لِي حَبِيبٌ خَدُّهُ كَالوَرْدِ            حُسْنًا فِي بَيَاضِ

هُوَ بيْنَ النّاس غضْـ ـ         ـبانٌ وفي الخُلْوةِ راضِ

فمَتَى يَنْتصِفُ المَظْ               ــلومُ والظّالِمُ قاضِ

تبدو الباحثة والشاعرة المغربية مثال الزيادي متأثرة وهي تلقي هذه الأبيات للشاعرة الأندلسية “البلشية”، وذلك خلال توقيع كتابها “أخبار وأشعار شواعر الأندلس.. من الفتح إلى سقوط غرناطة” بمعرض للكتاب بمدينة مراكش.

وتبدي أسفا ظاهرا لأنه “لم يصلنا من تراث هؤلاء الشواعر إلا اليسير منه، أو سوى لقب شاعرة، أو بيت يتيم أو شطر بيت، ومنهن من ضاع اسمها وبقي ما وصلنا من شعرها، على قلته، مقترنا بلقب الجارية أو العروضية”.

تقول الزيادي للجزيرة نت إن الكتاب الصادر حديثا -وهو أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه تحت إشراف الدكتور محمد الظريف- جمعت فيه ما تفرق في المصادر، وسعت إلى وقف نزيف الضياع الذي لحق تراث الشاعرات الأندلسيات.

نبض المعنى

من يتابع ما كتب عن شعر الأندلس بصيغة المؤنث يجد تعسفا في ذلك؛ إذ اهتمت الدراسات بفترة زمنية محددة، أو اقتصرت على بعض الشواعر، بل أوردت شعرهن معزولا عن الأخبار المحيطة به.

ويقول الأكاديمي المغربي الدكتور محمد عيناق للجزيرة نت إن أطروحة الزيادي “نجحت في الجمع بين الشعر والخبر، لأن أشعار شواعر الأندلس لا يمكن فصلها عن سياقها العام، ولا يمكن فهمها بعيدا عن أسباب ورودها”.

ويضيف أن هذا الجمع هو اكتشاف “لنبض المعنى” الغائب في شعر شواعر الأندلس.

الدكتور محمد عيناق: أطروحة الزيادي نجحت في الجمع بين الشعر والخبر (الجزيرة)

ويؤكد الزيادي أن المجتمع الأندلسي كان منفتحا على ثقافات متعددة ومتنوعة، تمتعت فيه المرأة بحرية كبيرة؛ فشاركت الرجال مجالس الأدب وناظرتهم شعرا، وظهر تأثير ذلك في جرأتها في تناول بعض الموضوعات مثل الغزل أو الهجاء المدقع.

وتوضح الزيادي أن “البلشية” -مثلا- تعترف بحبها، وتصف جمال حبيبها من بياض الخد، فتشبهه بالورد، ثم تصف جفاءه وغضبه منها، وكونه هو الظالم والقاضي في الوقت نفسه.

فهي عبرت عن معاناتها في أبيات مختزلة، بمعان عميقة اعتمدت فيها على المحسنات البديعية كالطباق والجناس.

منسيات

تنقل الزيادي المتلقي إلى حقبة زاهية للأدب، قبل أن ترسخ في ذهنه “الظلم الذي لحق بشواعر الأندلس”. وترجع أسباب ذلك إلى “استفراد الرجل بتدوينه في كل مرحلة تاريخية بوضع المعايير الخاصة التي ينتقي بها ما يستحق التوثيق من النصوص، فكان موقفه من الأدب المكتوب من قبل النساء غالبا موقفا مجحفا”.

وتستحضر ما جاء على لسان ابن بسام (الأديب والعالم والشاعر) في كتابه “الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة” الذي وثق فيه لأعلام الأندلس.

وتشير إلى أنه قفز على عدد من الشواعر الأندلسيات، بل وصرح بهذا علنا كما في موقفه من الشاعرة ولادة بنت المستكفي، حيث ذكر في معرض حديثه عنها أن لها شعرا، لكنه لم يجد فيه ما يستحق التدوين إلى جانب أشعار بقية الأعلام الذين أورد أسماءهم.

ويقول “كانت -زعموا- تقرأ أبياتا من الشعر، وقرأت أشياء منه في بعض التعاليق أضربت عن ذكره، وطويته بأسره، لأن أكثره هجاء، وليس له عندي إعادة ولا إبداء، ولا من كتابي في أرض ولا سماء”.

تأملات- شاعرة غرناطة التي برعت في كل أدب

وافدات

وبعد ذكر 36 شاعرة أندلسية، تبرز الباحثة وجود 4 شاعرات وافدات وصلن إلى الأندلس؛ 3 من الشرق (سارة الحلبية، وقمر البغدادية، والجارية العجفاء) ورابعة من بلاد الروم (قلم الجارية)، وكلهن تأثرن بالبيئة الأندلسية.

وتشرح الزيادي أنهن تطبعن بطباع الأندلسيات، حتى أصبح من الصعب التمييز بينهن، لأنهن قدمن صغيرات إلى الأندلس، فتلقين التعليم والتربية في القصور والدور الأندلسية، وحفظن الأشعار والمتون، فلما برزت الشاعرة منهن كانت تضاهي غيرها من الأندلسيات.

من الحكايات الطريفة التي رويت عن العجفاء، ما ذكره الأرقمي عن مجيئه رفقة صاحبه أبي السائب إلى دار مسلم بن يحيى مولى بني زهرة، فلما رآها “عجفاء كلفاء” استصغرها فلما تناولت عودًا فغنّتْ:

بِيَدِ الذِي شَغَفَ الْفُؤَادَ بِكُمْ     تَفْرِيجُ مَا أَلْقَى مِنَ الْهَمِّ

فَاسْتَيْقِنِي أَنْ قَدْ كَلِفْتُ بِكُمْ     ثُمّ افْعَلِي مَا شِئْتِ عَنْ عِلْمِ

قال الأرقمي “فتحسنَت في عيني، وبدا ما أذهبَ الكلَفَ عنها، وزحفت مع أبي السائب على الأرض. ثم انتقلت الجارية إلى شعر آخر، فغنّتْ، مما أفقد الرجلين صوابهما”.

تأثر

من يبحث في ما قدمته شاعرات الأندلس من وصلات يتأثر، بل يصبح عاشقا، وينعكس ذلك في مجال اهتمامه وأيضا في إبداعه الشعري.

وهو ما حصل للشاعرة “مثال” على قول الأكاديمي محمد عيناق الذي أشار إلى اشتراك نساء الضفتين -وبالأخص بين “مثال” وشواعر الأندلس- في أمرين: الجرأة في الاختيار، والتعبير عما يحيط القلب من ولع.

تكتب “مثال”:

وجهتي كانت خاطئة

حين أحببتكَ دون بوصلة

وجعلتُ من ذؤابة قلبي نارا تدفئُك

وتركتُ الظلام دون مأوى

و”توظف “مثال” أسماء الأماكن والأعلام البشرية في نصوصها الإبداعية، لخلق دلالة شعرية خاصة بها”، كما يضيف المتحدث ذاته.

وتكتب:

يا ملوكَ الطوائف

اهنؤوا بسحر العروش

مطرزةٌ أكفانكم

بآهات النغم

تنساب بين الجفون

حاضرة أنا وعُريُ اغترابي

يهيم على رذاذٍ متوسطي.

شاركها.
Exit mobile version