تتقلب الذائقة البشرية في تناول الفنون، ويقول نقاد وفنانون إن الجمهور ربما بدأ يسأم من مؤثرات “العالم الافتراضي”، وعاد كثيرون لتذوق ما يمكنهم “لمسه وسماعه ورؤيته” بلا شاشات، ومن بين هذه الفنون المرئية العريقة مسرح العرائس وعروض الدمى التي لا تزال تتميز بالبساطة رغم تطور تقنياتها.

يعود تاريخ مسرح الدمى لعصور قديمة، إذ تم استخدام الدمى منذ العصور القديمة لتمثيل أفكار ومشاعر المجتمعات البشرية ونقلها، كما تدل على ذلك الشواهد في حضارات آسيوية وفي مصر القديمة، وتشير إلى ذلك بعض الرسوم الهيروغليفية واليونانية القديمة، وازدهر في العالم العربي في العصر الوسيط وتحديدا في القرن الـ14.

وتقول دراسة أكاديمية حديثة إن تاريخ مسرح العرائس في مصر يُعد منظومة فنية للفرجة لا تغفل التكوين الجمالي للعرض، كما يستلهم المعتقدات الذهنية الفرعونية القديمة بمحافلها الكوميدية والتراجيدية الحبلى بالصور والرسومات.

وارتبط وجود مسرح الدمى بحقبة الفاطميين والمماليك، كما تشير كتب تاريخية مثل “سير المماليك”، كما ذكر المؤرخ القاهري ابن إياس (1448م – 1523م) في كتابه “بدائع الزهور في وقائع الدهور” أن السلطان العثماني سليم الأول (1470-1520) أحضر “خيال الظل” لإحياء بعض الليالي في مصر.

الأراجوز

واستعرضت دراسة للأكاديمية الجزائرية زينب لوت بعنوان “أثر مسرح العرائس المصري في تكوين مؤثرات الفرجة في العالم العربي والأفريقي” تأثير هذا الفن في تكوين مؤثرات الفرجة ببلدان العالم العربي وقارة أفريقيا.

وتشير الدراسة إلى أن مسرح العرائس المصري تعددت مسمياته، التي من بينها مسرح “الكراكيز”، و”الأراجوز”، و”قرقوش”، وهو في كل مسمياته مثل حالة من الترفيه والتفاعل الكبير الذي تشكل من خلالها الفلكلور المصري العريق.

والأراجوز -الذي ذكره المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي (1753 – 1825) في تأريخه للمجتمع المصري- دمية يحركها لاعب متخصص يقدم بها عرضا تمثيليا غنائيا، كما تطلق الكلمة نفسها على اللاعب الذي يؤديها من خلال حوار تمثيلي من وحي خيال اللاعب، وذلك بمساعدة شخص آخر أو بمفرده، كما يغني أيضا خلال العرض، ويصدر صوته من خلال آلة صغيرة توضع في مكان شديد الحساسية والخطورة في نهاية الحلق مصنوعة من “الاستانلس”، تحتاج من الشخص مهارة خاصة وتدريبات.

جذور فرعونية وإحياء معاصر

وكما تقول الدراسة، التي نشرت ضمن برنامج النشر العلمي للمؤتمرات العلمية بأكاديمية الفنون بالقاهرة، فإن المسرح التمثيلي الخاص بالدمى أو العرائس ينبعث في التاريخ المصري، وله جذوره الممتدة حتى العصور الفرعونية، عبر صور “عرائس أوزوريس”، معتبرة أن أهمية الدمى عميقة عمق التاريخ الإنساني.

وأشارت الدراسة إلى أنه في عام 1957، أحيت مصر ذلك التراث الفني ذا الجذور التاريخية، وأقيم “مسرح عرائس مصر” في ذلك العام، وتولى الإشراف عليه الفنان أحمد عامر -رائد ذلك الفن آنذاك- وتم إنشاء فرقة المسرح الشعبي للقيام بإحياء فن العرائس، وربطت إعادة إحياء هذا الفن بأهداف تربوية وتعليمية وفنية وتراثية، وتطور عبر الاحتكاك بالتجارب الغربية والعربية.

ووفقا للدراسة، فقد صنعت تشيكوسلوفاكيا 10 “دمى” من الكاوتشوك والماريونيت تدعيما لمسرح العرائس في مصر، كما سعت إدارته لتوجيه دعوة نحو اليابان والصين وروسيا حتى تتبادل الخبرات والمعارف نحو مستجدات هذا الفن، وقد أسهم مجيء مسرح العرائس الرومانية (ساندريكا) إلى القاهرة 1957 في تطوير التجربة المصرية والتأثير في جمالياته الأدائية وتنويع موضوعاته.

