في زوايا الموانئ والمطارات، وعلى متن قوارب متداعية، تتكرر الحكاية: شباب يحلمون بالخلاص، يتركون خلفهم عائلات مفجوعة، متشبثين بآمال عابرة للحدود، لكن كثيرًا ما تنتهي رحلاتهم قبل الوصول في أعماق البحار وأدغال الغابات، لكن تلك الرحلات -النظامية وغير النظامية- تفتن المبدعين لللتفاعل معها، فتستوي روايات ولوحات وأغاني وأعمال درامية، يطبع جميعها المتلقي ويفتنه، رغم الألم وبشاعة ما تعبر عنه؛ وتلك لعمري مفارقة

لكن، ليست كل الخطابات المنبثقة عن الهجرة، والارتحال بصفة عامة، قاتمة، بما أن الأمر مرتبط بطبيعتها، اختيارية أم اضطرارية، ودواعيها، من أداء منسك ديني إلى تحصيل علمي، إلى نفع معرفي، إلى تحسين وضع معيشي، إلى رغبة في الانفتاح على الآخر؛ والأمر مرتبط كذلك بخواتيمها، إما نجاح وإما انكسار، أو حتى هلاك.

اقرأ أيضا

list of 2 items

list 1 of 2

معالم سورية في عهد الحرية بعد الاستبداد

list 2 of 2

“مكتبة طريق الحرير” في بكين.. طموح ريادة ترجمة الكتاب العربي إلى اللغة الصينية

end of list

ولأن الهجرة على هذا الثراء من جهة ملابسات حدوثها عبر التاريخ، فقد تعددت المصطلحات الدائرة في فلكها، كالارتحال والاغتراب والإبعاد والترحيل والتهجير والنفي؛ والمعنى الجامع إجمالا هو الانتقال من منطقة الإقامة الأصلية أو حدود بلد المنشأ إلى وجهة أخرى.

ثمة صنفان رئيسيان من سردة حكايات الهجرة، صنف زاولها وامتهن التوثيق لغايات براغماتية، وصنف تفاعل معها أدبيا وفنيا، سواء مر بالتجربة أم لم يمر، لكن عناه شأنها، وعناه شأن من سالت أرواحهم جراءها؛ فيأتي التعبير منسجما مع مقولة المفكر والأديب التونسي محمود المسعدي: “الأدب [ومثله الفن] مأساة أو لا يكون”، لغاية التخفف من أوجاع التعاطف الحاد مع “الضحايا”، وتعرية فظاعة مآلاتهم، في ظل تهرب أصحاب القرار من إيجاد الحلول المنجية، وانتفاء علامات الانفراج.

إعلان

وتبقى الإحاطة بالمنجز الأدبي والمرجعي المقترن بالارتحال عن الديار عسرة، لتشعب المسألة وضيق مجال تناولها، وامتداد المدونة العربية على فترات زمنية متعاقبة. وعلى هذا الأساس، نجيز لأنفسنا البدء بذكر مركزية تصوير الشاعر الجاهلي رحلته الشاقة، حقيقية كانت أم وهمية، في القسم الاستهلالي، للقصيدة المعيارية، خاصة في غرضي المدح والغزل، طمعا في صلة الممدوح أو وصل الحبيب.

وما الظعن بغريب عن نمط عيش العرب قديما في فيافيهم، ترسما لمواقع الماء ومنابت الكلأ، من أجل البقاء. إلا أن ما ذكرناه لا يجيز لنا إدراج الهجرة المحمدية في سياقنا هذا، لقدسيتها وفرادة دواعيها ومقاصدها.

