لا بد في البداية من الاتفاق على أن اللغة ليست محض أداة للتعبير والتواصل فحسب، بل هي قوة كامنة ومؤثرة، ابتداء من تأثيرها في فكر صاحبها ورؤاه وانتهاء باستعماله لها للتأثير في الآخرين وتحقيق مراده من التواصل معهم.

ما القوة الكامنة للغة، وكيف يمكن لها أن تهيمن على المجتمعات؟

بالنظر إلى سياقات اللغة في نص ما أو في حديث ما يدرك المتمعن قوة اللغة وخطورتها حين تعمد إلى تهميش طرف ما، وتجميل طرف آخر، مثل الذي نسمعه اليوم في كثير من الخطابات السياسية المدروسة والمفتعلة للتأثير في العقل الجمعي اللاواعي، ألم نسمع من قبل مثلا بالغزو النبيل؟! ألم نتعجب من التركيب اللغوي متسائلين: متى صار الغزو نبيلا؟!

ألم نسمع منذ أيام الغزو على العراق مصطلح “الفوضى الخلاقة” أيضا؟ فكيف يمكن للغة أن تجمع بين المعاني المتنافرة والمتناقضة لتقدمها لنا بقالب لغوي مقبول؟ أو لنكن أكثر دقة؛ بقالب لغوي يبدو مقبولا في ظاهره، يسوقنا إلى استساغة المعاني غير المقبولة وتقبل المفاهيم غير المستساغة.

إنها لعبة اللغة ومعزوفة المؤثرين الفاعلين في هذا المجال والعاملين على استخدام اللغة بوصفها سلاحا لا يقل خطورة عن ذاك السلاح الميداني، فإقناع الشعوب ببراءة المحتل وتجميل صورته وتقريبها من الحس الإنساني قد يلامس عقل الإنسان فيخدعه بمنطق اللغة لا بمنطق الحقيقة والواقع.

وقد اهتم كثير من اللغويين والنقاد بفكرة تفكيك الخطاب، ويعد الفيلسوف والناقد الفرنسي جاك دريدا رائد مفهوم التفكيكية، وأثار كثيرا من الأسئلة حول الخطابات السائدة، وهو صاحب المقولة الشهيرة التي اختلف في ترجمتها: “لاشيء خارج النص، أو لا يوجد شيء خارج السياق”. يريد بذلك أن تتحرر اللغة من حمولتها الخارجية، أن تكون تحمل ألفاظا ومدلولات بدون مرجعيات تثقل كاهلها وتوجه طريقها نحو عقول المخاطبين وأفئدتهم، لكن هيهات! فاللغة كائن حي وقوة كامنة وبحر عميق.

هل للأسلوب اللغوي تأثير في عقول السامعين والمخاطبين؟

تبدو الكلمة في كثير من الأحيان مجردة بريئة وغير منحازة، لكنها بمحض أن تنضم إلى غيرها من الكلمات وتتحول إلى صوت وتلقى على المسامع فإنها تغدو قابلة للحن القول، وقد تغدو منحازة ومحملة.

وهذا ما يترجم عنه قول البلاغيين العرب حين يعدون الكناية أبلغ من الإفصاح، والاستعارة أقرب معنى وفهما من التصريح، والمجاز أرفع درجة من الحقيقة نفسها أحيانا.

اللغة العربية - الجزيرة الوثائقية

يذكرنا ذلك بحديث الغزالي عن مراتب الوجود والحقيقة، إذ يرى أن الحقيقة أشبه بانبعاث الضوء ومروره في أوساط شفافة مختلفة تعمل على كسره وانعكاسه، فيصل مشوشا أو مشوها وقد ترك طريق العبور فيه آثاره! وكذلك الأمر حين نتحدث عن اللغة، فالحقيقة موجودة كامنة في العقل والفكر، لكن خروجها وترجمتها بالنطق وتزيينها بالأسلوب وعرضها وتقديمها بقوالب لغوية مختلفة قد يجعلها بعيدة عن جوهرها الأساس.

هل يعني ذلك أن اللغة ليست بريئة؟

في الحقيقة نعم! ومن المؤسف -ربما- أنها ليست كذلك.

فاللغة بشكل أو بآخر قولبة للأفكار وجوهرتها، ففي عالم السياسة تبدو اللغة ذات بعد سياسي، بخلفية أو أيديولوجية -كما يحلو لبعض الناس تسميتها- محددة ومدروسة، تخدم أهدافا دينية أو سياسية معينة، وتصب في صالح السلطة المهيمنة، ففي حقل السياسة يحدد للإعلامي والسياسي على حد سواء شكل الخطاب السياسي المسموح به، وبأطر زمنية ومكانية واضحة وهادفة، ويبقى للمتلقي مرد تفكيك اللغة إن استطاع إلى ذلك سبيلا، ليدرك ما سُكت عنه وما سُمح به، وما خفي وراء الكلمات وما أضمر بين السطور.

لا بد أنك قرأت أو سمعت بـ”التطهير العرقي” من قبل، إذا ما نظرنا إلى الكلمة الأولى (التطهير) وجدنا وقعها ومعناها في عقولنا وأفهامنا إيجابيا، لكنها ارتبطت في هذا التركيب بالعرق، فصار التطهير قتلا وإبادة جماعية بدون أدنى حق، وصار وجه الحقيقة غائما، ومعنى الكلمة مذبذبا، ولحنها شاذا.