وحسب دراسة الباحثة الجزائرية، فقد تطور مسرح العرائس في مصر بالتفاعل مع التجارب الغربية لتطوير تقنيات العرض وحتى على مستوى الأهداف والغايات.

مسرح الأراجوز في مصر

وتشير الدراسة إلى أن العروض الشعبية مارست نشاطا واسعا في مصر، وقد حقق الأراجوز انتشارا واسعا وشعبية في أوساط الجمهور الذي يتأثر بطريقة العرض المسلية والمواضيع التي لامست حياتهم وبيئتهم بأشكال بسيطة مؤثرة.

وناقشت الدراسة التكوين الفني لمسرح العرائس في مصر، وأثره على مكونات المسرح العالمي للدمى، وشرحت “كيف أن تطوير هذا الفن اشترط الاستعانة بتقنيات حديثة ومعاصرة كانت ضرورية من أجل تطويره وتقديم عروض تهتم بالجوانب الفلكلورية من جهة، والاجتماعية الترفيهية والتعليمية التربوية من جهة ثانية”.

وبيّنت الدراسة أن مسرح العرائس تميز بالدقة في انتقاء المواضيع مع مراعاة الفروق العمرية، كما اهتم بالجانب التعليمي بشكل واضح متأثرا بمدارس مسرحية عالمية، وأشارت إلى أن فنون الترفيه والتسلية الشعبية لها القدرة على ممارسة سلطة تمرير الخطابات وترسيخ القيم، منوهة بما اكتسبه المصريون من معارف نتيجة انفتاحهم على التجارب الدولية في هذا المجال، إذ كان من نتاج كل ذلك وصول فن العرائس المصري إلى العالمية.

ورأت أن مسرح العرائس المصري استفاد من العادات والتقاليد الشعبية، التي تناسب الإبداع المسرحي، لتمرير رسالة ذات أهداف تلامسُ المعرفة والتوجيه والإصلاح وبناء الشخصية السوية، ولا تغفل الفرجة الترفيهية التي تخفف أعباء الواقع وتلطف خشونته بالتسلية ومحاكاة الجمهور.

وأشارت الدراسة إلى أن فنون العرائس والقراقوز والدمى وخيال الظل انتشرت في الساحات الشعبية، مثل الحواري والمولد والأرياف، والاحتفالات بأشكالها المختلفة ومواضيعها المتنوعة، مثل “عرائس الريف” التي تميزت بنموذج ريفي يرسم الحياة في القرية.

وكانت المستويات اللغوية تنخفض وترتفع حسب طبيعة الجمهور، مثلما هي الحال في عرض “حمار شهاب الدين” و”الفيل نونو الغلباوي” و”أوبريت المعدية”، و”دقي يا مزيكة” وغيرها من العروض المؤثرة.

البعد الرمزي

وإذ تتعدد العرائس في أشكالها وطرائق صنعها ومهارات تحريكها، فضلا عن التنوع والتمايز بين الأشكال وطريقة الاستعمال، فقد اكتسبت بعدا رمزيا، خاصة في مسرحيات (الماريونيت) أو العرائس التي تحركها الأسلاك، ومسرحيات عرائس اليد أو القراقوز حسب منطق النص والحكاية والجمهور والهدف التعليمي والترفيهي.

وحسب الدراسة، فقد كان لمسرح العرائس أثره التربوي والنفسي والتثقيفي في مصر والعالم العربي والعالم الغربي أيضا، واهتم بالطفل كونه اللبنة الأولى للمجتمع وعاملا مهما في توازن شخصية الأطفال ونموهم نموا يحفظ الرؤية المستقبلية لشخصيات سليمة تنشأ على الأخلاق والقيم، وذلك من خلال نقل المشاهد إلى عوالم جديدة تفصله عن الواقع، وتنقله نحو جمالية المتعة والفرجة والتسلية والكوميديا التي تساهم أيضا في التعليم والتربية.

ولا يتوقف دور العرائس عند التسلية والمعرفة، حسب الدراسة، بل يمتد نحو التوجيه للفضائل الصحية وعادات الأكل، حيث كانت مواضيع الغذاء والنظافة والحياة الصحية من الأولويات الضرورية لنشاط مسرح الدمى الفني.

كما أن العرائس بنماذجها التمثيلية وحركاتها المثيرة لاهتمامات الطفل، تدعم نفسيته وتدفعه نحو الاستقرار وتجاوز مشكلاته وصعوبات التأقلم مع واقعه، حيث تقرب المفاهيم وتبسط التعامل والتعايش مع الآخرين وتقاسم الطفل مواطن السعادة والفرح والتسامح.

شاركها.
Exit mobile version