سلسلة الرحالة.. الشريف الإدريسي .. الجزء الأول

تجارب الرحالة العرب

ولنا في مستعذب تجارب الرحالة العرب ومضنيها، ومستطرف أوصافها ومألوفها، وجديد معارفها ومتداولها، ما يشدنا ويذهلنا. لقد كشفت لنا تجاربهم عن سعة اطلاعهم، وبلوغهم أماكن قاصية من العالم، وانجذابهم إلى التأليف في مجالي الجغرافيا والتاريخ خاصة، وانتهاجهم، ما أمكن، الحذر العلمي وتصحيح الخطأ السائد وتقديم الإضافة، كما سيأتي؛ لقد أضحت أعمالهم التي ترجمت إلى لغات كثيرة مراجع معتمدة من المهتمين وأهل الاختصاص عبر العصور. وسوف نستدعي بعضا من هؤلاء الأعلام:

  • نبدأ بابن خرداذبه (205-300 هـ)، مؤلف “المسالك والممالك”، أقدم كتاب عربي في الجغرافيا الإدارية؛ ومن أقواله، في ذلك الوقت، عن جاذبية الأرض وكرويتها: “إن الأرض مدورة كدوران الكرة، موضوعة كالمحة في جوف البيضة والنسيم حول الأرض، وهو جاذب لها من جميع جوانبها إلى الفلك، وبنية الخلق على الأرض أن النسيم جاذب لما في أبدانهم من الخفة، والأرض جاذبة لما في أبدانهم من الثقل لأن الأرض بمثابة الحجر الذي يجتذب الحديد”.
  • وعن إضافة الجغرافي والمؤرخ القرشي ابن حوقل (ت 367 هـ)، في كتابه “صورة الأرض”، يذكر أن إحدى رحلاته الكثيرة جدا حطت به عند خط عرض 20 (عشرين) درجة تحت خط الاستواء على الشاطئ الشرقي لإفريقيا (وهي التسمية القديمة لشمال القارة الإفريقية)، فلاحظ وجود عدد كبير من السكان، على عكس ما كان يعتقده الإغريق.
  • ومن كبار مؤسسي علم الجغرافيا الحديثة، الإدريسي (493-560 هـ) الذي استخدمت مصوراته وخرائطه في كشوف عصر النهضة الأوروبية، من كتابه “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق”؛ واشتغل أيضا على تحديد اتجاهات الأنهار والبحيرات والمرتفعات.
  • من جهته، أسمى الجغرافي ابن جبير (549-614 هـ) رحلته “تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار” المشتملة، فضلا عن مشاهداته في البلدان الإسلامية والمسيحية التي زارها، على ثبت بمصطلحات عصره في بناء السفن والملاحة البحرية.
  • ولابن بطوطة الطنجي (703-779 هـ) مكانة مرموقة بين هذا الصنف من العلماء العرب. إنه أعظم رحالة مسلم في العصور الوسطى، فقد استغرقت رحلته سبعا وعشرين سنة، زار أكثر من أربعين دولة، قاطعا أكثر من مائة وعشرين ألف كيلومتر، امتدت من المغرب الأقصى إلى الصين وماليزيا والفلبين. ولقبته جامعة كامبريدج ب”أمير الرحالة العرب المسلمين”، وقد دون ما عاشه (على يد ابن جزي) في كتاب “تحفة الأنظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار”.
  • وليس لنا أن نودع هذا العقد المنظوم من أعلام العرب بلغت شهرتهم العلمية والأدبية الآفاق، دون ذكر العلامة ابن خلدون (732-808 هـ). لقد آتت أسفار هذا الرجل الذي قضى ردحا مهما من سني عمره في التنقل ما بين تونس وأرجاء المغرب والأندلس ومصر والشام والحجاز أكلها في سفر “المقدمة” ذائعة الصيت، إذ بفضلها أقر العالم بأن صاحبها هو مؤسس علم الاجتماع وواضع أصول فلسفة التاريخ، والبارع، إلى ذلك كله، في علم الاقتصاد والتخطيط العمراني.

إعلان

وإن من درس تتعلمه الأجيال من ابن خلدون وتستفيد منه في فهم المسائل وتدارسها، فهو تعريفه للتاريخ، وقد أثبت له وجهين في قوله: “التاريخ في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأولى، وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق؛ فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن  يُعدَّ في علومها وخليق”.

