الأدب نتاج إنساني، وشكل من أشكال التعبير اللغوي عن الفكر والعاطفة، فهو الثوب القشيب الذي يكسو مخرجاتنا العقلية والقلبية ويقدمها بقالب لغوي مميز وراق ومختلف عن لغة الحياة اليومية. قد يكون شعرا أو نثرا، وهو السجل الذي يحفظ لكل أمة من الأمم قسما كبيرا من تاريخها وثقافتها وحضارتها.

في كتابه “ما الأدب؟” جعل جان بول سارتر الدوافع التي تدفع الكاتب نحو الكتابة، إلى جانب تساؤلات مثل “لماذا نكتب؟ ولمن نكتب؟” هي محور الحديث عن ماهية الأدب، فجاء الحديث مركزا على الهدف والغاية من الأدب لتحديد ماهيته.

والأدب مصدره الإنسان وغايته الإنسان، والإنسان مكون من الروح والمادة والعقل الوجدان، وكل مكون من هذه المكونات يحتاج إلى الإشباع، ولأن هذه المكونات تتشابك تشابكا محكما ولا تنفصل عن بعضها بعضا، كان الأدب ركنا أساسيا في تلبية احتياجات الروح والوجدان والقلب، فهي ركائز رئيسة في تكوين الإنسان وتشكيله.

لماذا نسمي الأدب أدبا؟

يقال في تعريف الأدب إنه روح الأمة، ووفقا للكاتب والفيلسوف الإنجليزي وليم هازلت فهو الصورة الحقيقية والصادقة لأفكار الأمة.

ويقال في تعريف علم الأدب إنه “معرفة ما يحترز به من جميع أنواع الخطأ في كلام العرب لفظا وخطا، وغاية هذا العلم الإجادة في فني النظم والنثر، إضافة إلى تهذيب العقل وتزكية الجنان”. وقد ذكر ابن خلدون أن لفظ الأدب كان يطلق فيما سبق على العلوم كلها بنوعيها الديني والدنيوي. ورأى أن المقصود بعلم الأدب هو ثمار اللسان والإجادة في فني النظم والنثر، وفقا لأساليب العرب وطرائقهم، وارتبط فيما بعد بحفظ أشعار العرب وأخبارها، واختصر بأنه “الأخذ من كل علم بطرف”.

في السؤال عن أصل التسمية والمعنى اللغوي للكلمة فهي في لسان العرب ما “يتأدب به الأديب من الناس؛ لأنه يأدِب الناس إلى المحامد، وينهاهم عن المقابح. وأصل الأدب الدعاء، ومنه قيل للصنيع يدعى إليه الناس مأدبة (بتثليث الدال)… والأدب: أدب النفس والدرس. وهو الظرف وحسن التناول. وأدبه فتأدب أي علمه”. وقد جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجامع الصغير بإسناد ضعيف أنه قال: “أدبني ربي فأحسن تأديبي”. ومما أثر عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن هذا القرآن مأدبة الله في الأرض، فاقبلوا مأدبته ما استطعتم”؛ وقال أبو عبيدة في شرحه “شبّه القرآن بصنيع صنعه الله للناس، لهم فيه خير ومنافع، ثم دعاهم إليه”.

وجاء في تاج العروس للمرتضى الزبيدي أنه “مَلَكة تعصم من قامت به عما يشينه”، وأنه “تعلم رياضة النفس ومحاسن الأخلاق،… وإطلاقه على علوم العربية مُوَلَّدٌ حَدَثَ في الإسلام”. فقد صارت كلمة الأدب بالزمن ونتيجة التطور الدلالي للفظ تدل على العلم عامة، وعلى تعليم الشعر والأخبار وروايتها خاصة، وتدل على اللغة العالية من النثر والنظم وما اتصل بهما، وكل ما يُحدث لدى المتلقي أثرا ويترك لديه لذة لغوية فنية فارقة ومميزة.

كان الأدب شفويا في العصر الجاهلي، فضاع منه ما ضاع ووصل إلينا منه ما وصل، وصار يضم اليوم تحت جناحيه كل ما دُوّن من شعر بأغراضه المعهودة من مدح وفخر وهجاء ورثاء وغزل وحكمة وغير ذلك، وكل ما دُوّن من نثر كالخطب والرسائل بأنواعها المتعددة، والمقامات والقصص والروايات وما إلى ذلك. وهو عند الجاحظ: “إما خلق وإما رواية”. وفي المعجم الوسيط هو: “رياضة النفس بالتعليم والتهذيب على ما ينبغي، وجملة ما ينبغي لذي الصناعة أو الفن أن يتمسك به كأدب القاضي وأدب الكاتب، والجميل من النظم والنثر وكل ما أنتجه العقل الإنساني من ضروب المعرفة وعلوم الأدب عند المتقدمين تشمل اللغة والصرف والاشتقاق والنحو والمعاني والبيان والبديع والعروض والقافية والخط والإنشاء والمحاضرات. وجمعه آداب، وتطلق حديثا على الأدب بالمعنى الخاص والتاريخ والجغرافية وعلوم اللسان والفلسفة. والآداب العامة هي العرف المقرر المرضي”.

