القدس المحتلة- أجرى ملحق نهاية الأسبوع في صحيفة “هآرتس”، حوارا مطولا مع عدد من الطيارين ومشغلي الطائرات المسيّرة والضباط في سلاح الجو الإسرائيلي، ممن يشاركون بشكل مباشر بالغارات الجوية المكثفة على قطاع غزة منذ بداية الحرب.

اعتمدت الصحيفة في إعداد التقرير على مقابلات جماعية، مع الحفاظ على سرية أسماء المشاركين “لدواعٍ أمنية”، كونهم من الأشخاص المسؤولين بشكل مباشر عن تنفيذ عمليات القصف والتدمير التي طالت القطاع، وأودت بحياة أعداد كبيرة من المدنيين الفلسطينيين.

وأظهر الحوار الذي أجراه الصحفيان إيتاي ماشيح وران شمعوني، جانبا من المشهد الحربي، إذ قدم سردا داخليا لتجارب الطيارين ومشغلي الطائرات المسيرة، من خلال إفاداتهم التي كشفت عن تصدعات نفسية وأخلاقية بدأت تظهر في أوساطهم.

تجهيز طائرة حربية إسرائيلية على المدرج قبيل شن غارات على غزة (الجيش الإسرائيلي)

“منفذو الأوامر”

يتحدث الطيارون عن لحظات مفصلية، رأوا فيها وجوه الأشخاص الذين قصفوهم، وجوه أطفال ونساء ومسنين، ظهرت فجأة على شاشات الطائرات المسيرة أو خلال تحليل ما بعد الغارة.

يروون كيف تحولت العمليات التي كانت تنفذ في السابق كمهام “روتينية” إلى أفعال مشحونة بالشكوك والندم، حتى أن بعضهم بدأ بالتشكيك في جدوى الحرب نفسها والاستمرار فيها.

وإلى جانب الأثر النفسي، أعرب العديد من الطيارين عن قلق قانوني متزايد من تبعات مهامهم، في ظل تصاعد الحديث عن التحقيق بجرائم حرب ومخاوف من ملاحقات دولية، فـ”تنفيذ الأوامر” لم يعد -في نظرهم- يشكل حصانة كافية أمام القانون الدولي.

ولم تقتصر الشهادات على البعد الشخصي، بل كشفت عن تحول في المزاج داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، إذ أصبحت قضايا مثل حماية المدنيين محورا أساسيا في النقاشات، مدفوعة بما يسمى الآن “القلق الأخلاقي” والتداعيات القانونية المحتملة.

وكشفت المقابلات التي أجرتها الصحيفة مع عدد من أفراد القوات الجوية الإسرائيلية، من طيارين، ومشغلي طائرات مسيرة، وضباط دعم جوي، وحتى ضباط يعملون في الخطوط الأمامية، عن مواقفهم وأفكارهم التي ترافق خدمتهم منذ اندلاع الحرب على غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.

وأضفت مدة الحرب الطويلة، إلى جانب حجم القتل والدمار، مزيدا من التعقيد والتوتر، حيث عبر بعض المشاركين بالمقابلات عن مشاعر قاسية، وتحدثوا عن صراع داخلي حقيقي، بل وتردد بالاستمرار بالخدمة العسكرية.

في المقابل، رأى آخرون أن ما يجري هو جزء “طبيعي” من واقع الحرب، رغم اعترافهم بأنه “مؤسف”، وأشاروا إلى أن “الأذى الواسع” الذي يلحق بالمدنيين الأبرياء “ليس مقصودا”، بل “نتيجة حتمية” لما وصفوه بـ”إحصائيات الحرب القاسية” و “ظروف القتال المعقدة على أرض الواقع”.

الإعلام الإسرائيلي يسلط الضوء على تصاعد أزمة امتناع جنود وضباط عن الخدمة العسكرية

متورطون

تشير المقابلات إلى أن نظام الهجوم الجوي في الجيش الإسرائيلي يعمل بطريقة مجزأة، تجعل من الصعب على المشاركين في مختلف مراحل العملية العسكرية أن يدركوا الصورة الكاملة، بما في ذلك العواقب الإنسانية للقصف، فغالبا ما يتعمد أن تغيب هذه الصورة عن وعيهم أثناء تنفيذ الغارات.

ففي الشهادات قال طيار متقاعد شارك في الحرب كضابط دعم جوي ضمن أحد الألوية في غزة “لا أريد أن أُهين من هم في قمرة القيادة، لكن الطيار لا يعرف فعليا ما الذي يقصفه”، وأضاف أن من غير المريح الاعتراف بذلك، لكن الواقع هو أن الطيارين يعانون.

وتابع “هم لا يتلقون أي معلومات واضحة عما يحتويه الهدف”، ما يجعل قراراتهم محصورة في نطاق ضيق من المعرفة، ويضاعف من وطأة المعضلة الأخلاقية التي يواجهونها.

من جهة أخرى، أعرب عدد من أفراد سلاح الجو غير المشاركين مباشرة بالهجمات على غزة عن ارتياحهم لعدم تورطهم، وأوضح بعضهم أنهم يتعمدون تجنب التفكير بالأمر، وقال أحدهم “لماذا أحمّل روحي ما قد لا أقدر على تحمله؟”

ومع ذلك، فإن أصواتا أخرى داخل السلاح لا تزال تدق ناقوس الخطر، ففي الأسبوع الماضي، وجه عدد من أفراد القوات الجوية رسالة إلى الطيارين، حذروا فيها من أن الوضع يزداد خطورة، بينما كان المشهد في حي الشجاعية، حيث وُوريت عشرات الجثث الثرى في صباح اليوم ذاته، شاهدا دامغا على ما تنطوي عليه هذه التحذيرات من حقيقة مؤلمة، بحسب الشهادات التي أوردتها الصحيفة.

طائرة مسيرة إسرائيلية تحلق قبالة سواحل غزة (الجيش الإسرائيلي)

تنفيذ رغم الشكوك

عبّر “ر”، وهو طيار احتياطي لطائرة “إف-16” عن تحول حاد في مشاعره منذ بدء الحرب على غزة، ففي البداية، رأى فيها “حربا عادلة”، لكنه اليوم يعيش صراعا داخليا متزايدا، ويصف الموقف بأنه “معضلة يومية”، مشيراً إلى أن بعض الطيارين يفكرون بالتوقف عن الطيران بسبب فقدان الثقة بجدوى القتال.

ويؤكد أن “التساؤل عن الغاية من القصف ليس سياسيا، بل أخلاقيا وإنسانيا، حتى بين مؤيدي الحكومة”، ويضيف “كل طلعة جوية تزن الكثير، وإذا لم أفهم هدفها، كيف أواصل؟”، لكنه ورغم شكوكه بالحكومة، لا يزال يثق بسلاح الجو ومنظومة اتخاذ القرار فيه، ويعترف بمحدودية معرفته بالأهداف “قد يقال لي إن الهدف ضابط كبير، لكنه ربما يكون مراهقا، ولا أعلم ما إذا تم إخلاء المكان”.

ويختم قائلا “أثق بأن من يختار الأهداف يحاول تقليل الأضرار، لكن في النهاية، علي أن أعيش مع نتائج ما أفعل، قد يكون هناك من قرر أن مقتل ما يصل إلى 10 مدنيين ضرر يمكن تحمله، بينما أنا لا أقبل بذلك، ومع ذلك، هذه الثقة عليّ أن أحددها مسبقا، لا يمكنني أن أفتح هذا النقاش داخل السرب”.

شاركها.
Exit mobile version