في قاعة دراسية بجامعة اليرموك شمال الأردن، حيث يجتمع طلاب من جنسيات أجنبية مختلفة لتعلم اللغة العربية، وفي محاولة لاستحثاث قدراتهم، يطلب عبد الرحمن ياسين، الأستاذ في مركز اللغات، من طلابه تخيل أنفسهم قادمين من زمن يعود إلى 100 عام، محاولين التعبير عن ذواتهم في مجتمع جديد وغريب.
لم تكن هذه مجرد لعبة أدوار عابرة، بل كانت شرارة لواحدة من التجارب التعليمية المبتكرة في المنطقة وهي استخدام صناعة الأفلام الدرامية كوسيلة لتعليم العربية لغير الناطقين بها، فما بدأ كمحاولة لكسر روتين الحصص التقليدية، تحول إلى اكتشاف مثير، حيث يقول ياسين إن التجربة ساهمت لاحقا في خلق بيئة محفزة للطلاب، الذين كانوا في السابق مترددين في التحدث بالعربية، ليبدؤوا بالاندماج في الحوارات بحرية أكبر، بل استخدام المفردات الصعبة بطلاقة أثناء تأدية أدوارهم.
ولم يقتصر التأثير على تحسين المهارات اللغوية، بل امتد إلى تعزيز الثقة بالنفس وتقبل الأخطاء كجزء من عملية التعلم، وصولا إلى منتج إبداعي يرسم الصورة النهائية للتجربة ككل.
ويضيف للجزيرة نت إن التعليم القائم على التمثيل متبع في دول عديدة، لكن ما يميز نموذج جامعة “اليرموك” هو الانتقال من مشاهد تمثيلية بسيطة إلى صناعة أفلام قصيرة متكاملة، تُبنى من الصفر عبر ورش عمل تعليمية، حيث لا يقتصر الأمر على تعلم القواعد النحوية، بل يمتد إلى تجربة إنتاج فيلم حقيقي، من كتابة السيناريو واختيار الملابس التاريخية، إلى مواجهة الكاميرا وتحمل ضغوط التصوير، مضيفا أن “الأفلام أصبحت مشروعا جماعيا يجسد اللغة في سياقها الحيوي، حيث تختبر المشاعر، وتكتشف المواهب، وتبنى الثقة”.
التمثيل يعزز من “ثقافة اللغة”
تقول مديرة مركز اللغات في الجامعة الدكتورة رنا قنديل إن الطالب الأجنبي عادة ما يكون لديه حواجز مع اللغة حين يتعلمها، لكن تبقى فرص ممارستها والتعبير في المواقف الحياتية الطبيعية مقتصرة على تجربة نادرة مصنعة داخل الغرفة الصفية، فالانتقال بالطالب من مجرد متعلم إلى ممثل يستخدم اللغة في سياقات تمثيلية، يرفع من مستواه التعبيري ويمنحه تجربة لغوية أكثر عمقا.
وتضيف الدكتورة أن اللغة لا تقتصر على الرموز اللفظية، بل هناك لغة غير لفظية مثل الحركات والإيماءات ولغة الجسد وهناك الانفعالات والمواقف العاطفية كل ذلك مرتبط بثقافة اللغة، فالطالب هنا بنى جسرا بين كيف يشعر انفعاليا تجاه هذا الموقف والتعبير عن ذلك باللغة الثانية بالنسبة له، مضيفة بالقول إن هذا الطالب الذي يخوض هذه التجربة في بيئة المدينة التي يتعلم بها سيكون لاحقا سفيرا لهذه الثقافة هو والأعمال الفيلمية التي يصنعها.
وتشدد قنديل على أهمية الأفكار المبتكرة والتطوير على المستخدم أكاديميا للخروج بأفضل نتيجة مستشهدة على ذلك بمشروع “الشريك اللغوي” الذي يعمل على إيجاد شريك عربي للطالب الأجنبي يدعمه على المستويات الإنسانية والاجتماعية والأكاديمية ويرافقه في أغلب المواقف الحياتية بهدف اكتساب اللغة عبر الدمج المجتمعي، ولا يقتصر دوره كما في البرامج التقليدية على مجرد تعليمه مفردات وتعابير لغوية.
