تطوَّرت جهود المفكرين المسلمين أواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين نحو تقديم مشروعات فكرية وأطروحات “حداثية” الأدوات والنهج في نقد النموذج الغربي، وتفكيك ظاهرة الاستعمار للتحرّر من التبعية، واجتراح نماذج فكرية ونهضوية مستقلة عن النموذج الرأسمالي والسيطرة الغربية.

ساهم في هذه الجهود عشرات المفكرين أمثال جمال الدين الأفغاني (الجامعة الإسلامية ومكافحة الاستعمار والنهوض بالتعليم ونقد الفكر الإلحادي)؛ محمد عبده (إصلاح التعليم الديني وتيار الدفاع الإسلامي ضد الاستشراق)؛ محمد رشيد رضا (استكمال المشروع السلفي الإصلاحي لشيخه محمد عبده ومواكبة قضايا الإسلام والدعوة)؛ محمد حسين هيكل (تأصيل التاريخ الإسلامي المبكر)؛ محمد إقبال (تجديد الفكر الديني وإحياء الروح الإسلامية)؛ مصطفى صادق الرافعي (الأدب الإسلامي والتأصيل الفكري)؛ عباس محمود العقاد (التجديد الأدبي والفلسفي وتأصيل التاريخ الإسلامي).

كذلك حسن البنا، وأبو الأعلى المودودي، وأبو الحسن الندوي (تأصيل منطلقات الدعوة والحركة الإسلامية والنظم الإسلامية وقضايا الأمة)؛ سيد قطب (الإسلام كشرط ذاتي للنهضة)؛ مالك بن نبي (الشروط الموضوعية للنهضة)؛ محمد محمد حسين، ومحمد جلال كشك (نقد وتأريخ التغريب والغزو الفكري)؛ عمر فروخ (دراسة التبشير والاستعمار)؛ محمود محمد شاكر (تجديد الأدب وعلوم العربية وتأصيل الثقافة الإسلامية ونقض الاستشراق)؛ المهدي بن عبود (نقد الفكر الغربي)؛ محمد نقيب العطاس (إسلامية المعرفة ونهوض العقل المسلم).

وأيضًا محمد أبو القاسم حاج حمد (نقد الليبرالية والماركسية، العالمية الإسلامية الثانية ومنهجية القرآن المعرفية)؛ عبد الوهاب المسيري (تفكيك الصهيونية والإمبريالية، نقد المادية والعلمانية، وطرح خطاب إسلامي جديد)؛ مدرسة المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن: إسماعيل الفاروقي، عبد الحميد أبو سليمان، طه جابر العلواني، منى أبو الفضل، جمال برزنجي، هشام الطالب (إسلامية المعرفة وأسلمة مناهج علوم الاجتماع، منهجية القرآن المعرفية، قضايا العقل المسلم)؛ عادل حسين (تأصيل الفكر الاقتصادي والتنموي وحركة التغيير)؛ منير شفيق (نظرية الثورة والتغيير، ومواجهة الانحطاط الحضاري، ومقاومة الصهيونية والإمبريالية).

وكذلك علي شريعتي (سوسيولوجية الدين، وأيديولوجية التغيير، ونقد الفكر الغربي)؛ حامد ربيع (تأصيل الفكر السياسي الإسلامي)؛ محمد عبدالله دراز، وعبدالحليم محمود، ورشدي فكّار (تأصيل دراسات الدين والوحي والفلسفة)؛ علي عزت بيغوفيتش (نقد الفكر المادي وطرح الإسلام في فضاء التداول الفكري الغربي المعاصر). وهناك عشرات أخرى من المشروعات الفكرية التي تطوّرت في سياق الاستجابة للتحدي الغربي أكاديميًا أو فكريًا أو سياسيًا.

ثنائية الحضارة والمدنية

إجمالًا، فرّق المفكرون المسلمون السابقون والمعاصرون بين “مدنية” الغرب و”حضارة” الغرب؛ باعتبار أن الأولى تُعنى بالعلوم الطبيعية والتقنية وفنون الصناعة والإنتاج والابتكار والارتقاء بالتعليم والاقتصاد والإدارة والصحة العامة والنهوض بالطبقات الاجتماعية المهمشة، ومكافحة الفقر والأمية والمرض والأخذ بأسباب القوة المادية بجانب القوة المعنوية.

