في هذه الزاوية الثقافية “نصوص في الذاكرة”، تفتح الجزيرة نت مساحة لتذوق النصوص العربية والمترجمة، لتتحدث الكلمات بألسنتها بلا وسطاء، إيمانا منها بأولوية النص (الشفهي والكتابي) لبناء القيم والأفكار وتشكيل الوعي والوجدان والذوق والسلوك، حتى في عصر هيمنة الصورة. 

تختار هذه النافذة مجموعة منتقاة من نصوص الأدب والفكر والتاريخ، التراثية والمعاصرة، في مجالات ثقافية متنوعة، وتكتفي بمقدمة قصيرة تفتح الباب بعدها للنصوص ذاتها لتشرق معانيها بلا حجاب، وقد أضاف المحرر إليها -أحيانا- هوامش شارحة موجزة. 


يوصف كتاب الأديب واللغوي والصحفي والمترجم والمحقق الموسوعي والرحالة أحمد فارس الشدياق “الساق على الساق في ما هو الفارياق” بأنه أول رواية عربية حديثة.

والشدياق (1805-1887) -الذي ولد لأسرة مارونية لبنانية وتحوّل للبروتستانتية ثم للإسلام في كهولته- غادر لبنان إلى مصر ومنها إلى مالطا مطلع العشرينيات من عمره، ثم عاد ثانية إلى مصر حيث أقام ما يقرب من 6 أعوام (بين عامي 1828 و1834)، وعمل لفترة في جريدة الوقائع المصرية، ثم انتقل إلى مالطا مجددا حيث عمل مع مبشرين بروتستانت في ترجمة وتصحيح الكتب العربية، وسافر لبلاد الشام وتونس وإيطاليا وإنجلترا وباريس ولندن وتونس، التي أشهر فيها إسلامه، والأستانة (إسطنبول) التي توفي فيها وأصدر فيها جريدته السياسية الأسبوعية عام 1861.

وتقول الناقدة والأكاديمية المصرية الراحلة رضوى عاشور إن اللغة العربية الحديثة تدين لفارس الشدياق بمصطلحات عديدة وضعها واستخدمها فشاعت بين الناس ومنها الاشتراكية والجامعة ومجلس الشورى والانتخاب والجريدة والباخرة والمستشفى والصيدلة والمصنع والمعمل والمتحف والمعرض والملهى والحافلة وطابع البريد وغيرها.

ويقول الأكاديميان والمؤرخان اللبناني فواز طرابلسي والسوري عزيز العظمة، في تقديمهما المشترك لمختارات من أعمال الشدياق، إنه يحتل “موقعا متفردا بين رجالات النهضة العربية الحديثة، ولا مبالغة في القول إننا ندين له بمعظم ما هو حي وجديد في لغتنا والأدب والقرن التاسع عشر”.

فلماذا أُسقط الشدياق من تاريخ الأدب وقد أنتج النص الأدبي الأغنى والأقوى في الأدب العربي في القرن الـ19؟ كما تسأل رضوى عاشور، ولماذا اعتبرت معارف الشدياق اللغوية الهائلة وارتباطه بالموروث الأدبي العربي عبئا لا ميزة؟ ولماذا لم تنل كتاباته عن الغرب على أهميتها الكبيرة ما نالته كتابات الآخرين (رفاعة الطهطاوي مثلا)؟ ولماذا لم يتوقف الدارسون للاستشراق عند “الكاتب العربي الأول الذي نقد المستشرقين” فبقى الشدياق أبا مهمشا لا تنسب له ذريته أو لا تعرف هذه الذرية أنه والدها؟

ترى رضوى عاشور أنه لا يمكن فهم تهميش تجربة الشدياق دون الرجوع للخيارات التاريخية للنخبة العربية في علاقتها بنفسها وبموروثها، وبواقعها الاستعماري وحلمها في التحرر منه بالتطلع عبر البحر إلى الآخر ونموذجه الحضاري لتتخذ منه نبراسا تهتدي به.

وتلقي مؤلفة “صيادو الذاكرة” باللائمة على “الحداثة التي بنتها النخبة على القطيعة الثقافية”، واصفة إياها بأنها “حداثة مستحيلة لا تتوفر لها جذور ولا فروع، حداثة منبتة لا ظهرا أبقت ولا أرضا قطعت”.

“الساق على الساق فيما هو الفارياق أو أيام وشهور وأعوام في عجم العرب والأعجام” هو نص روائي يربو على 700 صفحة نشر في باريس عام 1855، والفارياق هو تسمية وضعها أحمد ناحتا من المقطع الأول من اسمه “فارس” والمقطع الأخير من اسم عائلته “الشدياق”، أما “الساق على الساق” فقد تشير لوصفة الجالس متمكنا من قدراته، أو إحالة للآية القرآنية من سورة القيامة، أو تأتي الساق بمعنى الشدة القاسية (يقول ابن منظور قيل للأمر الشديد ساق)، أو تجمع بين هذه المعاني وغيرها كما هو شائع في أساليب التورية العربية، كما ترى عاشور.

