غزة – “.. فليكن أملا وليكن حكاية”، هكذا عبر الشاعر والكاتب الفلسطيني مصعب أبو توهة عن فوزه بجائزة بوليتزر، أرفع الجوائز الصحفية والأدبية في الولايات المتحدة الأميركية للتعليق الصحفي لعام 2025، عن سلسلة مقالات مؤثرة نشرها في مجلة “نيويوركر”، توثق معاناة الغزيين خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة التي أعقبت عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر/تشرين الأول من العام 2023.

ويعتبر أبو توهة في حوار خاص للجزيرة نت، فوزه بهذه الجائزة الرفيعة محطة مهمة في مسيرته الشخصية والمهنية، وإنجازا تاريخيا للقضية الفلسطينية، فمثل هذه الجائزة تعكس أهمية الكلمة والصورة في نقل معاناة الشعوب تحت الاحتلال.

وركزت مقالات أبو توهة في مجلة “نيويوركر” على الدمار الجسدي والنفسي الذي خلفته الحرب الإسرائيلية على زهاء مليونين و200 ألف فلسطيني في غزة، ومزج فيها بين التحقيق العميق والسرد الشخصي، في الفترة التي عايشها تحت القصف والدمار والنزوح، قبل تمكنه من مغادرة القطاع للولايات المتحدة برفقة أسرته الصغيرة. وإليكم نص الحوار:

كتبت المقال والشعر والقصة ولعبت كرة القدم، ولا أزال شغوفاً بسماع القصص عن جدي حسن الذي طرد من يافا وعاش ومات في مخيم الشاطئ قبل أن أولد. ولا أزال ألملم حجارة بيت جدي لأكتب بها حكاية المخيم لنعود معاً إلى يافا ونزرع البرتقال ونشاهد أفلاماً جديدة في سينما الحمراء يصنعها أحفادنا وربما نحن أيضاً.

  • ⁠مَن مصعب أبو توهة وكيف تعرف نفسك للقارئ العربي؟

كاتب فلسطيني ولدت في مخيم الشاطئ للاجئين بمدينة غزة في العام 1992، لعائلة هجرت من مدينة يافا في فلسطين المحتلة إبان النكبة في العام 1948، وترعرعت في مدينة بيت لاهيا شمال قطاع غزة، ليس بعيداً عن الحقول الزراعية والبلاد التي تبعد عنا يوماً بعد يوم.

كتبت المقال والشعر والقصة ولعبت كرة القدم، ولا أزال شغوفاً بسماع القصص عن جدي حسن الذي طرد من يافا وعاش ومات في مخيم الشاطئ قبل أن أولد. ولا أزال ألملم حجارة بيت جدي لأكتب بها حكاية المخيم لنعود معاً إلى يافا ونزرع البرتقال ونشاهد أفلاماً جديدة في سينما الحمراء يصنعها أحفادنا وربما نحن أيضاً.

حصلت على شهادة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية من الجامعة الإسلامية عام 2014، وأكملت دراسة الماجستير في الكتابة الإبداعية في جامعة سيراكيوز بنيويورك بالولايات المتحدة الأميركية.

أسست في العام 2017 “مكتبة إدوارد سعيد” العامة في غزة، وهي أول مكتبة بالإنجليزية في القطاع. وعام 2022، أصدرت مجموعتي الشعرية الأولى بنفس اللغة بعنوان “أشياء قد تجدها مخبأة في أذني: قصائد من غزة” والتي حصلت على جائزة الكتاب الأميركي، وجائزة الكتاب الفلسطيني، وكانت ضمن القائمة النهائية لجائزة النقاد الأميركيين.

لا يمكن للعالم أن يغض الطرف أكثر من هذا عن القصة والقصيدة الفلسطينية، خاصة التي تخرج من غزة هذه الأيام. وأضيف هنا الصورة، إلى جانب الكتابة، فقد تُوّج هذا العام، والذي سبقه مصورون بجوائز عالمية يجدر الاحتفاء بها.

  • ⁠ماذا يمثل لك الفوز بجائزة بوليتزر كأرفع جائزة أدبية وصحفية بالولايات المتحدة؟

هذه محطة مهمة في مسيرتي الشخصية والكتابية، ويعتبر إنجازاً للقصة الفلسطينية. لا يمكن للعالم أن يغض الطرف أكثر من هذا عن القصة والقصيدة الفلسطينية، خاصة التي تخرج من غزة هذه الأيام. وأضيف هنا الصورة، إلى جانب الكتابة، فقد تُوّج هذا العام، والذي سبقه مصورون بجوائز عالمية يجدر الاحتفاء بها.