صياغة ابن خلدون البلاغية هذه دليل على أن مدونة الرحالة العرب ذات الطابع المرجعي في الأصل، لا تعوزها القيمة الأدبية، وقد تجلى ذلك من خلال ما اصطفوه من عناوين لمؤلفاتهم آنفة الذكر؛ وللتذكير، فإن “مقدمة” ابن خلدون هي مقدمة لمؤلفه الضخم “كتاب العبر”، واسمه الكامل: “كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر”.

نعود إلى القرنين الرابع والخامس للهجرة، لنقف، في غير إطالة، على اضطرار عدد من مفكري إفريقية، وتحديدا تونس، إلى مغادرتها، زمن زحفة بني هلال عليها.

جل هؤلاء المرتحلين هم من مدينة القيرون، وقد يمموا إجمالا شطر الأندلس؛ أما كتاباتهم، فيغلب عليها الأدب الذي لا يعدم إشارات تاريخية؛ حسبنا ذكر ثلاثة منهم:

  • ابن شرف (388-460 هـ).
  • وابن رشيق (390-456 هـ)، صاحب كتاب “العمدة في محاسن الشعر ونقده وآدابه”.
  • وعلي الحصري (420-488 هـ)، القائل في رثاء مسقط رأسه، ورثاء نفسه أيضا:

موت الكرام حياة في مواطنهم *** فإن هم اغتربوا ماتوا، وما ماتوا

يا أهل ودي لا والله ما انتكثت *** عندي عهود ولا ضاقت مودات

ابن رشيق (390-456)، صاحب كتاب “العمدة في محاسن الشعر ونقده وآدابه” (الجزيرة)

وفي الحقيقة، تألبت على هذا الشاعر الضرير مصائب كبرى ثلاث، نكبة بلاده، وفرار زوجته، وموت ابنه يحيى الذي لم يحي أكثر من ثماني حجج، وقد خصه بديوان في الرثاء عنوانه “اقتراح القريح واجتراح الجريح”.

إعلان

هذا الشاعر هو أيضا صاحب القصيدة الأوفر حظا، غناء ومعارضات شعرية، التي مطلعها:

يا ليل الصب متى غده *** أ قيام الساعة موعده

ومن لآلئ الأشعار التي إليها تهوي الأفئدة وعلى روعتها تجمع الأذواق، ما جادت به قريحة المتنبي (301-354 هـ) الضارب في الأرض بين العراق وبلاد الشام ومصر وبلاد فارس، مادحا أصحاب المجد والذائدين عن الحمى، وحتى مطمعيه بنيل المنى؛ وهاجيا الزمان وأهله من مخلفي العهود.

هو القائل في مدح سيف الدولة ومدح كافور وهجائه وذم الزمان، على التوالي:

وقفت وما في الموت شك لواقف *** كأنك في جفن الردى وهو نائم

ولكن بالفسطاط بحرا أزرته *** حياتي ونصحي والهوى والقوافيا

جود الرجال من الأيدي وجودهم *** من اللسان، فلا كانوا ولا الجود

صحب الناس قبلنا ذا الزمانا *** وعناهم من شأنه ما عنانا

وتستمر رحلتنا مع مفكرين وأدباء كلفوا بمهام خارج بلدانهم، أو لبوا نداء الحاجة المستقرة في نفوسهم إلى التنقل، فكتبوا عن تجاربهم.