كتاب “الساق على الساق في ما هو الفارياق” يصفه بعض النقاد بأنه الرواية العربية الأولى (الجزيرة)

وحتى لا نطيل عليك -عزيزي القارئ- نورد لك هنا ما قدم به الشدياق كتابه للقارئ شعرا، فقال:

هذا كتابي للظريف ظريفا * * طَلِقَ اللسان وللسخيف سخيفا

أودعته كلما وألفاظًا حلت * * وحشوتهُ نقطاً زهت وحروفا

وبداهةً وفكاهة ونزاهة * * وخلاعة وقناعة وعُزوفا

كالجسم فيه غيرُ عضوٍ تعشق * * المستور منه وتحمد المكشوفا

فصَّلته لكن على عقلي فما * * مقياس عقلك كان لي معروفا

قعّرته بمحافر الأفكار كي * * يسع الكلام وسمته تجويفا

لفقّته وخصفته بيدي فقل * * نِعمَ الكتابُ ملفقًا مخصوفا

أفرغت فيه كل حبرٍ راقَه * * وله بريت من اليراع ألوفا

وكأنما بيدي قد نمقته * * حتى أتى مستحكمًا مرصوفا

ألّفته والليل أسود حالك * * فلذاك جاء مسخمًا مسجوفا

تبلته لك دون طاهي القوم بالرّب * * لات في تزيل منك خُلوفا

وتصخ ما بك من طُلاطلة ومن * * ضرَسٍ فتلقم بعد ذاك الفوفا

يُغنيك عن مين الطبيب وسحله * * ما من جراه تخازم الحتروفا

قد أنبتت غضراء أرض سطوره * * روضًا وجنَّات تروق وريفا

فتشمّ منها عرف كل ربحلة * * دهساء يفتن حسنها الغطريفا

وترى الملعظة الشناط بجبها * * والفارض القرطاس والسرعوفا

ووراءها وأمامها مرمورة * * وغرانق ما أن تزال أنوفا

وإذا بدت لك من خلال حروفه * * ردح وثائر فاخطبنَّ رشوفا

فإذا عجزت عن المؤونة واستقلت * * وجدت في أعقابهن الهيفا

فاختر هداك الله ما تهوى ولا * * تتراخ عن أن تدرك الحرنوفا

غيري من الوصَّاف في ذا صنفوا * * لكنهم لم يحسنوا التصنيفا

إذ كان ما قالوه مبذولاً ولم * * يتقصَّ منهم واصف موصوفا

لكن كتابي أو أنا بخلاف ذا * * نكفي الحفيَّ الحدّ والتعريفا

لا عيب فينا غير أنك لا ترى * * ضواً لنا في فننا وحريفا

فهو اليتيم المستحيل إخاؤه * * وهو الفريد فكن عليه عطوفا

الفضل لي ولصاحب القاموس إذ * * من لجه قولي غداً مغروفا

حلبت به رأسي خلافاً للنسا * * عاماً وكل العام كان خريفا

لكن تولد في ثلاثة أشهر * * وحبا على عجل وشب لطيفا

لم أدرِ رجلته أو مخطته أو * * بصقته أو ألقته ثم كنيفا

عانيت فيه من الزجير أجازك * * المولى عناء لا يُكال جزيفا

وقطعت سرته على أهل الحجى * * وعلى اسمهم لا يبرحن موقوفا

ما كان من ظئر له عندي سوى * * فكري ومع ذا خلته مسروفا

قدماً عليه توحمت نفسي ولم * * يك شوقها عن نحوه مصروفا

ورشحتُ لذَّات قبيل نتاجه * * حتى إذا باشرت عدت نشوفا

أولدت لي ولدين لا لك ثم ذا * * لك ثالثاً لا لي فَعُلْهُ القوفا

عهدي إلى ولديَّ أن يتحدَّيا * * أسلوبه وبدفتيه يطيفا

ليؤمناه من الحريق احتمي * * أحد عليه لكونه حريفا

إني بريء منهما أن يعدلا * * عنه ويتحذا عليه حليفا

من كان يرغب فيه فهو موفق * * أو لا فقد ضلَّ السبيل وايفا

في الليل يسمع منه غطغطة * * يطيب نعاسه بدوامها وحجيفا

ولرُبَّ نور ساطع يغدو إذا * * قابلته يوماً به مكسوفا

وكبير بطن ضاق عنه وفاتك * * ذي شِرَّة عنه يخيم ضعيفا

كالزئبق الفرار ينظره ولا * * يستطيع يمسك من قفاه صوفا

يهوي هويَّ الريح في الوادي إذا * * ما هيج ثم يسنم الشنعوفا

هو خير داحٍ للذي لم يرض من * * لعب الزمان ولهوه خذروفا

أن تتله يطربك حسن بُغامه * * أو تُلغه يسمعك منه عزيفا

فيه ترى في لبرد مشتى ثم أن * * ثارت خجوجاة السهام مصيفا

وإذا ثقلت من الطعام وغيره * * تلقى به من ثقلة تخفيفا

وإذا اتخذت حديقة فاغرس بها * * منه كليمات تزدك قطوفا