الكاتب والشاعر مصعب أبو توهة ولد في مخيم الشاطئ للاجئين بمدينة غزة في العام 1992، لعائلة هجّرت من مدينة يافا في فلسطين المحتلة (مواقع التواصل)
  •   ⁠⁠كيف رُشحت لهذه الجائزة؟

من الشروط الأساسية للترشح، أن يكون العمل منشورا في موقع أو صحيفة بالولايات المتحدة الأميركية وليس بالضرورة، أن يكون المرشح أميركيا. ويختار مجلس الجائزة المكوّن من 19 عضوا لجنة من الصحفيين لانتقاء أفضل الأعمال، ثم تعرض الأعمال المرشحة الثلاثة في كل جائزة على المجلس الذي يتولى عملية اختيار الفائزين.

  • ⁠ ما الموضوعات التي أهلتك للفوز بالجائزة؟

أربع مقالات كتبتها عام 2024 في مجلة نيويوركر العريقة:

  1. مقالة عن التجويع في غزة، وكيف تعاني عائلتي ولا تزال في الحصول على الطعام.
  2. مقالة عن معنى السفر لي كفلسطيني من غزة، وهنا تحدثت عن رحلة السفر الأخيرة من مصر إلى الولايات المتحدة في يونيو 2024 ورحلتي لزيارة البوسنة والهرسك بعدها بنحو شهر. لقد تعرضت لتجارب سيئة في المطارات وكتبت عنها.
  3. مقالة عما تركته ورائي في غزة وقت خروجي منها في ديسمبر 2023، ليس فقط الأهل والبيت المدمر بل أيضاً كل ما كونته من ذكريات في مخيم الشاطئ وبيت لاهيا ومخيم جباليا، أساتذتي وطلابي، مكتبتي الشخصية ومكتبة إدوارد سعيد بفرعيها التي أسستهما وتم تدميرهما خلال الأشهر المنصرمة.
  4. مقالة عن مخيم جباليا الذي عشت فيه وقتاً، حيث بيت جدي لوالدتي، إذ لجأت فيه وفي مدارسه قبل خروجي. ماذا يعني أن تشاهد مخيم لاجئين يُمحى، ماذا يعني أن يحلم اللاجئ بالعودة، ليس ليافا وحدها، بل لمخيم جباليا وغيره. لماذا لا يزال هنا مخيم لاجئين أصلا؟
  • قبل مغادرتك غزة، عايشت أهوالا من الحرب، صف لنا ما مررت به؟

بعد أسابيع قليلة من بداية الحرب، بدأت بعض العائلات في شمال غزة بالنزوح نحو الجنوب، خاصة بعد التهديدات الإسرائيلية، وكنا نحن أهل الشمال مجبورين على الاختيار بين البقاء في منازلنا، رغم الخطر المحدق، وبين النزوح نحو الجنوب الأقل خطراً آنذاك.

آثرت وعائلتي البقاء في الشمال، لمعرفتنا بظروف النزوح ومآلاته، حيث لا بيوت تكفي العائلات ولا ملابس ولا فُرش ولا كتب.

وفي 12 أكتوبر/تشرين الأول 2023، فوجئت بأبي وأمي وإخوتي يحزمون الحقائب مغادرين بيتنا في بيت لاهيا بنية الذهاب إلى مخيم جباليا، حيث وُلدت أمي وترعرعت. وفيه لا يزال يسكن جدي وبعض أخوالي وخالاتي. وسوف يتوفى جدي طلال في 14 نيسان 2024 في المخيم، حيث ظل يرفض مغادرته رغم قصف منزله بمساحة سبعين متراً مربعاً في ديسمبر 2023.

ومع اشتداد القصف الهمجي، خاصة قصف المربعات السكنية، أذكر منها قصف مربع التلولي في المخيم نهاية أكتوبر/تشرين الأول، وقد راح ضحيته 400 شخص شهداء وجرحى، قررت العائلة الانتقال إلى إحدى مدارس الإيواء، التي تبعد مئات الأمتار عن شقتنا التي لجأنا إليها.

كان ذلك الاستهداف الأكثر رعباً في حياتي. كان يوماً مهولاً. خرجت لأبحث عن المكان المستهدف، وإذ به يبعد عنا نحو 500 متر فقط. ثمة مسعف يحاول إنقاذ طفلة داخل سيارة الإسعاف. شابان يحملان بطانية فيها جسد من دون رأس. والناس تجري، لا تعرف إلى أين. الغبار والركام لا يزالان يسقطان من السماء. أمٌ وأطفالها يصرخون، تستجديني الأم: “زوجي تحت الأنقاض، طلعوه”.

