دمشق- “كنت كلما شعرت بالوحدة ركبت ميكروباص (مهاجرين – باب توما) وقصدت منطقة باب شرقي، وهناك أمضي سيرا على الأقدام عبر الأزقة الضيقة العابقة برائحة الياسمين، أدخل إلى كنيسة حنانيا أو كنيسة الزيتون لأصلّي، ثم أخرج إلى سوق الشرقيات لأرى جديد المحال من سيوف دمشقية وصوان وقطع نادرة تردّ رؤيتها إلي الروح”.

بهذه الكلمات يستذكر جوزيف (39 عاما)، أحد سكان دمشق سابقا ومهاجر في ألمانيا حاليا، نشاطه المفضل في المدينة القديمة في دمشق قبل اندلاع الحرب في البلاد عام 2011.

ويضيف في حديث للجزيرة نت “لقد كانت دمشق بالنسبة إلي العالم بأسره، أما الشارع المستقيم فكان قلب هذا العالم”.

الشارع المستقيم بدمشق يقع في قلب المدينة القديمة وبناه الرومان داخل السور ويقسم المدينة لقسمين (مواقع التواصل)

ذكريات وكلمات عبّر من خلالها جوزيف عن مكانة مدينته دمشق وشارعها المستقيم في وجدانه، وربما تكون هي مكانة هذا الشارع في وجدان معظم الدمشقيين.

فالشارع المستقيم، الممتد من قوس باب شرقي شرقا وصولا إلى باب الجابية غربا، هو بمثابة لوحة مكثّفة العناصر تختزل الهوية العمرانية والثقافية لمدينة دمشق القديمة بكنائسها وجوامعها وبيوتها التراثية، وأوابدها الأثرية التي تعود في تاريخها إلى ما قبل الميلاد.

وشكّل سوق الشرقيات والأنتيكا الدمشقية -وهو سوق فرعي لسوق مدحت باشا- أبرز هذه العناصر المميزة لهوية المكان لعقود، قبل أن يشهد، بشكل تدريجي منذ عام 2013، تحولا في نشاطه التجاري والخدمي من سوق لمحال بيع قطع الفضة والنحاس النادرة والأنتيكا والمشغولات الدمشقية اليدوية، إلى تجمّع صاخب للحانات والخمارات والبارات المرصوصة على جانبي الطريق والمتخصصة ببيع الخمور بأنواعها، ومن منطقة جذب للسياح إلى منطقة باتت تعرف اليوم “بشارع الخمارات”.

محل لبيع الشرقيات_دمشق_ شام مصطفى_الجزيرة
محل لبيع الشرقيات بدمشق القديمة (الجزيرة)

شارع الملاهي الليلية

تأثر سوق الشرقيات في القسم الشرقي من الشارع المستقيم في دمشق القديمة والمعروف باسم “شارع باب شرقي” مع اندلاع الأزمة الاقتصادية في البلاد قبل نحو 11 عاما، لا سيما مع ركود القطاع السياحي وتراجع أعداد السياح الذين كانوا يشكلون الشريحة المستهدفة من قبل أصحاب المحال التجارية في المنطقة.

بينما تكافح اليوم الحرف الدمشقية العريقة كالموزاييك والبروكار والنقش على النحاس ضد الاندثار، نتيجة غلاء المواد الأولية، وهجرة شيوخ الكار (الصناع المهرة المتخصصون)، وعدم وجود سوق لتصريف المنتجات.

وتحت وطأة هذه الظروف يجد أصحاب المحال في سوق الشرقيات في باب شرقي أنفسهم أمام خيارات “أحلاها مُرّ” بحسب تعبير ضياء (46 عاما) أحد أصحاب محال بيع الشرقيات سابقا.

محال باب شرقي في دمشق (الجزيرة-أرشيف)

ويقول ضياء في حديث للجزيرة نت “قبل أن أغلق محلي لبيع الشرقيات قبل سنتين، ويحوله أحد الشبان المستثمرين إلى حانة، أمضيت سنة كاملة دون أن أبيع قطعة واحدة”.

ويضيف “اضطرني ذلك إلى تصفية المحل وبيع ما تبقى من البضاعة بربع ثمنها للمحال المجاورة في صفقات بالجملة. لقد ورثت هذا المحل عن أبي الذي وَرثه عن جدي، ولذا كان قرار إغلاقه من أصعب القرارات التي اتخذتها في حياتي، فليس للمحل قيمة مادية يمكن تقديرها بالنسبة إليّ”.