  • ففي أواخر عشرينات القرن التاسع عشر، وفي سياق نزعة التحديث التي هبت رياحها على بعض البلدان العربية، أتيح للمفكر والكاتب المصري رفاعة رافع الطهطاوي أن يكون على رأس بعثة تعليمية إلى باريس، لمدة خمس سنوات (1826-1831)، بتكليف من الوالي محمد علي؛ ومن قطاف هذه الرحلة، كتاب “تخليص الإبريز في تلخيص باريز” الذي أعمل فيه الطهطاوي فكره النقدي، والذي لم يرده مجرد وصف لرحلة، وعرض لمعارف تاريخية وجغرافية وسياسية واجتماعية، بل أراده دعوة إلى الارتقاء عن طريق التعلم والبحث.
كتاب تخليص الإبريز في تلخيص باريز للمفكر رفاعة الطهطاوي (الجزيرة)
  • وليس بعيدا عن هذا، وفي ستينات نفس القرن، ألف خير الدين باشا، رمز الإصلاح بالبلاد التونسية، كتابه الشهير “أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك”، الصادر سنة 1867، وفيه انتصار للتصور الإسلامي للحكم، المراعي للحرية والعدل والمساواة، مع ضرورة تعهد ما هو قائم بالاجتهاد في الشريعة بما يتلاءم مع ظروف العصر، وضرورة الأخذ بالمعارف وأسباب العمران الموجودة في أوروبا؛ ويأتي هذا بعد إقامة الرجل أربع سنوات في باريس، بتكليف من حاكم تونس أحمد باي، ذي التوجه التحديثي.
  • وفي أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين اختار أدباء من بلاد الشام، خاصة لبنان، الاستقرار في إحدى الأمريكيتين، منهم جبران خليل جبرن وميخائيل نعيمة ونسيب عريضة وإيليا أبو ماضي، وقد أغنوا، في نطاق الرابطة القلمية لأدباء المهجر التي أسسوها هناك سنة 1920، الأدب العربي بأساليب حديثة، وعرفوا  بمأثوره، وبإبداعاتهم.

إعلان

كانت اهتمامتهم ذات منحى تأملي في القضايا الاجتماعية والقيم الإنسانية، وكان من جلهم انخراط في التيار الرومنطيقي الرافض للعقلانية، عنوان التيار الكلاسيكي، وفاتح الآفاق أمام التعبير عن الذات ومشاعرها بحرية، والتركيز على الخيال والعاطفة واستلهام الطبيعة؛ ومما يطبع أدباء المهجر أيضا، حنوهم وحنينهم إلى مشرقهم، يقول نسيب عريضة:

يا دهر طال البعاد عن الوطن *** هل عودة ترجى وقد فات الظعن

  • في ثلاثينيات القرن العشرين، يثمر سفر توفيق الحكيم إلى فرنسا لاستكمال دراسته رواية “عصفور من الشرق” الراشحة بالمقارنة بين نمطي حياة وطريقتي تفكير؛ وفي 1943، يهدينا الحكيم كتاب “زهرة العمر” مشيدا بما استلهمه من مطالعاته في باريس؛ ولا يخفى التقابل بين هذا الكتاب وكتاب “سجن العمر”.

 

عصفور من الشرق (الجزيرة)

 