تغنيك عن نصب الخيال بها فلو * * أضحى شظاظاً لصحها لا خيفا

إني ضمنت لك الفدور فما ترى * * من بعده عزهاً ولا منجوفا

كلا ولا مستثقلاً نوماً ولا * * أرقاً ولا تشكو صدى وعجوفا

لا تقدمن على ركوب الصعب إن * * لم تتخذه صاحبًا ورديفا

حتى إذا تُعتعت أصبح عاصمًا * * لك أن تزل فتخطى الخرنوفا

إني لا علم والسداد يدلني * * إن الجناب يرى الأبيل مخيفا

فاخفه أنت بكل حرف باتر * * قد خط فيه يكفّ عنك كفيفا

هو حصرم في طرف من يغتابه * * ما زال أن ذكر اسمه مطروفا

وهو الحديد القاطع الماضي الذي * * يبري العظام ويحسم الشرسوفا

إن شئت تلبسه على علاته * * فاهنأ به أو لا فدعه نظيفا

ولقد أجزتك سفه أو لعقه * * أو أن تخف قيئاً فخذه مدوفا

لكن حذار من الزيادة فيه أو * * أن ترتأي استعماله محذوفا

إذ ليس فيه من محل قابل * * للحذف أو لزيادة تثقيفا

لوكان يعشق جامد لجماله * * لغدا الورى طراً به مشغوفا

ولئن نزحت عن الأنام فإنه * * يمشي إليه حيث كان زحوفا

وإذا تخاصم كاذبان فلحية * * الأشقى يغدر شعرها منتوفا

حتى كأنَّ الشعر من لحييهما * * قطن الحشايا ناعماً مندوفا

وحياة رأسك أن رأسي عارف * * إني به لن أستفيد رغيفا

كلا ولا أقطا ولا حشفا ولا * * خزّا على وتدي ولا كرسوفا

لكن بقرني حكة هاجت على * * إني أعالج مرة تأليفا

من كان يؤجر كي يؤلف خطبة * * فهو الخليق بأن يعد عسيفا

ما راح من قولي فخذه وما تجد * * من زائف فاتركه لي ملفوفا

لا بد أن تجد الصيارف مرة * * بين الدراهم درهماً مزيوفا

ولربَّ دينار يجر إليك من * * تهوى بلحيته وليس مشوفا

لا يعلقن بزجاج عقلك ما ترى * * فيه من الصدأ القديم كثيفا

من كان في بلد لطيفاً طبعه * * يجد الغليظ من المحب لطيفا

لا ترفسن ما سرَّ من لأجل ما * * قد ساء بل لا تولهِ تأفيفا

إن المصنف لا يكون مصنفاً * * إلا إذا جعل الكلام صنوفا

أو ليس أن الضرب مثل الصنف في * * المعنى وقرع عصا إليه أضيفا

حاشاك أن تقضي عليّ تهافتاً * * من قبل أن تتحقق التوقيفا

فتقول قد كفر المؤلف فاحشدوا * * يا قوم صاحبكم أتى تجديفا

فتهيج أرباب الكنائس هيجة * * شؤمى فيخترطوا عليه سيوفا

بيني وبينك من صلات مودة * * ما يقطع التفسيق والتسقيفا

لا تزبئرّ إلى القتال ولا إلى * * الشكوى ولا تك بيننا قذِّيفا

إن كنتُ إحساناً أتيت فدونك * * التحبيذ لي أو لا فلا تقذيفا

لا تشتمن أبي ولا أمي ولا * * عرضي ولا تك لي بذاك أليفا

إثمي على أنفي يناط مدلدلا * * ما أن يصيب من العباد أنوفا

ولربِّ فسيق اللسان مباذئ * * يغدو وقد فسق العفيف عفيفا

ونزيه نفس أن يزر ذا زوجة * * ويكون أن ضحكت له عتريفا

كلب الكواعب ليس يعدي غيره * * ودواؤه كعب يليه منوفا

ماذا على مهدٍ إلى إخوانه * * شيئاً ألذَّ من المدام طريفا

سهرُ الليالي محكماً تفصيلهُ * * وهم رقود يحكمون جحيفا

أرأيت ذا كرم يردّ * * هدية ويسوم مهديها له تعنيفا

أو ليس أن الدهر مازحاً * * يهذي ويأتي المضحكات جنوفا

فأشتق من خرف الجنى ومن * * حصف تهي الأظفار منه حصيفا

دع عنك تعبيس الأسود وكن أخاً * * لأبي الحصين مراوغاً يهفوفا

من أضحك السلطان صوت ردامه * * فهو الذي في الناس عدَّ عريفا

تمت بهذا البيت فاتحتي وقد * * صيرته لبنائها تسقيفا

لا تقرأن من بعده شيئاً ولو * * كلفت حرفاً واحداً تكليفا

فتكون قد أزلفت ثم تجاوزت * * بك رجلك اليسرى له تاريفا

إني أرى كالريح في أذنيك عرف * * نصيحتي راحت سدى وطليفا

شاركها.
Exit mobile version