ويشير ضياء إلى أن أصحاب محال الشرقيات والحرف اليدوية الدمشقية في منطقة باب شرقي كانوا يعتمدون في تجارتهم سابقا على السياح بالدرجة الأولى، ثم على التصدير إلى دول الخليج، وأدى شلل السياحة وإغلاق المعابر الحدودية مع بداية الحرب في البلاد إلى جمود حركة البيع والشراء وتوقف التصدير.

وسنة بعد أخرى، تحولت معظم المحال الكائنة على جانبي الشارع المستقيم في قسمه الشرقي من محال لبيع الشرقيات والمشغولات اليدوية الدمشقية -التي باتت لا تتجاوز عدد أصابع اليد- إلى ملاهٍ ليلية وحانات وخمارات تستمر أنشطتها إلى الفجر.

محل لبيع الشرقيات بدمشق القديمة (الجزيرة)

تشوه بصري وضرر سياحي

ولا يسهم انتشار الخمارات والملاهي الليلية -بما تمثله من بديل تجاري مُربح لملاك المحال في المنطقة- في التعجيل باندثار سوق الشرقيات من الشارع المستقيم في قسمه الشرقي فحسب، ولكنه يسهم أيضا في “إحداث تشوّهات بصرية تؤثر على الهوية العمرانية والتراثية للمنطقة ككل” بحسب مياس حسن (41 عاما، اسم مستعار) خبيرة آثار وموظفة في مديرية الآثار والمتاحف في دمشق.

وعن الآثار الناجمة عن هذا التحوّل في أنشطة المحال القديمة بسوق الشرقيات، تقول مياس للجزيرة نت “إن أسوأ ما يفرضه هذا التحوّل على المدينة القديمة هو ضرب الانسجام بين العناصر التي كانت تشكل الهوية المعمارية والثقافية والأثرية لمنطقة باب شرقي”.

وبحسب الخبيرة فإن هوية المنطقة تتألف من 3 عناصر أساسية، وهي: الآثار الرومانية ابتداء من قوس باب شرقي ومرورا بالأعمدة الرومانية المتكسّرة على طول الطريق المستقيم دالة على آثار الحضارة الرومانية، ثم الكنائس الثلاث القديمة (حنانيا، الزيتون، المريمية) ومئذنتيْ (البوابة والعمرية) اللتين تمنحان المكان بعده الديني والروحي، وثالثا البيوت الدمشقية كـ”مكتب عنبر” وسوق الشرقيات الذي صُممت محاله على الطراز الدمشقي مدللة على أصالة المكان وانتمائه للمدينة وسكانها.

صورة أرشيفية لبار لوكا الكائن في منطقة باب شرقي بدمشق (الجزيرة)

وتضيف مياس أنه “مع استمرار زحف الخمارات وأكشاك بيع الخمور على أنقاض سوق الشرقيات تفقد المنطقة عنصرا أساسيا من عناصر هويتها، إضافة إلى التشوه البصري الناتج عن تناقض التراثي الأصيل مع الحداثي المعاصر، خاصة في الديكورات الداخلية لتلك الخمارات، والتي تنكشف على المارة”.

وتشير إلى أثر هذا التمدد للحانات والخمارات على حركة السياحة قائلة “لقد كانت المنطقة في السابق متحفا مفتوحا تستوقفك فيه الآثار والمعالم بالقدر الذي تستوقفك فيه تحفة دمشقية معروضة في واجهة محل من محلات سوق الشرقيات؛ وبذلك تعيش تجربة سياحية متكاملة وفريدة، تتفاعل فيها بالداخل ضمن الأمكنة الأثرية وفي الخارج مع البيئة المحيطة والمنسجمة مع هذا الموقع وخصائصه السياحية”.

وتتابع “أما اليوم، وللأسف، أصبح خوض تجربة من هذا النوع أمرا مستحيلا في ظل الضوضاء والصخب والحركة المستمرة وعدم التناغم الذي أحدثته تلك الخمارات في المنطقة منتقصة من الجاذبية السياحية للموقع”.

