كييف- “لا وقف لإطلاق النار ولا هدنة في (يوم النصر)، ولن يمر احتفال بوتين واستعراضه العسكري أمام ضيوفه بهدوء وفخر كما يريد”. هكذا بدا الموقف الأوكراني من مبادرة أعلنها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بمناسبة الذكرى الـ80 لنهاية الحرب العالمية الثانية، والنصر على ألمانيا النازية.

وبوتين، الذي توعد كييف برد ساحق إن لم تلتزم، رأى في رفضها دليلا على “ازدراء التاريخ والتضحيات المشتركة”، وجدَّد اتهام سلطاتها بـ”النازية”، الذي كان أبرز ذرائع حربه الشاملة على أوكرانيا، منذ فبراير/شباط 2022.

وفيما يبدو وكأن الخلاف كبير بين الجانبين على موقف من “مناسبة وطنية” تتمتع بقيمة ومكانة تاريخية، لكنه في الحقيقة أكبر من ذلك بكثير.

فبعد عقود من الوقوف والاحتفال جنبا إلى جنب، تباعدت المسافات كثيرا بين كييف وموسكو، وصارت القطيعة عنوانا لعلاقاتهما وبكل المناسبات، قبل أن تبدأ بينهما حرب عسكرية غير مسبوقة، وضعت جانبا أخوّة “العرق السلافي”، وشعارات الصداقة الأبدية، والتاريخ المشترك على مدار 70 عاما في حقبة الاتحاد السوفياتي.

تثبيت الهوية

وبدأ الأمر بخلافات كبيرة سببتها “الثورة البرتقالية” نهاية 2004، التي دعت إلى “إحياء الهوية وتصحيح التاريخ”، ثم تأجج الصراع في 2014، باحتلال روسيا لشبه جزيرة القرم، ودعم حراك انفصالي في عدة مقاطعات، قبل شنَّها حربا واسعة على أوكرانيا.

وهكذا، تطوَّرت الخلافات لتشمل قطع العلاقات الدبلوماسية، وحظر الأحزاب الشيوعية والموالية لروسيا، وكذلك هدم التماثيل وإلغاء المناسبات وإزالة الرموز والأسماء الدالة على الماضي المشترك، مع إعادة كتابة التاريخ، الذي بات يعتبر الاتحاد السوفياتي “نظاما دكتاتوريا محتلا”، وكذلك روسيا من بعده.

وما “يوم النصر” إلا واحد من أمثلة كثيرة على ماضٍ ألغته أوكرانيا واعتمدت عوضا عنه في 2015 ما يسمى بيوم “الذكرى والمصالحة”، وحدَّدت لذلك تاريخ الثامن بدلا من التاسع من مايو/أيار، لتخالف الروس، وتشارك أوروبا تقاليدها في ذكرى نهاية الحرب.

حتى إنها غيَّرت رمز المناسبة، واستبدلت “شريطة البطولة” المخططة باللونين الأسود والبرتقالي، التي كانت تزين بها الطرقات والساحات، ويضعها المحتفلون والمحاربون القدامى على صدورهم، بزهرة “شقائق النعمان”، الرامزة إلى دماء الجنود والقتلى المدنيين.

وبطبيعة الحال، تعتبر السلطات الروسية أن نظيرتها الأوكرانية الراهنة والتي سبقتها “خانت” الأخوة والتاريخ، بينما يبدو للأوكرانيين وجهة نظر مغايرة تماما.

المؤرخ أوليكساندر بالي أعمال الروس هي من دفع الأوكرانيين للتشكيك بالماضي (الجزيرة)

تغييب الحقائق

ويقول الكاتب والمؤرخ، أوليكساندر بالي، للجزيرة نت إن “سياسات وأعمال الروس هي أول وأهم العوامل التي دفعت الأوكرانيين إلى التشكيك بالماضي، والبحث عن الحقيقة التي غُيبت عنهم ليبقوا في دائرة التبعية”.

