ماذا يعني أن يلوذ الفكر بالصمت أمام الكارثة؟ أن يكتفي بالتفرج أو النواح؟ وحتى إن حدث وقضّ مضجعه هول الكارثة، فستجده يعيد إنتاج المعجم الأيديولوجي نفسه الذي حكم أجيالًا سبقته وحرمها من التفكير، وحجب عنها الواقع.

رُبّ قائل: إننا نعيش مرحلة لا تقبل بشيء آخر سوى التعاطف والتضامن المطلق. يبدو عمل الفكر النقدي بالنسبة لهؤلاء مجرد تواطؤ مع النظام السائد، ذلك أن الفكر النقدي في سياق ثالثي [دول العالم الثالث] يتحقق بالضرورة كنقد مزدوج، لا يهرب إلى الاستغراب، ولكنه يفكك كل أشكال الهيمنة والعنف، الغربية منها والشرقية. لكنهم يريدونه فكرًا يكتفي بنقد الأعراض دون التجرُّؤ على نقد الأسباب التي تنتج وتعيد إنتاج المرض.

ولكن الفكر النقدي، الذي لا يدير ظهره للمجتمع وأسئلته، لن يكتفي بالشطط الأيديولوجي ودغدغة المشاعر الشعبوية، ولن ينزلق إلى حرب “الهويات القاتلة”، لأنه يدرك أن الصراع القائم اليوم هو بين من يملكون ومن لا يملكون، أو بين من يريدونه عالمًا لأنفسهم فقط، وبين من يطالبون بحقهم في العالم: الحقّ في الإنسانية، الحقّ في حياة كريمة، الحقّ في الحداثة وقيمها السياسية والحقوقية التي لم تُخلق للإنسان الأبيض وحده.

يبدو الفكر العربي اليوم غائبًا عن هذا السؤال الأخلاقي، وحتى وإن عبّر عنه، فإنه يفعل ذلك بلغة الانتماء المغلق، ذلك الذي يعمق الفجوة بيننا وبين القيم المعاصرة، ويؤكد هامشيتنا في عالم اليوم.

إن آخر همّ لهذا الفكر هو الإنسان. إنه لا يعرفه، وأنّى له ذلك، وهو الذي انخرط منذ بداياته، وما زال، في سياسوية انقلابية، تعتقد وتؤكد أولوية الدولة على المجتمع.

ربما من الصعب أن نتحدث اليوم عن فكر عربي كما كُنّا نفعل قبل عقدين أو ثلاثة. لا ريب أن للأمر علاقة بهذا الفكر نفسه، وعجزه البنيوي عن التفكير من خلال المجتمع، وارتباطه بأسئلة وقضايا زائفة ومزيفة من قبيل الأصالة والمعاصرة، التراث والحداثة، الهُوية والتغريب.

ولربما نعيش في زمن لم يعد يعطي أهمية لشيء من قبيل الفكر أو أضحى يعتبره قطاعًا غير منتج، وفي عصر أضحت تُدار فيه الدول كما تُدار الشركات الدولية، وانقرضت فيه السياسة، وتحول فيه المجتمع إلى حمل ثقيل يتوجب على كل إدارة للأزمة أن تسعى إلى حصاره وترويضه أو حتى تهجيره.

لكن هذا التراجع للفكر النقدي على مستوى العالم، والذي يعود بالأساس إلى نوع الثقافة التي تسوق لها النيوليبرالية، وأشكال المعارضة التي تخلقها لتعطيل كل معارضة حقيقية، لا تكتفي بنقد الفاشية أو نقد الشعبوية أو نقد الأصولية، ولكنها تربط كل ذلك بالمنطق الداخلي للنظام الرأسماليّ.

لا يعني ذلك بالضرورة أننا لم نعد بحاجة إلى ذلك الفكر، أو أنّ التاريخ قد انتهى، وما علينا سوى أن نتصالح مع هذه الحقيقة. لقد انحدر فريق من مفكرينا إلى حدّ مطالبتنا بالاكتفاء بالتفرج على العالم وإدانة كل محاولة لتغييره، ومضى آخرون للتغني بأمجاد سحرية لا نعيشها إلا على مستوى الخيال. أما “الكهنة الصغار” للواقعية السياسية، فسيحذفون من معجمنا السياسي كل مفردات المقاومة والتحرر.

لا يمكن لأشدنا تفاؤلًا أن يصف عالم اليوم بكلمة أكثر دقة من كلمة “سيئ”، بل قد تكون هذه الكلمة متسامحة إلى حد كبير مع واقعنا، إذا ما انتقلنا من العالم الأول إلى العالم الثالث، أو إلى ذلك العالم الذي أضحى موضوعًا – ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية – للحروب الرأسمالية.