وصلت المربع المدمر، نحو 30 بيتاً. لا يمكنني أن أقول إنها دمرت، بل اختفت تحت الرمال. عدت إلى البيت في المخيم، أريت والدتي وإخوتي صور الدمار. وهذا ما دفع الجميع للخروج نحو مدرسة الإيواء القريبة. لم نحظ بغرفة فصل دراسي كباقي العائلات التي سبقتنا. فوزعنا أنفسنا على الجيران.

لم يكن الأمان هو ما ينقصنا فقط، فمنذ غادر موظفو أونروا الدوليون قطاع غزة، تعقدت ظروف الأسر النازحة. لا ماء ولا طعام يكفيان الأطفال وذويهم. لا نظافة في الحمامات. لا ممرضين يعتنون بالمرضى. كانت كارثة لنا جميعاً.

  • لم يكن خروجك وأسرتك من غزة سهلا، واعتُقلت وعذبت جسديا ونفسيا، كيف تصف هذه التجربة؟

في 14 نوفمبر 2023، ظهرت أسماؤنا؛ زوجتي وأطفالنا الثلاثة وأنا، على قائمة المسافرين عبر معبر رفح البري (المنفذ الوحيد للغزيين على العالم الخارجي) إلى خارج القطاع. طفلنا مصطفى يحمل الجنسية الأميركية، فأتيحت لنا فرصة السفر معه كعائلة ترعاه. وقد تأخر تحركنا من الشمال للجنوب، حيث المعبر، بسبب خطورة الطريق.

في صباح 19 من ذلك الشهر، ومع اشتداد القصف حولنا، قررت وزوجتي حمل أمتعتنا وأطفالنا والتوجه جنوباً، وكنت حزيناً جداً لأنني سأترك والدي وأشقائي وأطفالهم. لم تكن هناك وسائل مواصلات، لكن كان نصيبنا أن نجد عربة يجرها حمار.

استمرت الرحلة ما يقارب الساعة، إلى أن وصلنا دوار الكويت (على شارع صلاح الدين جنوب مدينة غزة) حيث يتجمع آلاف النازحين. معظمهم يرفعون بطاقاتهم الشخصية. لم أفهم ما المقصد من ذلك. فعلت مثلهم ورفعت بطاقتي الشخصية وجواز السفر الأميركي. وكان عشرات الجنود على يسارنا، يصوبون بنادقهم تجاهنا من وراء تلة رمل.

حان دورنا في اجتياز الدبابة، كانت تتحكم بعدد الناس الذين يجتازون الطريق كل مرة، كأنها جندي مرور. دخلنا عبر بوابة في منتصف الشارع، وإذ بنا نسمع صوت جندي إسرائيلي يتحدث العربية بشكل مفهوم: “امشو شوي شوي. ورا بعض. نزل بطاقتك الشخصية. فقط تطلعوا (انظروا) على جهتنا”.

لاحظت أنه كان ينادي بعض الأشخاص بوصف ملابسهم وما يحملون. لم يخطر ببالي البتة أن ينادى عليّ، فاسمي وعائلتي مدرج على لائحة المسافرين، التي توافق عليها إسرائيل. “الشب اللي لابس جاكيت أسود وشنطة سودا وحامل ولد لون شعره أحمر. نزّل الولد والأغراض وتعال هون”. كان ذلك الشاب أنا. قررت التوجه حاملاً طفلي، عمره ثلاث سنوات إلى الجنود لاستيضاح الأمر، لكن الجندي صرخ بي: “حط الولد والشنطة وتعال هون واقعد على ركبك ورا الشباب”.

كان في الساحة بين الجنود وبين طابور النازحين، ما يقارب 200 شخص من جميع الأعمار. وجندي ينادي عبر مكبر الصوت علينا بالأسماء ويطلب منا قول رقم بطاقتنا الشخصية، وعندما جاء دوري، وقلت رقم بطاقتي أمرني الجندي برفع يدي للأعلى والمشي نحو اليسار حيث يقف جيب عسكري وثلاثة جنود ينتظرونني وشاب آخر معي. اثنان من الجنود يصوبان بندقيتيهما نحونا، بينما أمرنا الجندي الثالث بخلع ملابسنا. بقينا بملابسنا الداخلية. ثم فوجئنا بطلبه أن نخلع كل شيء ونستدير.

دمرت قوات الاحتلال منزل مصعب أبو توهة واعتقلته وعذبته نفسيا وجسديا قبل اطلاق سراحه ومغادرته غزة-رائد موسى-غزة- الصورة من صفحة مصعب على موقع <a class=

طلب منا الجندي وضع ملابسنا والتوجه نحو جنديين آخرين سيتوليان مهمة تقييد أيدينا للخلف وتعصيب أعيننا بقطعتي قماش، قبل أن يجرنا أحد الجنود لمنطقة مجهولة.