لكن دون التورط في الرؤية الكونية الأوروبية ومقوماتها من فلسفات حداثية، وتفكير مادي وأخلاق ذرائعية وسياسات استعمارية، وجحود النبوة والأنبياء، وافتقاد الروحانيات، وتحرر الغرائز والملذات والعنف، والتغول على المستضعفين أممًا وأفرادًا.

وظنّ هؤلاء المفكرون أن مظاهر ومنتجات المدنية الأوروبية يمكن أن تخلو من الفرضيات الفلسفية الأساسية، الكامنة والصريحة، للحضارة الغربية وتصوراتها ورؤيتها الكونية أو تنفصل عنها.

لكن جيلًا لاحقًا من المفكرين أدرك استحالة هذا الانفصال بين مقدمات الحضارة الأوروبية وفرضياتها الأساسية وبين مدنيتها أو منتجاتها المدنية و”العلمية”. وتمكنوا من رصد أنماط الضلال العقدي والانحراف الأخلاقي في صميم رؤية العالمية الأوروبية المهيمنة على العالم.

فوضعوا أيديهم على أشكال من “الشرك” Polytheism و”الباطنية” Esotericism و”الحلولية” Pantheonism ومرجعية الذات Self-reference وسيولة المرجعية Reference fluidity المؤدية كلها إلى فساد العمران والاجتماع والحضارة والاستكبار في الأرض: استعمارًا واستعبادًا وعنصرية واستغلالًا واحتكارًا وإبادة، مع ارتباط تطور التجربة الغربية جذريًا بالمشروع الإمبريالي الاستيطاني الإحلالي وركائزه: الإمبريالية، والرأسمالية، والعنصرية، والفاشية.

سياقات تاريخية وثقافية متغايرة

يلاحظ أن تجارب المفكرين ومشروعاتهم الفكرية قد اتخذت مسارات شتى بحيث يصعب تعميم نمط معين لتوصيفها دون غيره. فمنهم من بدأ تجربته الفكرية منبهرًا بالغرب والثقافة الغربية، لدرجة التماهي والتقمص، ومنهم من تعاطى مع تجربته الأكاديمية في الغرب بحذر وتدرج حتى وصل إلى الصيغة التي قدم بها رؤيته للغرب.

ومنهم من تعاطى مع الغرب من خلال أيديولوجيات غربية تبنتها حركات وأحزاب سياسية في المشرق، كالماركسية والليبرالية، وأتيح له أن يستكشف تناقضاتها ومغالطاتها، خاصة من خلال مبدأ استحالة نقل الأنساق أو النماذج أو التجارب الاجتماعية بين سياقات تاريخية وثقافية متغايرة أو متناقضة بطبيعتها. ومن ثم سعى لاكتشاف النسق الاجتماعي السياسي الفاعل في الاجتماع العربي الإسلامي.

لكن كثيرًا من هؤلاء المفكّرين انتقلوا مبكرًا من الانبهار والتماهي إلى استعادة التوازن النفسي والحضاري، وتوصلوا إلى إمكانية الالتقاء في مساحات المشترك الإنساني القائم على الحكمة والعقلانية مثلًا، واكتشفوا خصوصيات شعوبهم وثقافاتهم، التي ينبغي أخذها بالاعتبار لدى أي محاولة تجديد واقتباس.

لا يخفى أن هناك تقاطعات أو مساحات مشتركة بين بعض هذه المشروعات الفكرية، نظرًا لأن من الطبيعي أن يتصدى أكثر من مفكر أو أكثر من مؤسسة بحثية لذات القضايا الراهنة والتحديات المطروحة على الأمة، فتتواكب الاهتمامات وتتزامن الاجتهادات، بل وتتقاطع قناعاتها ونتائجها.

خريطة الإصلاح والجهود الفكرية

منذ بدأ التفاعل بين المفكرين المسلمين والغرب في القرن التاسع عشر وحتى مؤخرًا، تعددت جهودهم الفكرية وغطت معالجاتهم مجالات هامة، بل شملت معظم (إن لم يكن كافة) المجالات الضرورية لإنجاز عملية التحديث والنهوض بالأمة في وجه التحديات المتواصلة. في هذا السياق، يمكن تصنيف هذه الجهود في عدة محاور أو مسارات أو مجالات.