ولا تكمن القيمة الحقيقية لهذا الأسلوب التعليمي في المنتج النهائي فحسب، بل تمتد إلى ما يحدث خلف الكواليس، وهو ما يؤكده الدكتور عمر عكاشة، أستاذ اللغة العربية وتعليمها للناطقين بغيرها، إذ يقول إن “الأهم مما يظهر في الفيلم هو ما يحصل في الكواليس، من استخدام قدر من اللغة لا يمكن أن يتوفر بغير هكذا مشاريع، فالطالب مضطر هنا إلى أن يقبل ويرفض ويضحك ويستاء ويحدد المواعيد ويتعامل بشغف ويجرب ويكرر بالعربية، حيث تكاد تختفي اللغة الوسيطة هنا”.
ودعا عكاشة إلى إدخال التمثيل وصناعة مشاريع الأفلام كجزء أصيل من منهاج تعليم اللغة وليس مجرد نشاطات لا منهجية.

توفير السياق الواقعي ومحاكاة المواقف
من جهته، يقول عمرو ماضي الأستاذ المحاضر في جامعة هارفارد للجزيرة نت إن ما نطلق عليه “لعب الدور” يساهم بشكل كبير برفع الكفاءة اللغوية لدى المتعلمين وهي قدرتهم على استخدام اللغة فهما وإنتاجا في المواقف الطبيعية وهي ما يتم الانطلاق منه في تحديد قدرة المتعلم وما يناسبه.
وأضاف أن توفير السياق الواقعي عبر محاكاة المواقف الطبيعية في التمثيل يعزز عند الطالب الطاقة والواقعية وتقليل التوتر، وأنشطة لعب الأدوار بالتالي ليست المنتج النهائي الذي نراه إنما هي عملية طويلة من التحضير والتفاعل بين المتعلمين أنفسهم كل هذا هو أمر ممتع ومفيد لغويا فهو وظيفة في حد ذاتها للتغلب على مواقف مألوفة أو معقدة.
وختم بأن التمثيل يساهم برفع القدرة الثقافية، لأنه يعرض المتعلمين لسؤال كيف سيكون هذا الموقف في العالم العربي ليس فقط لغويا وإنما ثقافيا، كأن تقول “البقاء لله” في العزاء على سبيل المثال بدلا من الجملة المستخدمة في الغرب “أنا آسف”.
تعزيز الثقة لدى المتعلمين
وعن تجربته، يقول الطالب الإندونيسي أحمد نور، أحد المشاركين في تمثيل وإخراج الأفلام، “كانت التجربة جديدة، فلم أمارسها من قبل، وشعرت بالسعادة في تنفيذ هذا النشاط، وقد منحني الثقة والخبرة في التعامل مع المواقف المختلفة”.
أما الطالبة ديفانا، التي أدت دور “الأم” في أحد الأفلام، فقالت للجزيرة نت “بصراحة أنا منطوية قليلا، لكن ساعدتني التجربة في التفاعل، وقد استفدت لغويا في القواعد النحوية والصرفية، كما منحتني التجربة بناء الثقة في نفسي، وأعطتني خبرة رائعة”، مشيرة إلى أن الفكرة بدأت في حصة الاستماع “عندما أدينا دور شخصية من الماضي، فأعجب الأستاذ بأدائنا، ونفذنا لاحقا الفيلم”.
وفي 12 فبراير/شباط الحالي، شهدت جامعة اليرموك عقد ندوة أكاديمية تناولت التجربة بعنوان “التمثيل مدخلا في تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها: من الفهم إلى التطبيق”، بحضور رئيس الجامعة وأساتذة من جامعات عربية ودولية، تبعها عرض فيلمين قصيرين هما “أشرم حول أسوار صامدة” و”عيني فداك يا ولدي”، كنماذج لهذا التوظيف.
ويشهد الأردن إقبالا من طلبة دول أجنبية عديدة لتعلم اللغة العربية، لا سيما اللهجة الأردنية المحكية، ويعزوا الخبراء ذلك لقرب اللهجة المحلية الأردنية ولغة بلاد الشام بشكل عام من اللغة العربية الفصيحة.