خمارة أبو جورج أقدم خمارات الشارع بدمشق (الجزيرة)

وتشير الخبيرة إلى أنه في فترة ما قبل الحرب لم تكن الجهات المعنية تمنح تراخيص للحانات ومحال بيع “المشروبات الروحية” ضمن الشارع المستقيم، حيث تُمنح التراخيص فقط في الأزقة والحارات الفرعية ضمن منطقة باب شرقي للحفاظ على هوية الموقع الأثري.

تاريخ حضاري وحاضر يرثى له

يعتبر شارع باب شرقي، الذي ضم سوق الشرقيات لقرون، قسما من الشارع المستقيم أحد أقدم شوارع العاصمة دمشق والمدينة القديمة، وتشير المصادر التاريخية إلى أنه قد بني على يد الرومان ابتداء من عام 64 ق.م شاطرا المدينة القديمة إلى قسمين، شمالي وجنوبي، وبطول يصل إلى 1568 مترا.

وشهد شارع باب شرقي على أبرز الأحداث والتحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تعاقبت على دمشق منذ فجر التاريخ وإلى يومنا هذا.

فقد أولاه الرومان أهمية كبرى كونه كان المدخل الشرقي لمدينتهم الناشئة والحصينة، وسموا بابه باسم “الشمس” لأنها تشرق من جهته، وأصبح ممرا أساسيا للمدينة تتفرّع عنه أزقة ضيقة شمالا وجنوبا تحتضن مجموعة من الأبنية على شكل رقع شطرنجية وفقا للطراز المعماري البيزنطي.

مئذنة باب شرقي بدمشق (الجزيرة-أرشيف)

وقبل انتشار المسيحية وتبنيها من قبل الإمبراطورية الرومانية في عهد قسطنطين العظيم (306- 337 م)، شهدت منطقة باب شرقي على أول فصول التبشير المسيحي في دمشق على يد بولس الرسول، الذي اضطهد من قبل اليهود، وتمكن لاحقا بمساعدة أتباعه من مغادرة المدينة مختبئا في سلة قش، فعبر وهو بداخلها الشارع المستقيم كاملا ثم خرج من باب شرقي إلى أورشليم (القدس) ثم إلى آسيا الصغرى فأوروبا ناشرا المسيحية ومشيّدا الكنائس.

وبعد أن أصبحت المسيحية دينا رسميا للإمبراطورية أشهر مسيحيو منطقة باب شرقي دينهم وكشفوا عن معبدهم الصغير في نهاية القسم الشرقي من الشارع، والذي بات يعرف اليوم باسم كنيسة المريمية؛ حيث كانوا يؤدون فيه صلواتهم في فترة الاضطهاد، ويرجع تاريخ بناء الكنيسة إلى (36- 37 م)، وهي الأقدم بين كنائس دمشق ولا تزال قائمة إلى اليوم.

كما كان شارع باب شرقي شاهدا على دخول جحافل جيش المسلمين لمدينة دمشق تحت قيادة القائدين خالد بن الوليد وأبو عبيدة بن الجراح -رضي الله عنهما- في عام 635 للميلاد، وتمكن خالد بن الوليد بعد حصار لم يدم طويلا، ومعارك يسيرة انتهت جميعها بانتصار المسلمين، من إيجاد ثغرة مكنته من اختراق المدينة بمساندة قائد الجيش أبو عبيدة بن الجراح، ففتحت دمشق ودخلها المسلمون وعلى رأسهم خالد من بابها الشرقي.

ورممت المنطقة على عهد الدولة الزنكية (1127-1250م) فبنى الحاكم نور الدين الزنكي مئذنة في أعلى الباب الشرقي، ورممت لاحقا في عهد الوالي مدحت باشا، وكانت آخر عمليات الترميم للمنطقة في عام 2008 حيث اكتشفت بعض الآثار الرومانية.

وإلى جانب مئذنة البوابة هناك المئذنة العمرية التي شيدت (عام 1582م) على يد المماليك وأطلق عليها اسم مئذنة العمرية أو باب الكنيسة لأن الطريق الوحيد إلى كنيسة المريمية يمر من تحت قنطرتها.

وتحول اليوم شارع باب شرقي من قبلة يقصدها السياح من مختلف أنحاء العالم، إلى خمارات وملاه ليلية وبؤرة لتجمعات الشباب السوري الهارب من ويلات الحرب.

شاركها.
Exit mobile version