أدَّت الصحافة العربية دورا كبيرا في تكريس النقد الأدبي، كونه جنسا أدبيا أصيلا يُسهم في قراءة وتثمين الأعمال الأدبية على اختلافها وتنوّعها.

وتجاوز النقد المعاصر عملية تقديم إضاءات على العمل الأدبي، على أساس أن الكتابة النقدية تعدّ شكلا من أشكال الفكر، بحيث أصبح الناقد لا يكتفي بالمجال الأدبي ونظرياته ومفاهيمه، بقدر ما يُوسّع أفق اشتغالاته عن طريق استلهام مناهج معاصرة أكثر تعلقا بالعلوم الإنسانية ونظيرتها الاجتماعية.

ويعود هذا التلاقح المعرفي إلى التطورات الإبستمولوجية (المعرفية) التي عرفها حقل الأدب، بوصفه فضاء يُشبه النهر في جريانه وتعدّد منابعه، بل تلتقي فيه كل روافد المعرفة.

ونظرا للتحوّلات السياسة والاجتماعية التي ألمّت بالنظام الثقافي، فإن النقد نفسه لم يسلَم من هذا التأثير على مستوى تجديد منابعه الفكرية وطريقته في قراءة الأعمال والنظر إليها، على أساس أنها مختبرات معرفية قادرة على بلورة فكر أدبي جديد أكثر اتصالا بالواقع العربي وتحوّلاته.

ولو لم تكن الصحافة لظل النقد العربي حكرا على الكتب الجامعية، كما يقول نقاد؛ لأن الصحافة هي من عملت على ذيوع هذا الجنس الأدبي وأسهمت في تكريس إنتاجاته وأعماله.

بهذه الطريقة أصبحنا نُعاين داخل الملاحق الثقافية والصفحات اليومية والملفات الثقافية الأسبوعية نوعا من “النقد العاشق” الذي يُلغي أحيانا كل المفاهيم الفكرية والنظريات الأدبية وسياقاتها التاريخية، من أجل تقديم قراءة عاشقة للعمل الأدبي.

وهذا في حد ذاته أسهم في تطوير النقد الأدبي داخل الصحافة، وجعل كتاباته تتمتّع ببعض من الخصوصية المعرفية على مستوى التحليل.

النص النقدي والصحفي

نادرا ما يعثر المرء على كتاب نقدي، يُعاين تحوّلات العملية النقدية ويرصد أدوراها في علاقتها بتاريخ الصحافة العربية. كما هو الحال لكتاب “تحوّلات النقد الأدبي في الصحف العربية” للكاتبة اللبنانية ليندا نصار، بعدما رصدت فيه المسار المعرفي الذي قطعته الممارسة النقدية داخل الإعلام العربي. إنها دراسة أصيلة من حيث المبدأ، وتكشف عن المجهود الكبير الذي بذله كتاب وصحفيون داخل عدد من الصحف العربية في خلق دينامية إنتاجية متابعة للأعمال الأدبيّة ومُتخيّلها.

أخرجت الصحافة النقد الأدبي العربي من سراديب الجامعات وكهوف المدرّجات، وجعلته كتابة مفتوحة على تحولات الذات في علاقة بالمعرفة والمجتمع. فقد أصبح الأكاديميون يكتبون مقالات نقدية أكثر تحرّرا من مرض النسقية ومن المقدمات الطللية لصالح كتابة نقدية واضحة المعالم والرؤى، تبدأ من العمل الأدبي وتنتهي داخله.

هذا النمط من الكتابة النقدية سببه الصحافة وليس الجامعة. فلا غرابة أنْ تُطالعنا كتابات أصيلة تقرأ جوهر أعمال أدبية من خلال مقالات خاصة لصحف ومجلات، لكنْ يُعاد إصدارها داخل كتاب نقدي فيما بعد. هذا الأمر، يؤكّد المكانة التي بات يحبل بها النقد الأدبي الممارس داخل الصحافة (ليس النقد الصحفي) كونها نمطا نقديا جديدا.

تاريخ الصحافة العربية - الكويت

سهولة الانتشار

يقول الروائي والقاص مصطفى لغتيري في حديثه للجزيرة نت بأن “النقد ضروري جدا للإبداع عموما، وللأبداع الأدبي على الخصوص؛ لأن النص الأدبي، يبقى كامنا يكاد يكون دون حياة حتى يأتي النقد ليبث فيه الحياة من خلال القراءة الناقدة والعالمة، التي تمتلك الأدوات للتعاطي مع النصوص سواء عبر عناصرها الحيوية، أو عبر أبعادها الدلالية، أو خلفياتها الاجتماعية والنفسية والثقافية”.