والأدب هو فن التعبير والإنشاء، وخلاصة التجارب الإنسانية المزركشة بجمال الألفاظ والمزدانة بجلال المعاني، بوشي من خيال وحلة من عاطفة، وتطلق تسمية الأدب العربي على كل ما كتب باللغة العربية من شعر ونثر فهما شقا الأدب الأساسيان، والشعراء كما وصفهم الفراهيدي أمراء الكلام؛ وفي ذلك دلالة على علو لغة الشعر وبلاغتها وتفوقها. وكذلك الحال في اللغات الأخرى، فلدينا الأدب الإنجليزي والأدب الفرنسي، والتركي والروسي وغير ذلك. وقد قُسم الأدب العربي، وفقا للعصور التاريخية لتسهيل دراسته وتحديد خصائصه في كل عصر من العصور، فهو بمنزلة الإعلام في أيامنا هذه، ويصدق عليه الوصف بالسلطة الرابعة منذ أقدم العصور، فقد نقل إلينا وقائع الماضي وحمل آلامه وآماله على أثير من كلام منظوم أو منثور، وأدى وظيفته الاتصالية والتواصلية والإخبارية والجمالية بأكمل وجه على الإطلاق، ودليل ذلك ما يقدمه لنا اليوم تراثنا الأصيل العتيق من أخبار وعلوم وما يقدر عليه من تحريك للمشاعر واستنهاض للهمم والأفكار.

يعرف تقسيم الأدب وفقا للعصور التاريخية عادة بتاريخ الأدب، فحين نتحدث عن تاريخ الأدب العربي نقسمه وفقا للعصور ابتداء من الأدب في العصر الجاهلي فالأدب في صدر الإسلام، فالعهد الأموي، فالعصر العباسي والأندلسي، ثم العصر المملوكي، وبعده العثماني، انتهاء بالأدب في العصر الحديث فالمعاصر. وقد شغلت دراسة تاريخ الأدب العربي المستشرقين أيضا، ولعل كارل بروكلمان يعد أشهرهم في كتابه تاريخ الأدب العربي، وانبرى كثير من المهتمين العرب إلى تأليف سلاسل من تاريخ الأدب العربي، أمثال حنا الفاخوري وشوقي ضيف وإحسان عباس وغيرهم.

إن الأدب دليل حضارة الأمم ورقيها وعنوان ثقافتها، وهو مرآة الواقع وانعكاس الأبعاد الإنسانية على الحياة، يصورها باحتراف الكلمة وبراعة الأسلوب ورؤية المبدع تصويرا موضوعيا أو ذاتيا بحسب حاله وأهدافه ورؤاه، ووفقا لأفكاره وأحاسيسه، واتكاء على قوة خياله ومدى موهبته وكفاءته في تطريز الكلم ونظمه انسجاما مع فكر عميق وعاطفة مرهفة، ليترك لدى المتلقين دهشة ولذة تمتع النفس وتخاطب الفكر والقلب والروح.

ما الغاية من كتابة الأدب أو قراءته؟

يتساءل كثير من الناس حول فكرة التزام الأدب بوظيفة معرفية محددة، أو أنه دون لمحض المتعة واتكاء على فكرة (الفن للفن) واستنادا إلى ذاتية المبدع ورغبته في التعبير والمشاركة والإمتاع كما هو الحال لدى مبدعي الرسم والموسيقا. فهل للأدب وظيفة معينة، أو هل له وظائف متنوعة؟ وما علاقته بالتاريخ؟ وهل يعد وثيقة تاريخية؟

ينقسم الناس في نظرتهم تجاه الأدب، وكذلك الدارسون المهتمون، إذ يذهب بعضهم إلى جعل الأدب وثيقة علمية تحمل الخبر بوصفه تاريخا أو معلومة تتناقلها الأجيال لتعتبر منها أو تبني عليها. ويقر هؤلاء بتنوع وظائف الأدب كالوظيفة الإبلاغية والمعرفية والتعليمية، ويعلون من شأن الأدب الملتزم الذي يهدف إلى التأثير في المتلقين وحثهم على تبني فكرة أخلاقية أو مجتمعية معينة والدفاع عنها والمضي بها قدما، إذ يرون أنه لا بد للأدب من رسالة واضحة وهادفة يتمحور حولها، كأن ينتقد ظواهر اجتماعية معينة، أو يحلل سلوكا نفسيا ما، أو يدعو إلى الثورة ربما أو الإصلاح والإعمار في شتى ميادين الحياة، ومن الأسماء اللامعة في هذا الاتجاه في عصر التنظير الأدبي والنقدي الفيلسوف والروائي الفرنسي جان بول سارتر.

