انطلقت في تركيا كثير من المشاريع الفاعلة والمميزة بهدف تعليم العربية وإتقانها، ومنها ما يشرف عليه وقف طلاب ثانوية الأئمة والخطباء في تركيا، مثل مشروع “قرية اللغة العربية” في ولاية قونيا، وهو مشروع بدأ منذ سنوات عدة، ومقره الرئيس في كلية الإلهيات في جامعة “نجم الدين أربكان”، وقد أسفر هذا المشروع عن إتقان نحو 200 طالب من المرحلة الثانوية للغة العربية إتقانا مميزا.

وقد عني بالمشروع مجموعة من الأكاديميين المصريين والأردنيين، وقام منهجم على قضاء أكبر وقت ممكن مع الطلاب، وحققوا نجاحا كبيرا بسبب اعتمادهم على طرق حديثة في التعليم، وعدم اقتصارهم على الطرق التقليدية، فالطلاب في حياتهم اليومية يتحدثون باللغة العربية، ويُمنعون من التحدث باللغة التركية فيما بينهم.

كما لاقى هذا المشروع انتشارا كبيرا على مستويات عدة، مما حدا ببعض المراكز في تركيا وخارجها إلى الرغبة بالتعاون معهم وإنشاء مشاريع على منوال ما فعلوه، ففي فترة الإقامة في القرية يتعلم الطلاب ما يقرب من 2500 كلمة، ويتقنون نحو 500 جملة باللغة العربية.

ومن تلك المشاريع الفاعلة في مجال تعليم اللغة العربية أيضا المدارس التي ركزت على تعليم اللغتين العربية والتركية في نطاق واحد يضمن اندماج حامل اللغتين بالمجتمع الجديد الذي صار إليه، وتقدِم للطالب التركي خدمة تعلم اللغة العربية والاطلاع على ثقافة الشعوب العربية.

وفي سياق السعي نحو دمج الثقافتين واللغتين العربية والتركية معا، انتشرت في تركيا مؤسسات تعليمية كثيرة تهدف إلى ذلك، لخدمة الجاليات العربية بالدرجة الأولى وتخفيف حدة شعورها بالغربة الثقافية واللغوية من جهة أخرى. كما أنهم قدموا دورات تعليمية خاصة بالأهالي، فانعزالهم يضر باندماج أولادهم ويبطئ من سرعته. والمؤسسات التعليمية بعضها دولي يتكئ على مناهج دولية، وبعضها يعتمد على المناهج العربية، غير أن الأخيرة لا تؤمّن للطالب الانخراط في المجتمع التركي -للأسف- بل تبقيه في عزلة عنه.

صحفية تركية أتقنت اللغة العربية من متابعة شاشة الجزيرة

وهناك مراكز مهمة أخرى لتعليم اللغة العربية في تركيا، منها أكاديمية باشاك شهير في إسطنبول، التي تعد واحدة من المراكز المعنية بتعليم علوم اللغة العربية والعلوم الإسلامية معا، وهي تابعة للإشراف الوقفي. ومن أهم المراكز التعليمية أيضا -وفق التصنيفات المرئية في صفحات الإنترنت- المركز التابع لمعهد “إنغليش تايم” (English time) في إسطنبول، فهو مركز يهتم بتدريس اللغات الشرقية كلها، ولديه كادر ذو خبرة واسعة في قضايا تعلم العربية وتعليمها وكيفية تدريسها لغير الناطقين بها.

ومن أسباب اهتمامه باللغة العربية أن تعليمها في السابق كان حكرا على الجهات الدينية، ولم يكن هناك أساتذة أكفياء ولا منهج أو سلاسل تعليمية واضحة ومتبعة. لكن مزية هذا المعهد الآن أنه يجمع شرائح مختلفة من المجتمع وكثيرا من الجنسيات المتعددة، وهذا يدل على ثقل حضور العربية وكثرة الراغبين في تعلمها على اختلاف مشاربهم وأهوائهم وأغراضهم ومستوياتهم الاجتماعية والعلمية. أضف إلى ذلك أن الدارس والمتم للمستويات التعليمية كلها في المعهد يمنح شهادة معترفا بها من قبل وزارة التربية الوطنية التركية. كما تقدم هذه المراكز وغيرها لمن يود استكمال تعليمه فيها أو في غيرها تعليما للغة العربية بمستوى جيد جدا، وتعد حلا بديلا عن سفر كثير من الأتراك، كما كانوا يفعلون في السابق، إلى مختلف البلدان العربية لتعلم العربية في أراضيها ومن أهلها.

