فحص الأستاذ مالك بن نبي ظاهرة البطولة والأبطال في الأمم والشعوب بنظرة واقعية حصيفة، فأكد أن الأبطال هم سبب بقاء ذكرى أقوامهم في ذاكرة التاريخ، وبالفعل لقد بقي الإسلام يبعث في الأمة أجيالا من الأبطال.

وقادت تلك الأجيال مواجهة جحافل الاستعمار الغربي أثناء صعوده وتمدده بكل القارات في فترة عصيبة من تاريخ الأمة الإسلامية كانت تنحدر فيه إلى هاوية الضعف والتخلف، فبقدر ما استطاع الاستعمار الغربي محو آثار حضارات وثقافات قديمة احتل شعوبها، بقدر ما فشل بتحقيق ذلك عند تحكمه في بلاد المسلمين.

يوجه بن نبي السؤال عن مصير القبائل الأميركية قبل كريستوف كولومبوس أين هي؟ وكيف دفنها التاريخ في طياته؟ ويمكن أن نوجه السؤال معه: كيف استطاع الغرب أن يغزو العالم بأسره بأفكاره المادية ونظمه العلمانية حتى صارت وجهة لكل الدول حتى التي لها حضارات عريقة من غير حضارته، ولم يستقر له الأمر إلى الآن إلا في بلاد المسلمين.

فنؤكد مع بن نبي أن ذلك “خيرُ شاهد على أن الإسلام بما انطوى عليه من قوة روحية، كان للذين يتمسكون به درعا من أن تحطمهم الأيام، أو يذوبوا في بوتقة المستعمر، يتقمصون شخصيته”. وما قيل عن الاستعمار القديم، يقال عن الاستعمار الجديد، وخدامه في عروش الاستبداد، لن تواجهه النخبُ العاديةُ التي لا تذكر إلا كالأرقام المتناثرة لا أثر لها في التاريخ، وإنما يعجزُه الأبطالُ الذين يدفع بهم الإسلام إلى ملاحم التاريخ ممن يتمسكون بهديه ويضحون لكرامتهم ولأجله.

ضرب بن نبي أمثلة عديدة من هؤلاء الأبطال في الواقع الجزائري المغاربي تحت سلطة الاستعمار، كالأمير عبد القادر وعبد الكريم الخطابي وقادة المقاومة الآخرين، وعن بعض الشخصيات التي انتفضت بمفردها، كالشيخ صالح بن مهنا وعبد القادر المجاوي وأمثالهما ممن حاصرهما الاستعمار وعزلهما لكي لا تنفذ كلماتُهم إلى الجزائريين، فيشدُّ النوم بأجفانهم على الدوام.

غير أن مالك بن نبي اعتبر البطولة بلا مشروع “كملاحم الأوديسة والإلياذة لا توجّهُ فيها الشعوب طاقتَها الاجتماعية نحو أهدافها الواقعية، سواء كانت الأهدافُ قريبة أم بعيدة”، وما “جهود الأبطال الذين يقومون بأدوارهم في تلكم الملاحم إلا جهود من أجل الطموح واكتساب المجد أو إرضاء للعقيدة”.

وبالفعل كانت المقاومة الشعبية الجزائرية، والعديدُ من الصيحات “الضميرية الفردية” منذ دخول الاستعمار إلى بداية القرن العشرين دفاعا عن الأرض والعرض والشرف بقيادة العلماء ورجال التصوف، فلم تُعرف المقاومة إلا بأسمائهم. لقد كانت هبّاتُ النخوة تلك، الدينيةُ العاطفية، كما يقول بن نبي: “تتمثل في جرأة فرد لا في ثورة شعب، وفي قوة رجل لا في تكاتف مجتمع، ولم تكن صيحاتها صيحات شعب بأكمله، وإنما كانت مناجاة ضمير لصاحبه، لا يصل صداه إلى الضمائر الأخرى، فيوقظها من نومها العميق”.