  • لا نبرح ستينات نفس القرن دون استحضار “موسم الهجرة إلى الشمال”، رائعة عبقري الرواية العربية، كما يلقب، الطيب صالح؛ وهي نتاج إحدى المحطات البارزة في سيرته، إذ تعكس رحلته إلى المملكة المتحدة للتحصيل العلمي، ثم العمل فيها وفي بلدان أخرى، مثل قطر وفرنسا؛ ولا يخفى تماهيه مع بطله “مصطفى” الذي يتنازعه حنينان، حنين إلى موطن “الطفولة الشريرة” (والعبارة له) والشموس القاسية، لكنه الأصل دوما؛ وحنين إلى الشمال، بضبابه وصقيعه، لكنه الفضاء المستقطب على الدوام؛ فهل يسلم الكاتب، الموغل في تأمل نفسه، من الوقوع في الفوضى؟ إلى أن يبلغ الضوء!
  • بين تاريخي هاتين التجربتين، وتحديدا سنة 1953، ينبثق أدب فرانكفوني لكتاب جزائريين مقيمين بفرنسا، وتعد رواية “الأرض والدم” لمولود فرعون باكورته؛ لتتوالى بعدها المؤلفات الحاملة، في ضرب من الصدام الرمزي، نضال كتابها لإثبات الهوية الثقافية التي يعمل المستعمر على طمسها.
  • ومع تطور الأدب المغاربي في هذا المجال أواخر السبعينات، لمع كتاب انجذبوا إلى وصف اليومي في حياة المهاجرين الذين شدت أوضاعهم المزرية الانتباه، بحكم تنامي الصدام بينهم وبين “مستقبليهم”، رعاة أخطبوط العولمة، على أرض التقدم الصناعي، وقد تجسد ذلك من خلال معاناة الشخصية المحورية، حد الاغتيال، في رواية رشيد بوجدرة الموسومة ب”طبوغرافيا مثالية لاعتداء بنية القتل”؛ وقد رمز إلى ذلك التقدم بمترو أنفاق باريس، حيث وجد “الغريب” الوافد من الجزائر نفسه واقعا في كمين، وما رحلته سوى انحدار إلى النهاية، في مكان مغلق.
  • وفي روايته “هابيل”، يترجم محمد ديب اغتراب الإنسان الجديد.
  • في منتصف الثمانينات، تعرف “مدرسة” الكتاب الجزائريين هذه سيا من المؤلفات، لا يسعنا الإلمام به، وسنكتفي بذكر رواية “جورجات” لفريدة بالغول، الحائزة على جائزة “هارماس” سنة 1986؛ لقد استشعرت الكاتبة النضال ضد العنصرية، فدعت إلى رعاية ما يجمعنا، بدل الاشتغال على ما يفرقنا.
تتبادل التهم، ويصب جام الغضب على ما اصطلح عليه ب”قوارب الموت”، في تغافل عن القائمين على ورشاتها السرية وصفقاتها المشبوهة (رويترز)

الهجرة غير القانونية.. حلم الخلاص أم الموت

إن ما استحضرناه من تجارب المجتازين حدود مواطنهم، يجعلنا أمام مرتحلين كتاب، دونوا ما ارتضوا تدوينه؛ غير أن ذلك لا ينبغي له أن يحجب عنا أوضاعا راهنة لمهاجرين يحلمون بالخلاص من جحيم التهميش والحرمان المعيشي، فتتلقفهم أوجاع المعاناة وهموم الملاحقة وصفعة ضياع الحقوق وكوابيس تكرار الفشل في مسعاهم، مما يضطرهم إلى معاودة الكرة في ظروف بالغة العسر، لتوفير مبالغ التمكن من العبور، المعروف في اللهجة التونسية بـ”الحرقة”.

و”الحارقون” هم المهاجرون غير الشرعيين، ويكونون من أبناء تونس أو من الوافدين عليها، باعتبارها، وبحكم موقعها الجغرافي المواتي، أرض مرور من الضفة الجنوبية إلى الضفة الشمالية، “أرض الميعاد”. الفقر وانسداد الآفاق من ورائهم، والوسطاء “الحراقون” المبتزون أمامهم؛ يتعقبهم حراس الحدود، فيرتدون إلى “مواقعهم” القلقة بخسارات مضاعفة، مادية ومعنوية.

إعلان

ولأن السيطرة على الحدود البرية، فضلا عن البحرية، شبه مستحيلة، فقد يكتب للمغامرين التقدم خلسة في عرض البحر؛ لكن، عليهم أن يجتازوا المياه الإقليمية، التي لا يسلم ترسيمها من الحيف والتلاعب، بهدف إبطال الرسو على سواحل البلد المقصود. في حال الاجتياز، يحق لهم إطلاق أول أنفاس الصعداء، قبل الخضوع لإجراءات التحري الأقصى في بلدان “الاستقبال”. يعد ذلك مغنما رغم العقبات البالغة، إذ للأنواء كلمتها حين تكشِّر عن أنيابها وتقلب للمجتازين ظهر المجن، عندها لا يتأخر الماء الغامر في إفنائهم، فتهب الأمواج لتمزيقهم وإلقائهم أشلاء على يابسة الانطلاق. أما الفلك الذي يركبونه، المفتقد في الغالب إلى مقومات الأمان، والمحمَّل بأضعاف طاقته، فله اليد الطولى في لقائهم حتفهم، مطفئين حرقتهم ومُوقدين في الآن نفسه نيران ذويهم وأصحابهم التي لن تخمد.