وأضاف بالي -وهو صاحب كتاب تاريخ أوكرانيا المعاصر- “إذا ما أخذنا “يوم النصر” كمثال، نجد أن موسكو حددته بالتاسع من مايو/أيار لتخالف الغرب، وتظهر باحتفالاتها الضخمة المتعمدة أنها صانعة النصر العظيم، الذي نعلم جيدا أنه ما كان ليتحقق لولا دعم الحلفاء، والتضحيات الكبيرة التي قدمتها كل دول الاتحاد السوفياتي، وخاصة أوكرانيا”.

وحول التضحيات، يقول بالي إن ما يهمهم كأوكرانيين أكثر، أن السوفيات، والروس من بعدهم، أنكروا تلك التضحيات حتى لا يظهروا بموقف “الممتن المدين” لكييف ومينسك وغيرها. وأضاف: “من أصل 20 مليون مقاتل سوفياتي، ثمة 7.5 ملايين جندي أوكراني حاربوا ألمانيا النازية، نصفهم تقريبا قُتلوا”.

آليات ومعدات روسية محترقة أمام وزارة الخارجية في وسط العاصمة كييف
آليات ومعدات روسية محترقة أمام وزارة الخارجية وسط العاصمة كييف (الجزيرة)

وتابع “كما قتل 8 ملايين مدني أوكراني، من أصل 27 مليونا من سكان دول الاتحاد؛ وبهذا تصدرت البلاد قائمة التضحيات إلى جانب بيلاروسيا، هذه حقائق كانت مغيبة”.

وفي ذات السياق، يقول الأستاذ المحاضر في جامعة “كييف موهيلا”، فاليري بيكار: “تريد روسيا إذلال أوكرانيا، وتتعمد إغفال حجم مساهمة الأوكرانيين في عملية النصر”.

ويرى بيكار أن الرواية السوفياتية التقليدية، التي قدمها ستالين في 1945 ولا تزال نشطة حتى اليوم في ظل بوتين، تصور “الشعوب الروسية” على أنها منتصرة، وأن جميع الشعوب الأخرى كانت ثانوية، وكان من الممكن الاستغناء عنها، ومنهم الأوكرانيون وتتار القرم وغيرهم، الذين “اتهم بعضهم بخيانة الوطن والتعاون مع النازيين”.

مفارقات الحرب

وبعيدا عن جدل المواقف والحقائق التاريخية، ثمة مفارقات لافتة اليوم في ظل الحرب، يراها الناس، ويستحضرها معظم السياسيين والخبراء كلما تحدثوا عن مناسبة “النصر”.

وفي أنحاء متفرقة وسط العاصمة كييف، لا تُستعرض آليات ألمانية من مخلفات الحرب العالمية الثانية، بل تنتشر آليات روسية محترقة، ترمز إلى القدرة على مواجهة الروس، والإيمان بـ”النصر عليهم”.

ويقول الخبير بيكار للجزيرة نت إن من “أكبر المفارقات” أن تحيي روسيا ذكرى النصر والسلام بالتزامن مع إشعالها أكبر حرب تشهدها أوروبا منذ 1945، وأن تكون ضحيتها أوكرانيا “الشقيقة”، ثاني أكبر وأهم دول الاتحاد السوفياتي السابق بعد روسيا، وأن تتهمها لهذا الغرض بـ”وراثة النازية”، فتضعها في خندق واحد مع “ألمانيا هتلر”.

أما الكاتب والمؤرخ، بالي، فيرى أنه خلال الحرب العالمية الثانية، اضطر الأوكرانيون “لقتال السيئ إلى جانب السيئ، أو قتالهما معا بإمكانيات محدودة”، كما فعلت حركة التحرر الوطني بقيادة ستيبان بانديرا، الذي لم يسلم من الطرفين، “فزج في معتقلات النازيين كعدو، واعتبر خائنا في موسكو”.

ويشير إلى أن الحرب والسنوات التي سبقتها أثَّرت بشكل كبير على نظرة الأوكرانيين إلى روسيا، فحولتها من جارة صديقة وشقيقة إلى “أكبر تهديد وعدو”.

كما دفعت معظمهم إلى التشكيك وإعادة النظر في كل الأحداث والجرائم التاريخية، التي “جعلت صفحات الحقبة السوفياتية سوداء في تاريخهم، والاتحاد فيه احتلال، وورَّث موسكو نزعة التسلط والهيمنة”، حسب قوله.

شاركها.
Exit mobile version