لهذا، يكمل لغتيري، فإذا “كانت الاتجاهات النقدية متعددة، ولكل منها دورها وزاوية نظرها الخاصة في مقاربة النص الأدبي، فإن النقد الصحفي يتميز بكثير من الخصائص؛ منها: سهولة التعاطي معه من طرف جميع القراء بمختلف مستوياتهم، كما أنه يتمتع بسهولة النشر، فالصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية تُقبل عليه بكثرة، كما أنه يقدم خدمة كبيرة للأدب، من خلال التعريف به لدى جمهور القراء، بطريقة مختزلة ويسيرة ومحفزة على القراءة”.

ويرى صاحب كتاب “حب وبرتقال” أن “اغلب النقد الصحفي يعتمد على الذوق في اختيار النصوص وتقديمها للقارئ، فإن كثيرا من ممارسيه يتمتعون برؤيا واضحة ومنهج خاص بهم في قراءة النص الأدبي، غالبا ما يعتمد على الاهتمام بمضمون النص لتقريبه من الأفهام، دون إهمال الشكل الذي انكتب فيه، بالإضافة إلى تقديم نبذة مختصرة عن المؤلف، والجنس أو الأجناس الأدبية التي يكتب فيها”.

ويظن لغتيري بأن بعض من “ممارسي النقد الصحفي لهم القدرة على خلق الجدال أحيانا وتحريك مياه المشهد الأدبي الراكدة، من خلال طرح بعض القضايا الشائكة، التي يعاني منها الأدب عموما، أو تلك التي تطرحها النصوص الأدبية، أو حول ما يتعلق بـ(سوسيولوجيا) الأدب، عبر طرق قضايا حساسة خاصة بالكتاب حول ما يتعلق بنشره وتوزيعه، والمشكلات التي يتخبط فيها عموما، كما يمكنهم كذلك طرح قضايا تتعلق بالأدباء أنفسهم، من قبيل صراع الأجيال والكتابة النسائية وغيرها”.

بروز أجيال جديدة

أما الكاتب عبد اللطيف نجيب فيرى أنه “بقدر ما كان لمدافع نابليون دور في أعماق المشرق ونهضته، بقدر ما كان لهذه النهضة وقع في نفوس النخبة المغربية بكل أطيافها، وروادها المتعددين، بين تيارات التحديث والقومية وتيارات السلفية الإصلاحية. في هذا السياق كانت المنابر الإعلامية مجالا لطرح الأفكار ومناقشة القضايا، وطرح الأسئلة وتقديم أجوبة متعارضة ومتضادة أحيانا”. ويرى أن بعضا من النماذج الصحفية من الصحافة وليس كلها، أخذت على عاتقها رسالة التثقيف والتنوير، فكانت صفحاتها تضم مقالات في الفكر والسياسة والادب بكل أصنافه. استمر هذا التقليد في صحافتنا منذ زمن الاستعمار حتى أواخر تسعينيات القرن الماضي”.

أما بخصوص مواكبة الصحافة للمنجز الأدبي والفني بشكل عام، فيقول نجيب بأن “الأمر يقتضي الوقوف عند نقطة مركزية في نظري، تتعلق بالصحف الحزبية المصنفة في التيار التقدمي اليساري، خلال الستينيات والسبعينيات والثمانينيات وحتى بداية العهد الجديد خلال هذه الفترة، أو المرحلة، كان الدعم النضالي أشبه ما يكون عبارة عن التزام من جهة أدباء وكتّاب، لهم قناعة راسخة بأن المثقف هو من ينخرط في الشأن العام، ويسخّر قلمه للتنوير”.

ويتابع نجيب “لما كان الزخم الثقافي عنوان المرحلة، ظهر الملحق الثقافي، الذي كان منبرا للكتاب الرواد والشباب، العديد من أدبائنا ينشرون أولى أعمالهم على صفحات ملاحق ثقافية”. بالمقابل “كانت الحركة النقدية التي تنشر في الصحف محتشمة، إما لأنها موغلة في الشق النظري، وإما أنها أحيانا، هي تكملة للدرس الجامعي، وأحيانا أخرى تنساق نحو المحاباة والمجاملة. لهذا برزت لدينا نزعات نقدية، أكثر منها حركات نقدية رصينة، تواكب المنجز وتحفز على الجديد. أضف إلى ذلك الجدال العقيم بين أنصار الحداثة وأنصار التقليد”.

من ثم، فإنه من وجه نظر صاحب كتاب “الشاب حيران” بأن “أكبر خدمة قدمها النقد الصحفي للأدب، هو التعريف بالنصوص والأقلام الشبابية، ومن ثم منح الفرصة للعديد من الكتّاب والشعراء والقصاصين والمسرحيين من الظهور في المشهد الأدبي، بحيث أصبح لهم ركن دائم في صفحات صحف بعينها، أذكر هنا: عبد الكريم الطبال، ومحمد السرغيني، في صحيفة العلم، والأشعري وعبد الله راجع وحسن نجمي وغيرهم في صحيفة الاتحاد الاشتراكي بالمغرب، وغيرهم كثير”.

شاركها.
Exit mobile version