تتبادل التهم، ويصب جام الغضب على ما اصطلح عليه بـ”قوارب الموت”، في تغافل عن القائمين على ورشاتها السرية وصفقاتها المشبوهة وموادها المغشوشة وصناعها المتعجلين؛ ذاك شأن يحتاج إلى تقص وإماطة اللثام عن خفاياه، ما يتطلب مجلدا وأكثر.

لهؤلاء المهاجرين ما يلهيهم عن التعبير بالأدب أو الفن عن محنهم الملتبسة، وليس هذا دليلا على انتفاء المواهب الكامنة فيهم، وغياب المهارات المعطلة لديهم، بل هو وضع مؤقت إلى حين وضعهم عصا الترحال، واستردادهم الأنفاس من وعثاء السفر؛ أما ما لم يقدروا على لجمه، فهو أن يكونوا ملهمين لحاملي القلم والريشة، وآلة العزف، وحنجرة الأداء، ولعامري المنابر والشاشات.

تطالعك حكاياتهم خاصة بعد حصول الكارثة، في نشرات الأخبار وأعمدة الصحف وفضاءات التواصل الاجتماعي، وغير ذلك من المواقع والمقامات: تعرض الصور النابضة والجامدة، وتتنافس القراءات والتأويلات، وتختلف أعداد الضحايا، بحسب مسافة المعاينة ومصدر المعلومة؛ أما الرسائل والخطابات، فمدارها إحصاء الهلكى ومواساة ذويهم والتحذير من المآلات، والإشادة بجهود فرق الإنقاذ، حتى بعد فوات الأوان.

إعلان

هكذا يسال الحبر ويجري الكلام عن معضلة الهجرة غير القانونية، وعن ضحاياها منكودي الحظ، وعن انشغال الدول المعنية، في مسعى للحد من وطأتها وتداعياتها؛ وتلك آمال ومشاريع غالبًا ما تكون مجهضة، مفتقرة إلى الحزم في اتخاذ القرارات الصارمة، نظرا إلى تعدد الأطراف المسؤولة وتعارض المصالح.

تعد تونس من بين البلدان الأكثر تضررا من الظاهرة، رغم اجتهادها في إيجاد الحل، مثل التشجيع على العودة الطوعية لأفارقة جنوب الصحراء إلى بلدانهم؛ لكن، يظل عدد الوافدين الجدد يفوق بكثير عدد المغادرين.

ورغم إصرار هؤلاء على الرحيل إلى الضفة الأخرى للبحر الأبيض المتوسط، مهما بلغت معاناتهم، فإن تعطل تحولهم يطيل مدة إقامتهم على الأراضي التونسية، فينجبون ويتكاثرون، وتزداد احتياجاتهم ومطالبهم، من مأكل ومشرب وعلاج وتمدرس واتخاذ فضاء للسكنى، وآخر للتعبد، وثالث لتنظيم الأحوال المدنية وتسيير الشؤون العامة والخاصة، ورابع لممارسة الهوايات، كالرياضة بأنواعها، والعزف والغناء والرقص، وخامس للدفاع عن “حرمهم” الذي صار لهم بالقوة، في بعض غابات الزيتون التابعة لولاية/محافظة صفاقس، على وجه الخصوص.