ثم انظر كيف استعمل في إبادة العرق لفظ “التطهير” وكأن هؤلاء البشر الذين تتم إبادتهم بطريقة ظالمة ليسوا أكثر من جراثيم ضارة تستوجب تنظيف هذا العالم وتطهيره منهم.

ونسمع اليوم في نشرات الأخبار وعلى الشاشات العربية مصطلح “غلاف غزة”، ويتداول للتعبير عما يشبه حدود المدينة والمنطقة المحيطة بها والمستوطنات التي زرعت فيها لتضيق الخناق على غزة وتحاصرها حصارا جائرا يخنقها ماديا ومعنويا، وبتعبير آخر قضبان السجن الدولي الذي يحاصر مدينة غزة.

يبدو التعبير طبيعيا بريئا للوهلة الأولى، بل إيجابيا كما لو كان غلافا يحيط بالنواة أو البذرة أو السلعة لحفظها وصونها؛ لكنه في الحقيقة مستورد، بل دخيل ومقصود ومفتعل، وأهالي غزة تحديدا يدركون ذلك أكثر من أي أحد آخر، فمنذ متى صار للمدن الحرة أغلفة وقضبانا يحرم على قاطنيها الاقتراب منها أو المساس بها؟

وقس على ذلك كثيرا من التعابير التي لا نلقي لها بالا، فالإسرائيليون يطلقون على جيشهم “جيش الدفاع” وهو لم يكن في يوم من الأيام إلا جيشا معتديا ومبادرا بالاعتداء والقتل والتهجير.

ومنذ بداية الحرب على غزة يردد السياسيون الغربيون من قادة أميركا وأوروبا عبارة “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها” لتسويغ عمليات القتل والإبادة والتهجير المتعمدة، وتغلف هذه الدعوات بدافع إنساني موجه وانتقائي، وكأن للإنسانية غفوات وصحوات واختيارات وترجيحات.

هل لغة الإعلام بريئة أم أنها لغة منحازة؟

في ظل الأحداث الراهنة وأنت تتابع القنوات الإخبارية مترقبا متحفزا تستوقفك بعض العبارات اللغوية التي تبدو محملة بفكر قائلها وناقلها واعتقاداته وخلفيته المعرفية والثقافية وتوجهاته السياسية والأيديولوجية، وموجهة ومنحازة بحسب رؤية القناة التي تبثها.

ففي حين يجب أن يقال “يتسبب الهجوم الإسرائيلي على غزة بمقتل طفل في كل 15 دقيقة”، يذاع في الأخبار “تسببت الحرب بين غزة وإسرائيل بنقص في عدد نفوس السكان الفلسطينيين!”، وفي حين يجب أن يقال “قصفت إسرائيل مشفى في غزة، وأدى القصف إلى استشهاد عدد كبير من الأطفال والرضع حديثي الولادة”، يقال “حدث انفجار في مشفى في غزة، وأدى ذلك إلى وفاة عدد من الموجودين في المشفى!”.

وقس على ذلك كثيرا من التحيزات اللغوية التي تخلق انطباعات مختلفة عن الحقيقة بل عكسية في أحيان كثيرة، كاستبدال لفظ الضحية أو القتيل بالشهيد عن سبق قصد وإصرار كما حدث في بعض القنوات حين قال المراسل “استشهد 11 فلسطينيا” ثم استدرك بعد قليل ليقول “عفوا: قتل 11 فلسطينيا”، واستبدال الإرهابي بالمناضل الثائر المقاتل من أجل الحرية مثلا!.

لغة السلطة الرابعة

يدرك العاملون في مجال الإعلام أن للقوالب والتراكيب اللغوية تأثيرا في المتلقين، فللكلمات تأثير في الجهاز العصبي للإنسان كما أثبتت الدراسات، واختيار الألفاظ وترتيبها في نسق معين وتحميلها في قالب صوتي خاص يؤثر في المرء ويحمله على الاعتقاد والانطلاق بالمبادرة والفعل بناء على الحمولة العاطفية والشحنة الفكرية التي صدرت له.

لذلك تخضع لغة السلطة الرابعة للرقابة التوجيهية التي تهدف إلى كسب التأييد وتعبئة الشعوب وتوجيهها من خلال استخدام علم اللغة وتحليل البنى والدلالات والرموز على أسس الاتصال بالجماهير المختلفة والتأثير فيها، وهذا ما يجعل لغة الإعلام عامة واضحة وسهلة ومباشرة وبعيدة عن الصنعة اللغوية وموظفة في الوقت نفسه.

منابع الإعلام وأهدافه مختلفة ومشاربه متنوعة، ومراميه متباعدة، لكن وسائله متقاربة، فاللغة هي الأداة الأساسية والسلاح الأمضى له، لذلك وجه اهتمامه نحو علم اللغة الدلالي ونظرية الاستقبال التي تعنى بالدرجة الأولى بالمتلقين، واستفاد منهما لإيصال الحقيقة في أحيان، ولتشويهها أو حرفها عن مسارها وتضليل الجماهير وخداعهم في أحيان أخرى.

وتكمن قوة اللغة عامة في هيمنتها على المتحدثين بها والمتلقين لها وبرمجتهم وفقا لمنطقها شاؤوا أم أبوا، أدركوا ذلك أم لم يدركوه! إذ لها تأثير قوي وفاعل في حركة العقل البشري، وقولبة تفكير المرء وآلية نظرته ومحاكاته للأمور والقضايا ورسم توجهاته وبناء قناعاته بكثير من التحيز الذي يلبس ثوب المهنية البريئة والحياد الموضوعي.

شاركها.
Exit mobile version