أجلسني الجندي أمام ضابط إسرائيلي سيحقق معي. بدأت الحديث بالإنجليزية. تحدثت عن حياتي باختصار وعن شكل يومي خلال السابع من أكتوبر. “أنت ناشط في حماس” يلقي الضابط القنبلة أمام عيني المعصوبتين، أجبته: “لست كذلك”، ليرد: “عندنا معلومات عن ذلك”. وكان ردي: “هل لديك دليل؟ صورة فوتوغرافية، فيديو، دليل من الأقمار الصناعية؟”، لكمني على وجهي. “أنت من سيأتي بالدليل”. لن أنسى الشتائم التي تعرضت لها. وتم اقتيادي نحو جهة مجهولة. ربما كنا 10 في خيمة ما. كان الهواء البارد يعذب أجسادنا التي خلعوا عنها ملابسنا الدافئة. المدفع من خلفنا يطلق القذائف نحو غزة، وأتساءل في داخلي: هل أهلي بخير في الشمال؟، هل زوجتي وأطفالي بخير؟ هل وصلوا الجنوب أم وقفوا ينتظرونني بعد الحاجز بقليل؟.

بعد عشرة أيام خرجنا من غزة. نظرت إلى الوراء، إلى بوابة المعبر وهي تقول: “أهلاً وسهلاً بكم في فلسطين”، عبرت في ذهني مئات الصور من فلسطين، من غزة بالتحديد، الجغرافيا التي تُمحى كل يوم. المدن التي لم يبق تقريباً منها سوى أسماء شوارعها. وتساءلت: هل مرّ جدي حسن وجدتي خضرة بنفس الشعور عندما نظرا إلى الخلف وهما يغادران يافا في نكبة العام 1948؟. وهل ما زال حلم الفلسطيني في غزة يتسع للعودة إلى يافا وحيفا والناصرة، بينما هو يحلم بالعودة إلى بيت مدمر؟.

قذفونا في عربة عسكرية. بدأت بالسير. وصورت إطلاق نار متقطع من حولنا، وقلت في نفسي: ربما هي النهاية. يضربني جندي من الخلف ويأمرني بأن أخفض رأسي. أنا معصوب العينين ومكبل اليدين. أنزلنا الجنود بعد نصف ساعة.

يركلني جندي في معدتي. أطير، وأنا معصوب العينين ومكبل اليدين، نحو الأرض. ينقطع نفسي لثانيتين. ويدفعني جندي لكي أعدل من وضعية جلوسي. يركلني في وجهي. ينزف أنفي. ويقذفوننا مرة أخرى في حافلة عسكرية. ونصل بعد ساعتين تقريباً. ينزلنا الجنود من الحافلة، نغير ملابسنا، ننام على قطعة بلاستيكية نحيفة جداً. كان ذلك نهاية اليوم الأول.

في اليوم الثاني، تم التحقيق معي مساء. بعد خروجي من غرفة التحقيق وقبل نقلي لمركز الاحتجاز مع الآخرين، فاجأني جندي بالإنجليزية: “نعتذر عن الخطأ، سوف ترجع إلى البيت”. لم أكن لأصدق ذلك.

الجغرافيا في غزة تُمحى كل يوم، ولم يتبق من المدن سوى أسماء شوارعها (رويترز)

في اليوم الثالث، نادى الجندي المسؤول اسمي. بدأت الرحلة إلى المربع الأقسى. إلى طريق صلاح الدين حيث اختطفت. وبدأت الرحلة الأكثر قسوة، رحلة البحث عن زوجتي وأطفالي في دير البلح، ورحلة الاطمئنان على عائلتي الكبيرة في شمال غزة. هل فقدت أحداً؟.

قضيت ما يقارب الساعتين أبحث عن زوجتي مرام وأطفالي يزن ويافا ومصطفى، إلى أن دلني أحد الشباب في الشارع على المدارس التي نزح إليها سكان بيت لاهيا.

بعد عشرة أيام خرجنا من غزة. نظرت إلى الوراء، إلى بوابة المعبر وهي تقول: “أهلاً وسهلاً بكم في فلسطين”، عبرت في ذهني مئات الصور من فلسطين، من غزة بالتحديد، الجغرافيا التي تُمحى كل يوم. المدن التي لم يبق تقريباً منها سوى أسماء شوارعها. وتساءلت: هل مرّ جدي حسن وجدتي خضرة بنفس الشعور عندما نظرا إلى الخلف وهما يغادران يافا في نكبة العام 1948؟. وهل ما زال حلم الفلسطيني في غزة يتسع للعودة إلى يافا وحيفا والناصرة، بينما هو يحلم بالعودة إلى بيت مدمر؟.

شاركها.
Exit mobile version