وقد وصل الوضع إلى عدم تمكن مالكيها من استردادها وجني ثمارها، هذا إن أبقى الملاك الجدد على الغرس وما حمل، ولا تخلو العلاقة بين الطرفين من التوتر بسبب المضايقات، وليس بدافع عنصري، ففي البداية حظي هؤلاء “الضيوف” بالقبول والإكرام والمؤازرة، باعتبارهم مؤقتين وغير كثيرين، إلا أن المشهد سرعان ما انقلب وادلهم!

يرجح أن المخبرين عن هذه الأوضاع، من خلال ملاحظاتهم وتقاريرهم وتحاليلهم ومقترحاتهم، لم يكن همهم تقديم خطاباتهم في قالب فني، لكن قد يحصل لهم ذلك صدفة، مما يضاعف انجذاب مخاطبيهم إليها؛ وكذا الشأن بالنسبة للمتحدثين عن هجرة الكفاءات والأدمغة العربية إلى بلدان أجنبية أو شقيقة، تكون فيها الأجور أعلى وبيئة العمل أرقى؛ هذا من جانب.

إعلان

ومن جانب آخر، تنادى الأدباء والفنانون لتناول موضوع “الحرقة”، إما في روايات، لعل أشهرها رواية “شط الأرواح” للكاتبة التونسية آمنة الرميلي، وفيها يتعايش المرجعي، والتخييلي، والغرائبي، وتنغلق “الروموس” على جثث لفظها اليم، وحكايات لم يكتب لأصحابها روايتها، وما فازوا من دنيانا إلا بالدفن على يد بحار متطوع، إكراما لآدميتهم؛ تفاعل الكاتبة مع تلك الأحداث والمصائر جد عميق، والتعبير عنها جد بليغ، لكن الأقوى من كليهما الأثر المطبوع في وجدان كل قارئ تحمل وزر الوجع والكمد، والهلع والحيرة، أثناء قراءته للرواية، وبعد إتمامها، إن جاز له ادعاء إتمامها، وقد لبسه مناخها الآسر!

وليس الباعث على التفاعل مع مآسي المهاجرين حكرا على من قضوا، سواء قبل الرحلة أو أثناءها، وحتى بعدها، بل يتقاسمه معهم أولئك الذين بترت أحلامهم، واضطروا إلى العودة من حيث أتوا، لكنهم آثروا التكتم عن خيبتهم والتخفي في عقر دارهم عن أنظار من يعرفونهم، فأقاموا بين أناس لا يعرفونهم؛ ولي في شأن هذا الاختيار نص قصير تحت عنوان “اتقاء لعبارة “لا مرحبا!”، قلت فيه مخاطبا عائدا لم يتوفق:

“ما ظن أحد، لا أنت ولا ذووك ولا من صادفك أو سمع عنك، هنا أو هناك، أنك ستخفي عودتك عمن يوما جهزوك كما تجهز العروس بما يفوق طاقة أهلها، حتى تعظم في عيون الأصهار. اعتبروا رحلتك إلى ما يسلمك إلى ما وراء البحار مشروع العمر. باعوا نزرا مما يملكون. ودعوك بقليل من الدموع، على أمل استقبالك يوما بكثير من الزغاريد وأهازيج الترحاب، وقد رفعت رؤوسهم وغسلت أدران فاقتهم واستضعافهم. لم تخلف الوعد بالعودة. لم ترد أن يستقبلوك خالي الوفاض. أتقنت لعبة التخفي لإخفاء الخيبة وغياب الفائدة وذهاب رأس المال. ما أقسى أن تسمع: “لا مرحبا بك!”.

لقد شكلت “الحرقة” كذلك موضوع مسلسلات تلفزيونية، نذكر منها مسلسلا تونسيا يحمل نفس العنوان “الحرقة”، رضي عنه النقاد المختصون والمشاهدون المتمرسون، محتوى وإخراجا وأداء؛ وفيه تراكبت القضايا المتعالقة، لإحداث التشويق وخلق الإرباك.