ويفسر بعض الدارسين فكرة “التطهير” التي تحدث عنها أرسطو بوصفها وظيفة للفن تحرر المرء متلقيا سامعا أو قارئا من مشاعره السلبية وتساعده للتخفف من أعبائه النفسية حين يتماهى مع الفن، لا سيما إذا ما كان الأدب ممثلا بالمسرح ويخاطب حواس المتلقين كلها. في حين كان معلمه أفلاطون يرى أن الشعر يشوه الحقائق ويضلل الشعوب! وذهب المنظر والشاعر الروماني هوراس إلى أن الأدب عذب ومفيد، أي يجمع بين الوظيفة النفعية والجمالية معا.

وذهب آخرون إلى تحييد الأدب عن الالتزام بفكرة أو قضية ما وجعله فنا ذا وظيفة جمالية إمتاعية فحسب، وإنما أنشئ وفقا لذلك لإظهار القدرة والبراعة اللغوية وإمتاع القراء وإثارة دهشتهم وتسليتهم والترفيه عنهم، ورغبة بترك أثر أدبي يحمل أفكارهم وعواطفهم وأسماءهم.

وبالنظر إلى الأمر من زاوية القراء ومحبي الأدب، فهم يقرؤون للتثقف والتفقه وزيادة المعارف والاطلاع على التجارب الإنسانية ومعاينة أبعادها والاستفادة من نتائجها بدون الخوض فيها، فقد تفتح للمرء آفاقا جديدة للتعامل مع ما يواجهه في الحياة من مواقف مختلفة. وبعضهم يقرأ لملء أوقات فراغه وتزجيتها، ومنهم من يرى في مطالعة الأدب فرصة للهرب من عالمه الحقيقي ونسيان همومه والغرق في عوالم أخرى، لعله يجد نفسه فيما يقرأ فيفهمها بعمق أكثر ويدرك من ذاته ما جهله وعجز عن فهمه ووصفه وبيانه.

يحدثنا عباس محمود العقاد عن الهدف من مطالعة الأدب فيقول: “لا أحب الكتب لأنني زاهد في الحياة، ولكنني أحب الكتب، لأن حياة واحدة لا تكفيني… فالإنسان بزاد الفكر والشعور والخيال يستطيع أن يجمع الحيوات في عمر واحد، ويستطيع أن يضاعف فكره وشعوره وخياله كما يتضاعف الشعور بالحب المتبادل، وتتضاعف الصورة بين مرآتين”. ويقول أيضا: “لست أهوى القراءة لأكتب، ولا لأزداد عمرا في تقدير الحساب… ولكنك إذا لاقيت بفكرتك فكرة أخرى، أو لاقيت بشعورك شعورا آخر، أو لاقيت بخيالك خيال غيرك، فليس قصارى الأمر أن الفكرة تصبح فكرتين، أو أن الشعور يصبح شعورين، أو أن الخيال يصبح خيالين، وإنما تصبح الفكرة بهذا التلاقي مئات من الفكر في القوة والعمق والامتداد”.

أهم مصادر الأدب العربي

يقول ابن خلدون في كتابه العبر: “سمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول فن الأدب وأركانه أربعة دواوين: وهي كتاب الكامل للمبرد (285هـ)، وأدب الكاتب لابن قتيبة الدينوري (276هـ)، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ (255هـ)، وكتاب النوادر لأبي علي القالي البغدادي (356هـ)، وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع منها”. وعند إمعان النظر في اختيارات شيوخ ابن خلدون رائد علم الاجتماع نجد أنهم إنما أرادوا أن يجمع المرء بين مزيات شتى من الفكر واللغة والأدب والبلاغة؛ فمناهج هذه الكتب مختلفة غير أن هناك تقاربا بين كتابي الأمالي والكامل بحسب ما جاء على لسان ابن حزم، إذ قال: “كتاب نوادر أبي علي مبار لكتاب الكامل الذي جمعه المبرد، ولئن كان كتاب أبي العباس أكثر نحوا وخبرا، فإن كتاب أبي علي أكثر لغة وشعرا”. ومحصلة الكلام تدل على أن اختيار هذه الكتب الأربعة ليس اعتباطيا، بل يهدف إلى تعزيز معارف المطلع عليها في نواح متعددة وتدعيمها بكثير من المأثورات والقصص والحكم والسير والأمثال والشواهد الأدبية البليغة.

إن مفهوم الأدب أوسع بكثير من كونه محض فن كلامي فحسب، إنه السجل الإنساني الذي يؤرخ للمشاعر البشرية، ويوثق الأحداث الذاتية والجمعية وحركة التاريخ البشري بطريقة تلذ لها النفس وتميل لها الفطرة الطبيعية، وهو التأريخ المكتوب لخطرات النفس وحركاتها الداخلية في الأحوال البشرية كلها، من فرح وحزن ورضا وغضب وحل وترحال وإيجاد وفقد وخضوع وثورة، كما يؤرخ للأحداث البشرية بقدر تمحورها حول الإنسان بوصفه كيانا قائما بذاته، فهو مركزها ومحورها، وفي هذه النقطة يختلف مفهوم الأدب عن التأريخ، فكتب التاريخ تجعل من الحدث محورا ومركزا، لا الإنسان.

شاركها.
Exit mobile version