ولربما نحتاج لتفكير مغاير في عالم أشد سوءًا، ولربما نحتاج لما هو أكثر من التفكير. أقول ذلك وأنا أتذكر ما قاله عالم الاجتماع الألماني فولغانغ شتريك خلال مقابلة أجريتُها معه قبل سنوات، من أن أزمات المركز تزداد استفحالًا في دول الأطراف، وربما ما لم يقلْه هو أنه في غالب الأحيان ما يتم حلُّ هذه الأزمات على حساب تلك الدول.

لن يسعفنا قرن من التفكير العربي اليوم في مواجهة الكوارث المختلفة التي تعيشها المجتمعات العربية اليوم: حروب استعمارية ونيواستعمارية، استفحال للطائفية والمذهبية والقبلية، استحكام لقبضة الاستبداد، هيمنة مطلقة للمنطق النيوليبرالي، انفصال للدولة عن المجتمع، ضياع جيل بأكمله في أحلام الهجرة والهروب، سيطرة لأنظمة رجعية على الثقافة العربية، وتحديدها أيضًا لما يجب على الإسلام أن يقوله وما لا يجب.

ليس في تلك المدونة ما يفيدنا في التفكير في هذه الكوارث التي تتهدد المجتمعات العربية من كل ناحية، ولربما تكون قد عبّدت من حيث لا يشعر أصحابها الطريق إلى هذا الوضع البائس اليوم.

ومن هنا الحاجة الماسّة في السياق العربي إلى الانفتاح على النظرية أو النظريات النقدية الغربية، وعدم الاستسلام لإغراء الديكولونيالية، والتي لا تمثل في رأيي سوى نوع من الاستغراب الجديد، الذي، مثل سلفه القديم، سيحرمنا من الانخراط في الكونية باسم هُوية غير تاريخية أو متخيلة.

لكن ما الذي يمكننا أن نتعلمه من النظرية النقدية اليوم؟

إن أهم درس يمكننا أن نستقيه منها هو رفضها لذلك الفصل بين المعرفة والسياسة، أو الاكتفاء بدراسة تلك العلاقة من وجهة نظر إبستمولوجية محضة، لأن ذلك يعني، لا ريب، التصالح مع العالم كما هو. وعالمنا لا يحتاج لمن يتصالح معه، ولكن لمن يسعى إلى تغييره. نحن نعيش، وكما عبّر عن ذلك أقطاب النظرية النقدية منذ أدورنو وحتى جوديث بتلر، في عالم سيئ.

إن المقاربة الإبستمولوجية، وقد نسميها أيضًا، على منوال برهان غليون، “السكولائية”، تدفع التفكير إلى الاغتراب عن سياقه التاريخي – الاجتماعي، أي عن أسئلة الناس وقضاياها الملحة. إننا أمام ممارسة مجردة، غير أخلاقية، لأنها لا تأبه بالسؤال الأخلاقي، بل تعتبره خارجًا على العلم.

إن وظيفة الفكر النقدي تكمن في مساءلة الشروط المادية التي تنتج وتعيد إنتاج الظلم في هذا العالم. ليس السؤال المعرفي المحض ما سيشغلنا من هنا فصاعدًا، ولكن الوعي بأن السؤال المعرفي لا يمكن طرحه من خارج التساؤل عن شروط إنتاج موضوعات المعرفة.

لن نتساءل “ما التفكير؟” ولكن سيصبح سؤالنا، بتعبير الفيلسوف الفرنسي المعاصر غوفروا دو لاغازنري: “ما التفكير في عالم سيئ؟”. وهو ما يعني أنه ليس بالإمكان أن نفكر من خارج السؤال السياسي وأولويته، وما يرتبط بذلك من ضرورة إعادة النظر بالمؤسسات العلمية القائمة وعلاقاتها بالسلطة.

وكما يكتب أدورنو في مقدمة حواره مع كارل بوبر، منتقدًا اختزاله للتفكير في المنطق: “في مجتمع زائف حتمًا، يتعارض مع مصالح أفراده، فإن أي معرفة تخضع للقواعد الثابتة لعلم هذا المجتمع تشارك في زيفه”. وفي لغة هوركهايمر: “لا يتمثل هدف التفكير في مراكمة للمعرفة كما هي، ولكن في تحرير الإنسان من أشكال الاستعباد التي تقبع فوقه”.

وبتعبير آخر، إن كل اشتغال بالمعرفة في سياق مثل السياق العربي يجب أن يكون في نظره ومنهجه وغايته تحرريًا.

إذ في ظل عالم سيئ، يتوجب التشكيك بدعاوى الحياد العلمي أو استقلال الحقل العلمي. إن المعرفة لا تكتمل إلا حين تنتقل من نقد العقل إلى نقد العقل الاجتماعي. الضحية وحدها من تقول الحقيقة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version