وما لا ينبغي إغفاله هو أن لا الرسم ولا المسرح ولا السينما ولا غناء “الراب”، تخلف عن ركب التعبير عن الظاهرة؛ وليس لمن يعنيه شأن “الحرقة”، بل شؤونها، إلا تدبر رائق أدبها ورائق فنونها، النابضة بالحياة، والقابضة على مآس تحدث وتستوقف، تهز المشاعر وترج العقول!

إن ما مر بنا من ألوان الاغتراب تبدى مزيجا من عذابات من تقطعت بهم السبل، وهم بالآلاف المؤلفة في أيامنا هذه، ومن الاستعذاب الراجع إلى تحقق مآرب من سواهم، إن كليا أو جزئيا؛ أما ما ينفع عقول من ينشطون للمعرفة والإفادة، فمحفوظ في المؤلفات والموسوعات وعلى المحامل المعلوماتية الحديثة.

ويبقى التساؤل المولع باستنطاق الذاكرة التاريخية بابا مفتوحا للتفاعل والإبداع الأدبي، وللامتلاء من المنجز ذي الطابع الوثائقي.

إعلان

حكايات السفر والغيرية.. نافذة على طرق الآخرين في التفكير والكتابة

هذا كتاب جماعي أشرفت على إخراجه كل من أرمال جيرينون وفيونا لاجوسني، ومما ذكر في شأن اختيارات الكتاب وطرق تناولهم للموضوع المشترك أن حكاية السفر، باعتبارها عرضا لتجربة الآخر والهناك في نفس الوقت، تطرح مسألة القدرة على فهم هذه الغيرية وأدوات بنائها. ولا يعدو المسافر أو المسافرة أن يكونا ذينك الشخصين الحاملين لمفارقة؛ فهو من ناحية يرشح نفسه وسيطا بين عالمين، ويطلعنا، في قلب حكايات السفر، وبألوان من الوصف والسرد، على ذاك التوتر القائم، المرصود للتعبير عن الجديد والمختلف، ومن ناحية أخرى هو ملزم عموما باللجوء إلى أدوات لسانية وثقافية معهودة.

ومن عناوين فصول الكتاب الثلاثة:

  • أسفار القرون الوسطى المسيحية.
  • الاكتشافات الكبرى: تجديد جذري وفضول مؤكد.
  • حكايات السفر في القرن السابع عشر: خطاب النظام؟
  • غيريات وتمثلات.
  • أهلا ووداعا للاغتراب.
  • وصف ما هو غير معروف بما هو معروف.
  • بلاغة الغيرية.
  • أن تسافر: الهوية في موضع شك.
  • قصة موجزة عن الآخر: أفلام إثنية لوسائط الاتصال الحديثة.

تطبيقات لسانية: الطبقات الدلالية للمسانيد

لسانيا كذلك، يمكن التطرق إلى الهيئات المختلفة للفعل الواحد في الاستعمال. لدينا، على سبيل المثال، الفعل “وضع” الذي يرد:

  • فعلا توزيعيا/عاديا: وضع زيد الكتاب في الحقيبة.
  • فعلا عمادا (ضعيف الدلالة في الجملة): وضع زيد تصميما للمبنى (المكافئة دلاليا ل: صمم زيد المبنى).
  • فعلا عاملا (يعمل جملة في جملة): وضع زيد بكرا في حرج (أصل الجملة جملتان: “وضع زيد [شيئا]”، و”بكر في حرج”).
  • وفعلا داخلا في عبارة متجمدة/متكلسة: وضع زيد اللمسات الأخيرة للوحة.

وينطبق هذا على عدة أفعال، من مثل “أخذ”:

  • أخذ زيد الكتاب.
  • أخذ زيد عهدا على نفسه.
  • أخذ زيد بزمام الأمور.

علما وأن المسائل (وهي كثيرة) تقدم بالاستناد إلى مرجعية لسانية ثابتة، مع الالتزام بتوخي التبسيط لتشمل الإفادة حتى من هم من غير أهل الاختصاص.

إعلان

شاركها.
Exit mobile version