السؤال في عنوان المقال قد يكون صادمًا للقارئ، لكن الواقع الآن يتحدّث عن مغادرة باتت واضحة للدراسات الإسلامية من المنطقة العربية، إما إلى جنوب شرق آسيا، خاصة إندونيسيا وماليزيا، أو إلى أوروبا والولايات المتحدة، والآن على استحياء في بعض الدول الأفريقية.

فالجمود ومطاردة من يفكّرون ويجددون بجرأة، ومحاصرة الدراسات الإسلامية في بعض الدول العربية، يقابلها صعود متزايد للدراسات الإسلامية خارج المنطقة العربية.

 إندونيسيا

هناك فلسفة وراء صعود الدراسات الإسلامية في إندونيسيا. في كتاب العالم الإندونيسي فضل الرحمن مالك الصادر عام 1982م بعنوان “الإسلام والحداثة”، يقول: “إنّ الديناميكيات بين العلوم الاجتماعية، كعلم الاجتماع، والأنثروبولوجيا، وعلم النفس، وما إلى ذلك والمجتمع الإسلامي ليست مدروسة بشكل جيد في إطار التعليم الإسلامي في جميع أنحاء العالم، ونادرًا ما يتم التطرق إلى الأفكار والفلسفات المعاصرة”.

هذا، في رؤية الإندونيسيين، جعل المؤسسات الإسلامية التقليدية في العالم العربي (كالأزهر الشريف في مصر) غير قادرة على الاستجابة بفاعلية للتحديات المعاصرة. في بلد به 1300 مجموعة عرقية وأكثر من 225 مليون مسلم، لا بدّ من البحث عن قضايا تجعل السِلم المجتمعي أولوية، بل دراسات تؤكّد التنوع مع الوحدة، فضلًا عن المعاصرة. بناءً على ذلك، أعلنت إندونيسيا عن تأسيس ما أسمته “الجامعة الإسلامية الدولية الإندونيسية”.

ورغم وجود عدد من الجامعات المتخصصة في الدراسات الإسلامية بإندونيسيا، فإن تأسيس هذه الجامعة جاء ليعبّر عن عدد من المعطيات، من بينها أن إندونيسيا صار لديها كوادر علمية تتلمذت في الأزهر والجامعة الإسلامية في المدينة المنورة وغيرهما، وحان الوقت ليكون لإندونيسيا دور يوازي وزنها السكاني في العالم الإسلامي (13% من المسلمين)، فضلًا عن سعيها لتكريس نموذج للدراسات الإسلامية مختلف عن نموذج المنطقة العربية.

لهذا السبب، رأينا إندونيسيا تؤسس في هذه الجامعة مركزًا لدراسة الثقافة الإندونيسية الإسلامية، وآخر للدراسات الإستراتيجية الإسلامية، مستعينة في ذلك بتجربتَين من خارج المنطقة العربية، هما: مركز لايدن لدراسة الإسلام والمجتمع، ومركز أكسفورد للدراسات الإسلامية. وتسعى إندونيسيا حاليًا لجذب مئات الطلاب لدراسة العلوم الإسلامية بها.

 ماليزيا

جذبت الدوريات الإسلامية العلمية الصادرة في إندونيسيا، وماليزيا باللغات المحلية، والعربية، والإنجليزية عددًا كبيرًا من العلماء العرب للنشر فيها، بسبب إصرار لجان الترقيات في الجامعات العربية على التصنيف الدولي للدوريات. وهو ما نجحت فيه جامعات هاتين الدولتين، فيما فشلت الجامعات العربية الإسلامية في بناء تصنيف يحترم ويقدر دورياتها.

في ماليزيا كذلك، هناك رؤية وراء الاهتمام بالدراسات الإسلامية وضعها الفيلسوف الماليزي السيد محمد نقيب العطاس (مواليد 1931م)، حيث صاغ مفهوم “غرس وتلقين الأدب في الإنسان عبر تأديب العقل والروح”، وهو ما جنّب ماليزيا ظهور متطرفين بها. في ماليزيا، توجد 23 جامعة على الأقل، بها تخصصات الدراسات الإسلامية، أبرزها الجامعة الإسلامية العالمية.