1- الإدارة والتقنين وإصلاح الحكم
منذ البداية شُغل رجال الإصلاح بشؤون الدولة ومسائل تحديث الإدارة وإصلاح الحكم والأخذ بما اجترحه الغرب من دساتير وقوانين ونُظُم حديثة وفصل بين السلطات وبرلمانات وحريات وإصلاحات ومؤسسات تخصصية وتأسيس العدالة والنهوض بالموارد البشرية والاقتصادية وضبط المالية العامة وتحديث الجيوش، وغيرها كثير.

وقد أمكن وضع هذه الأمور موضع التنفيذ منذ عصر التنظيمات وتراكم حولها ميراث ناضج من الخبرات والممارسات والمؤلفات التي يمكن الاستعانة بها أو البناء عليها.

2- الإنتاج الفكري
على مدى قرنين، تعرض العالم الإسلامي لموجة عاتية من التبشير والاستشراق والغزو الفكري التي حاولت تقويض سردية التوحيد في أسسها ومسلماتها والتشكيك بالمقدس وكل ما تجتمع الأمة على الإيمان به، وتولى كِبرَها فرديًا ومؤسسيًا المبشرون والمستشرقون معززين بالأموال وأجهزة الاستخبارات والبوارج الحربية وجيوش الاحتلال.

وقد تصدى العلماء والمفكرون المسلمون لهذه الموجة، منذ القرن التاسع عشر، بما يُعرف بـ”تيار الدفاع الإسلامي” الذي تولى تفنيدها والرد عليها، واستعاد للأمة توازنها وثقتها بذاتها.

ثم توالت المشروعات الفكرية التي أعادت تأسيس مناهج العلوم الإسلامية والعربية بشكل أكاديمي حديث. وقدم المفكرون المسلمون إسهامات هامة في دراسة وتفكيك التجربة الغربية وظاهرة الاستعمار.

وتراكمَ إنتاج فكري وتجديدي يكفي لبناء منظومة تعليمية راقية في العلوم الاجتماعية والإنسانيات، تنبذ إسفاف الترجمات السقيمة العمياء لإنتاج الآخر البعيد؛ لأن الحاضر لا يقاس على الغائب، وتعبر عن تجربة الأمة الحضارية المديدة واجتماعها الممتد في الزمان والمكان، وتواكب ما يشهده العالم من تطور في هذه المجالات، رغم غياب معظم هذا الإنتاج عن مناهج التعليم الرسمية.

المفارقة أن كثيرين ظنوا أن موجة التبشير والاستشراق الرديفة للاستعمار قد انكسرت وانتهت، لكنهم اكتشفوا لاحقًا أنها يتم تجديد موضوعاتها وشبهاتها وإلحادها كل بضعة عقود مع تعدد وسائط البث ومنصات الغزو والاختراق، خاصة عندما تشهد الأمة حالة من الانتفاض والنهوض والوعي بذاتها، كما حدث عقب الثورات العربية وسقوط أنظمة التبعية والفساد والاستبداد وعودة الأمة إلى رصيدها الحضاري.

3- نقل العلوم والتقنيات
منذ قرنين وحتى اليوم، لم تتوقف البعثات العلمية من العالم الإسلامي إلى جامعات دول الغرب المتقدمة لدراسة مختلف المعارف، خاصة العلوم الطبيعية والتقنية والهندسة والصناعة والأبحاث والتطوير.

وحصل علماء المسلمين على أرفع الدرجات العلمية في مختلف التخصصات. وأصبح لدى الأمة الكفاية من العلماء والباحثين القادرين على استيعاب وتطوير أرقى التقنيات.

لكن النهوض العلمي والتقني والتصنيع والتطوير والاكتفاء الذاتي لم يتحقق؛ لأنه ليس عملية “ذهنية”، بل عملية “تاريخية” تتطلب إنجاز الاستقلال وحرية القرار والإرادة وتأمين التقنيات والمواد الخام وانفتاح أسواق الأمة أمام إنتاجها وحماية الإنتاج المحلي من الإنتاج المستورد ليتمكن من المنافسة والتفوق. لكن الأهم تراكم الخبرات وأسرار الصناعة وحمايتها ضد مؤامرات التخريب والتقويض، كما حدث مرات عديدة.

4- خبرات المقاومة والتحرر
ساعدت المشروعات الفكرية في تكوين الوعي التحرري وثقافة المقاومة لخوض معركة التحرر الوطني من الاستعمار والسيطرة الأوروبية المباشرة، واكتشاف مركزية المقاومة في مشروع النهضة.

