يكن لديها ما يكفي من رأس المال والتكنولوجيا ورأس المال البشري وما إلى ذلك.

فعند البدء في تنفيذ جوانب التحديث، شهدت الحياة الاقتصادية والسياسية في تركيا تقلباً نتيجة المفاضلة المستمرة بين إرث الكرامة وما يتعين القيام به.

واليوم، في ظل سيطرة حزب واحد على زمام الحكم في تركيا، وهو حزب العدالة والتنمية، اتخذ هذا النموذج من التحديث شكلاً جديداً، وطور نهجاً فريداً بعيداً عن الغرب.

أصبحت تركيا في عام 1951، العضو الثالث عشر في حلف شمال الأطلسي «الناتو»، ثم في عام 1961 أصبحت تركيا واحدة من 20 عضواً مؤسساً لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. بعد ذلك بعامين، في عام 1963، وقعت تركيا اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي، وفي عام 1999 رُشحت لنيل عضوية الاتحاد.

وفي كل ما سبق، كانت تركيا هي الدولة الوحيدة ذات الأغلبية المسلمة (باستثناء ألبانيا التي أصبحت عضواً في حلف الأطلسي في عام 2009).

سببت تلك الخطوات ارتباكاً بين الأتراك حول الجهة التي ينتمون إليها؛ «شرقاً أم غرباً»؟

لذلك، فإن المجتمع اليوم في حد ذاته منقسم بين من يريدون التطوير الاقتصادي بمنظور غربي وشرقي وأولئك الذين يرغبون في عدم الخضوع للتحديث.

الاقتصاد التركي في أرقام

تُظهر البيانات التالية معدلات التنمية الاقتصادية خلال السنوات الإحدى والعشرين الماضية، في ظل حكم حزب العدالة والتنمية (ومن المهم ملاحظة أن مصطلح «التنمية» يعني التحديث)، من خلال مقارنتها بمعدلات التنمية في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.

ارتفع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي لتركيا فوق متوسط معدل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، لكنه لا يزال متدنياً.

زادت «القيمة المضافة للتصنيع»، بينما انخفضت «القيمة المضافة للخدمات».

ولكن في كليهما، جاءت القيمة المضافة من الكم أو حجم الاقتصاد أكثر من الجودة.

زاد الاقتراض من القطاع الخاص بسبب عدم وجود آليات تمويل محلية كافية.

وفي حين انخفضت النفقات الصحية والعسكرية الحكومية مع جهود التوطين، فقد زادت في التعليم، وأسهم كل هذا في وضع تركيا في المرتبة الثلاثين من بين 33 عضواً في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية من حيث نسبة الإنفاق الحكومي إلى الناتج المحلي الإجمالي.

وعلى الرغم من أن عدد براءات الاختراع ونفقات البحث والتطوير زاد بمعدل مرتفع للغاية، فقد ظل أقل بكثير من المتوسط.

كما نما «الناتج المحلي الإجمالي لساعة العمل» بشكل أسرع بكثير، وشهدت الإنتاجية الاقتصادية تباطؤاً كبيراً.

وبينما ينمو السكان بشكل أسرع من المتوسط، فقد زادت نسبة الشيخوخة مع انخفاض معدل الخصوبة.

صادرات السلع زادت بوتيرة أسرع من المتوسط، بينما نمت الواردات بشكل أسرع بكثير، وأدى ذلك إلى ارتفاع العجز في الميزان التجاري، فيما يرجع بشكل أساسي إلى زيادة واردات السلع الوسيطة، بينما زاد تصنيع الآلات وتصديرها.

وزادت الصادرات والواردات في القطاع الخدمي فوق متوسط معدلات منظمة التعاون والتنمية، ولكن فائض الخدمات زاد أقل من المتوسط نتيجة التركيز على الخدمات ذات القيمة المضافة المنخفضة مثل السياحة والخدمات اللوجستية.

كما نمت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر في الأسهم ومنها بوتيرة أسرع بكثير، ولكنها لا تزال في مستوى أقل بكثير من متوسط منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية من حيث القيمة التي بلغت 14 في المئة وسبعة في المئة على الترتيب.

وكتغيير كبير في الاقتصاد، زاد تخارج الاستثمار الأجنبي من الأسهم بشكل أكبر من تدفقاته عليها.

زاد تواصل السكان الأتراك مع العالم، ولكن كما يتضح من نسبة السكان المولودين في الخارج (16 في المئة فقط من المتوسط)، والسكان الذين يعيشون في الخارج (54 في المئة فقط من المتوسط)، ودرجة إجادة اللغة الإنجليزية (المرتبة الـ22 من أصل 24 دولة في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية غير ناطقة بالإنجليزية) لا تزال بعيدة عن المتوسط.

كان كل من مؤشر أسعار المستهلكين ومؤشر أسعار المنتجين أعلى بكثير من المتوسط، لكنهما تراجعا إلى مستويات أقل.

وانعكست معدلات التضخم على مؤشرات تكاليف شراء وإيجار المساكن، التي كانت أعلى بكثير من المتوسط، وفي تدهور توزيع الدخل.

وعلى الرغم من التحسن في الناتج المحلي الإجمالي ونصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، اعتبر السبب الرئيسي لذلك هو نقص التمويل (وخاصة المحلي) للاستثمارات الجديدة.

التحديث.. من وكيف؟

من المؤكد أن تركيا تطورت بشكل أسرع مما كانت عليه قبل عام 2002 وأنها تقترب من متوسطات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.

لكن على الصعيد الآخر، يبدو أن هناك مشكلات مثل الافتقار إلى التمويل الفعال، وتدني جودة ومعايير التصنيع (التي تستند إلى الحجم وليس الجودة)، وعدم اليقين في تفضيلات التوطين والعولمة، والحاجة إلى الجودة في رأس المال البشري والتعليم.

ومع ذلك، فمن المعروف أن التحول من اقتصاد نامٍ إلى اقتصاد متقدم يستغرق وقتاً، خاصة لدولة مثل تركيا ذات تاريخ عريق، وموقع جغرافي مميز وشعب فخور، لكنه ما زال خارج دائرة العولمة.

بطريقة أو بأخرى، يعتقد معظم الأتراك أنهم عوملوا بشكل غير عادل، وأنهم يستحقون أفضل بكثير، وأن لديهم القدرة على القيام بذلك.

وفي هذا العالم سريع التغير من جميع النواحي، فإن التحدي الماثل أمامهم هو اختبار قوتهم، أياً كان ما تعنيه التنمية في أذهانهم.

الجولة الأولى من هذا الاختبار ستبدأ في الانتخابات المقبلة.

القضية ليست هل تتطور تركيا أم لا؛ بل من سيفعل ذلك وكيف، هؤلاء الأتراك أم أتراك آخرون؟

هاكان يورداكول، خبير اقتصادي متخصص في تطوير الأعمال ولديه خبرة في القطاعين العام والخاص في تركيا والشرق الأوسط وشمال إفريقيا ورابطة الدول المستقلة، وهو حالياً عضو في مجلس السياسات الاقتصادية بالرئاسة التركية.

الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر «CNN الاقتصادية».

شاركها.
Exit mobile version