تدرك ماليزيا أن دورها في تحديث الدراسات الإسلامية يقودها إلى مكانة بارزة في العالم الإسلامي، لذا فهي تعتمد على سياسة المنح الدراسية للطلبة المسلمين، في سياسة النفس الطويل بعيد المدى في التأثير، وهو ما جعلها نموذجًا كدولة إسلامية ناجحة يمكن الاقتداء بها.

 أوروبا

المشاكل المتتالية التي مرّت بمسلمي أوروبا، جعلت الدول الأوروبية تفكّر مليًا في هؤلاء إلى حد التفكير العنصري. لكن في نهاية الأمر ومع الجيل الثالث من مسلمي أوروبا، ومع المسلمين من أصول أوروبية، صار الإسلام حاضرًا في أوروبا. هذا ما اقتضى أن تكون معظم جامعات أوروبا معنيّة بالدراسات العربية الإسلامية، وبدراسة الإسلام كدين.

على عكس ما كان في القرون من الرابع عشر إلى القرن العشرين، صارت الدراسات الإسلامية في الجامعات الأوروبية يقودها مسلمون، في حين أنه في السابق كان يقودها مستشرقون أوروبيون. الآن، تولد في أوروبا دراسات إسلامية معاصرة بدأت تلفت الانتباه بقوة. فبدءًا من دراسة المجتمعات الإسلامية إلى الشريعة والفقه إلى غير ذلك، لدينا مئات الدراسات. وقراءة لمجلة “تعارفوا” التي تصدرها الهيئة الأوروبية للمراكز الإسلامية كاشفة. كما أن هناك 59 جامعة أوروبية معنية بصورة مباشرة بالدراسات الإسلامية.

صار بناء علماء مسلمين أوروبيين هدفًا أوروبيًا بعد أن عانت أوروبا من تصدير مشكلات العالم الإسلامي لها. لهذا السبب، رأينا ذلك في المعهد الأوروبي للعلوم الإسلامية في بروكسل الذي تأسّس عام 2010م، وكذلك كلية الدراسات الإسلامية في ألمانيا.

 تجربة عبد الحكيم مراد

إن أقصى ما كان يجول في الخيال أن تأتي رؤية لتجديد الفقه الإسلامي من جامعة أكسفورد، حتى إن مركز “نهوض” في الكويت رأيناه يترجم “مرجع أكسفورد في الفقه الإسلامي وأصوله وتاريخه”، وهو في مجلدَين ليقرأَه العرب، ويقبل عليه علماء عرب مسلمون، ويصبح مرجعًا في دراسات الفقه الإسلامي في المنطقة العربية.

وفي السياق أيضًا، يطل علينا من جامعة كامبردج أحد العلماء المسلمين المجددين، بل ممن يطرحون رؤى تلفت الانتباه، وهو العالم الإنجليزي المسلم عبد الحكيم مراد (تيموثي وينتر) الذي شكل مدرسة علمية مجددة وراشدة في التعاطي حتى مع الحديث النبوي الشريف، عكس ما يطرحه التنويريون العرب من تعطيل للسنة النبوية. لقد صار تلامذته بدراساتهم معلمًا للإسلام في أوروبا. درس عبد الحكيم مراد في جامعات كامبردج، ولندن، والأزهر، ولديه عناية خاصة بالسنة النبوية، ومنصة رقمية لتعليم الإسلام، عليها إقبال من كل أنحاء العالم، يقدم فيها السيرة النبوية، والإمام الغزالي، وقصص القرآن.

وأخيرًا، ففي الولايات المتحدة، بات صعود الدراسات الإسلامية في حاجة لرصد وتحليل عميق في ظلّ تزايد المسلمين بها، بل تمركزهم في ولايات مثل نيويورك، وتكساس.

تشير المؤشرات إلى أن الإسلام ستكون له لغة أخرى إلى جانب العربية، وهي اللغة الإنجليزية. فهل نرى قريبًا اجتهادات إسلامية بالإنجليزيّة؟

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version