ومع بداية عقد السبعينيات من القرن الماضي، كانت آخر قوات الاستعمار وإداراته قد خرجت من جميع بلاد المسلمين تقريبًا عدا فلسطين. لكن السيطرة الإستراتيجية والسياسية والاقتصادية للاستعمار الجديد ما زالت قائمة، بل وتفاقمت في العقود الأخيرة. وتواطأت النخب الحاكمة التي خلفت الإدارة الاستعمارية على تكريس واستمرار التبعية. وأصبحت هذه النخب عقبة كأداء في سبيل النهوض والتحرر الكامل.

خلاصة

استبطن التحديث في العالم الإسلامي على النمط الأوروبي توجهًا إمبرياليًا للدولة والإدارة والنخبة، لأنه مقتبس من خبرة أوروبية إمبريالية خالصة، ولم يظهر هذا جليًا عندما بدأ عصر التنظيمات العثمانية منذ قرنين، متزامنًا مع التحديث في مصر (العلوية) وإيران (القاجارية).

لكنه تبدّى لاحقًا وأزّم العلاقة بين الدولة ورعاياها، وفكك بعض أسسها التاريخية، وانتقص من شرعيتها وولاء الأمة لها، وأثار الشكوك حول مسار ومآل حركة التنظيمات. وتراجعت فاعلية وتأثير هذه التنظيمات والمؤسسات الحديثة، بل غدت حصان طروادة الذي أدخل الأعداء إلى قلعتنا.

استكملت جهود الإصلاح والمشروعات الفكرية معظم الشروط اللازمة لإنجاز عملية التحديث والنهوض في العالم الإسلامي، لو تحقق الاستقلال الكامل وحرية الإرادة والإفلات من نير التبعية وفساد النخب الحاكمة. وقد عالجت هذه الجهود والأفكار مختلف الأزمات ومسائل النهوض الفكرية والعملية.

في ضوء تجربة الأمة مع “تحديث” فكك وشائجها ومؤسساتها التقليدية الصلبة وفتح بوابات حصونها للاستعمار، وعقب “أوربة” و”تغريب” أورثاها تبعية وتجزئة ودول فساد وطغيان معادية للأمة ونهوضها ودورها كأمة وسط، وما انتهت إليه الاجتهادات والمشروعات الفكرية، تتصدر اهتمامات مشروع النهضة ثلاث قضايا أساسية:

  1. تحقيق الاستقلال التام فكريًا وثقافيًا وسياسيًا واقتصاديًا وإستراتيجيًا، وتصفية المشروع الصهيوني الاستيطاني الإمبريالي الإحلالي في المشرق.
  2. تحقيق العدل الاجتماعي ونقل الطبقات المهمشة إلى حالة الإنتاج والكفاية والفاعلية الاجتماعية.
  3. تمكين الأمة في كل مجالات الاجتماع والحكم والإدارة بالانتخابات الحقيقية والشورى الواسعة الملزمة، وتفكيك الدولة البوليسية وجيوبها السلطوية ومؤسساتها القمعية والنخب المتواطئة معها.

لكنّ هناك عددًا من العقبات التي تحول دون إنجاز ذلك:

  • استمرار الاختراق الغربي للعالم الإسلامي ثقافيًا وسياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا، وتغول الهيمنة الإمبريالية على قراره ومقدراته ومصالحه.
  • فساد النخب الحاكمة وخضوعها للدول الإمبريالية الكبرى وتواطؤها مع “المشروع الصهيوني” ضد الأمة وشعوبها وحقوقها.
  • انعدام التوازن بين المركز (البنية السلطوية والدولة العميقة) والأطراف من مجتمع أهلي وحركات سياسية واجتماعية وأوساط ثقافية وخيرية، أدى لطغيان المركز وتغوله على الأمة.
  • إخفاق حركات التغيير الراهنة في تجنيد الأمة نحو آفاق التغيير وإنجاز التحولات التاريخية اللازمة للتحرر من التبعية والسيطرة الغربية والنخب الفاسدة والغزو الفكري، نظرًا لاحتقارها جهود الإصلاح الفكرية، وتجفيف الفكر والاجتهاد والحوار في صفوفها، واستبداد قلة “باطنية” بأعلى الهرم التنظيمي (شبه الكنسي) بقيادتها ومصائرها، وانصرافها عن الانتشار الأفقي بين جماهير الأمة نحو البناء الرأسي لتعزيز سيطرة القلة، وتحوصلها في أوعية تنظيمية ضيقة تثير ريبة الأمة واغترابها عنها!

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version