الاستعمار الجديد

وكذلك هو الحال اليوم في مواجهة الاستعمار الجديد ومواجهة منتَجه الاستبدادي، يستطيع الأبطال بهبات الضمائر أن يبقوا جذوة المقاومة مشتعلة، ولكنهم لن يحققوا الهدف ما لم تكن الصحوة صحوة شعوب وأمة، فالبطولة شرف عظيم لأصحابها وقومها وجيلها ولكن أثرَها محدود في التاريخ.

اعتبر الأستاذ مالك بن نبي أن الأمة في الفترة التي كان يفحص حالَها في نهاية الأربعينيات بأنها في مرحلة إرهاصات ما قبل العبور الحضاري، وعدّ الحركات الإصلاحية التي بدأت بتوصيف الأزمات من قِبل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا بأنها قد تحولت إلى حركات إحيائية حركت أمة بكاملها، فتحدث عن محمد إقبال في شرق آسيا وعن الشيخ حسن البنا في مصر وبلاد المشرق.

وركز في كتبه على جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي عرفها عن قرب فوصف أثرها في الشعب الجزائري قائلا: “لقد رجعت الحاسة الاجتماعية إلى الجزائر، بمعنى أنها قد عادت إلى الحياة التي يستأنف فيها كل شعب رسالته ويبدأ تاريخه”.

وكان المنهج الجامع لتلك الحركات الإحيائية كلها أنها تنطلق من داخل الإنسان حين يصلحه القرآن، وفق قوله تعالى في الآية التي اختارتها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين شعارا لها: “إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ” (سورة الرعد: من الآية 11)، إلى آفاق المستقبل من أجل الاستئناف الحضاري لأمة بكاملها.

إن الفرق بين الهبة البطولية الفردية والحركة الإحيائية الجماعية أن الأولى تحفظ من الاندثار وتتوقف في لحظة تاريخية محددة، والثانية تصنع الحضارة وتسير في التاريخ. وذلك الذي كان، فقد مكّنت المقاومات الدينية ضد الاحتلال من إنهاء إبطال مشروع الإلحاق الحضاري الاستعماري لشعوبنا، وساهمت في إخراجه من بلادنا ولكنها لم تصنع الحضارة.

ثم جاءت على إثرها حركات الإحياء الإسلامي لتصحح المسار فسجلت الفكرة في الأنفس ورسختها في المجتمع فصنعت صحوةً هي اليوم المشروع الوحيد الجاد الذي يقرع الفكرة الاستعمارية الدخيلة بالفكرة الإسلامية الأصيلة.

وقد أكدت الأيام فكرة مالك بن نبي بـ”أن مشكلة كلِّ شعب هي في جوهرها مشكلة حضارية، ولا يمكن لشعب أن يفهم ويحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات وتهدمها”، وما لم ينتقل من صناعة الفرد البطل إلى صناعة الجيل البطل، من مواجهة الاستعمار وأذنابه حين يصل ضره إلى البيت والقرية والبلد إلى مواجهة مشروعه في ساحة عالمية شاسعة، بالتحالف مع كل من يخاصمه ويعاديه ومع كل متضرر من ظلمه في كل الملل.

على هذه القاعدة تُعدُّ أجيال العبور الحضاري، هكذا أعد الله صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين رفع اهتمامهم إلى معارك الفرس والروم في سورة الروم، وإلى ما بعد أفق الأرض والزمان نحو القسطنطينية (إسطنبول) بل إلى حيث مبلغ الليل والنهار.

وهكذا هي معركة “طوفان الأقصى” اليوم، حالة سننية أتت لتصحيح ترهلٍ، وصف مالك بن نبي كيف يصيبُ الحركات الإحيائية، معركةٌ عالمية تاريخية تتجاوز حدود غزة وحدود فلسطين والعرب والمسلمين، ترتفع بفكرتها إلى أحداث الإنسانية المرهقة بظلم النظام العالمي الظالم لتغيره.


  • الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
شاركها.
Exit mobile version