لم يقتصر الأمر على القطاع العام، فقد تبع القطاع الخاص القطاع العام في توجهه نحو العناية بتدريس العربية وتعليمها، وهناك كثير من الجهود العربية التي يمكن أن تُذكر في هذا السياق، منها المركز المصري للعلاقات الثقافية والتعليمية التابع لوزارة التعليم العالي المصرية، الذي يعد مركزا معتمدا ويهدف إلى تنشيط حركة الترجمة من العربية إلى التركية خاصة، ومزيته أنه يمنح شهادة معتمدة من مصر.

ارتباط اللغة التركية بالعربية وأسباب الإقبال على تعلم اللغة العربية

ترتبط اللغتان العربية والتركية ببعضهما ارتباطا جليا وعميقا وممتدا بعمق نحو جذورهما التاريخية، والأسباب تعود إلى المجاورة الجغرافية من جهة، ووحدة الدين والمعتقد من جهة أخرى، فحال الأتراك كحال المسلمين من غير العرب الذين وجدوا أنفسهم في أمس الحاجة لتعلم اللغة العربية لفهم تعاليم الإسلام وأفكاره على أكمل وجه ممكن. وقد كانت اللغة العثمانية تكتب بالحروف العربية إلى أن حدث انقلاب لغوي وتحول نحو الكتابة بالحروف اللاتينية مطلع عام 1928 بعد أن كانت التركية تكتب بحروف عربية لمدة وصلت إلى 900 عام.

وما نراه الآن من إقبال على تعلم العربية والترغيب في تعلمها يعود إلى أسباب دينية وسياسية واقتصادية وسياحية وإعلامية وتاريخية وثقافية. وقد صارت اللغة العربية مادة اختيارية في المدارس التركية بعد أن كانت محصورة في المؤسسات الدينية لفترة من الزمن. كما أعلنت بعض الجامعات التركية عن إدراج بعض التخصصات الأدبية والعلمية باللغة العربية لتواكب كثرة الطلاب العرب الراغبين في الدراسة بجامعاتها. كما لوحظ ازدياد حضور اللغة العربية من خلال كثير من الفعاليات الموجهة للعرب خاصة، فقد وصل عدد العرب الساكنين في تركيا إلى نحو 8 ملايين نسمة، وزاد حضورها بازدياد أعداد المكتبات العربية ودور النشر، وبكثرة عدد المترجمين من اللغة العربية وإليها في معظم المؤسسات التركية.

ومن الدوافع الباعثة على تعلم العربية أيضا أن هناك قسما لا بأس به من الأتراك من أصول عربية، وكانوا فيما مضى يتحدثون العربية لكنها ضعفت مع مرور الزمن وتقادم الأجيال واختلاف لغة الكتابة من العثمانية التي تعتمد الحروف العربية إلى التركية التي تقوم على الحروف اللاتينية، فضلا عن أن الإقبال على تعلمها صار بهدف إيجاد فرص عمل في مجال السياحة أو الترجمة أو التجارة. وقد رافق ذلك كله اهتمام حكومي داعم ومشجع على تعلم العربية.

متى كانت الخطوات الأولى نحو العناية باللغة العربية في تركيا؟

كانت أولى خطوات الاهتمام بتعليم اللغة العربية في تركيا في بداية الثمانينات، حين أُسس قسم للغة العربية في جامعة غازي بأنقرة عام 1985، وكان الهدف الرئيس منه تخريج أساتذة مؤهلين لتدريس اللغة العربية في ثانويات الأئمة والخطباء، وتدريسها للطلاب الجامعيين في كليات الإلهيات والعلوم الإسلامية، وقد تحقق ذلك بتخصيص سنة تحضيرية لهؤلاء الطلبة الجامعيين ليدرسوا فيها اللغة العربية حتى يتقنوا مهاراتها، إذ يدرسون ما يقرب من 25 إلى 30 ساعة أسبوعيا، ويتعرفون إلى ما في اللغة من قواعد النحو والصرف، ويتدربون على القراءة والمحادثة والكتابة والإنشاء، كما تخصص ساعات لتطوير مهارة الاستماع والفهم، وفي نهاية هذه السنة التحضيرية يخضع الطلاب لامتحان يقيس مستوياتهم في اللغة العربية، لتأهيلهم للانتقال في صفوف الليسانس التي سيدرسون فيها العلوم الإسلامية الخالصة.

كما أُسس معهد “تومر” في جامعة أنقرة، وهدفه الأول كان تعليم اللغة التركية للأجانب، ثم صار يهدف إلى تعليم عدد من اللغات المختلفة، ومن ضمنها العربية، وبات اسمه “مركز تطبيق أبحاث اللغات التركية والأجنبية”، وصارت له فروع كثيرة في عدد كبير من المدن التركية.

شاركها.
Exit mobile version