21/8/2025–|آخر تحديث: 21:47 (توقيت مكة)
في مساء شتوي بارد من ديسمبر/كانون الأول الماضي، كان أحمد -اسم مستعار لجندي سوري سابق- يسير متخفيا عبر أزقة دمشق. لحظتها، كان النظام الذي خدم تحت رايته قد انهار، وعناصر المعارضة المسلحة الذين طالما خشيهم دخلوا العاصمة وأطاحوا بنظام الرئيس بشار الأسد.
ووفق قصته التي نقلتها صحيفة فايننشال تايمز البريطانية، خلع أحمد بزته العسكرية للتخفي وابتلع نصف حبة كبتاغون كما فعل مئات المرات وهو بالجيش في لحظات التوتر، قائلا بابتسامة ساخرة إنها أعطته الطاقة وشجاعة -بل الوهم وفق تعبيره- لمواجهة أي “متمرد”.
لم تكن تلك الحبة مجرد وسيلة للهروب الفردي، بل انعكاسا لإرث نظام حكم سوريا لسنوات، وفق تقرير الصحيفة من 3 مدن سورية، هي دمشق والسويداء ودير الزور.
وتفيد الصحفية رايا جلابي في تقريرها بأن الأسد حوّل بلاده خلال 14 سنة من الحرب إلى واحدة من أكبر أوكار المخدرات في العالم، حيث بلغت قيمة صناعة مخدر الكبتاغون وحدها 5 مليارات دولار سنويا.
ولم يقتصر استخدام المخدر على الاتجار، بل وصل إلى الجيش نفسه، إذ كان القادة يوزعون الحبوب على الجنود مجانا، أو يخلطونها مع الشاي والكعك قبيل المعارك لمواجهة الجوع والسهر، وفق التقرير.
ولكن منذ ذلك اليوم من ديسمبر/كانون الأول، شهدت سوريا تحولا مذهلا، تمثل في حرب شاملة على المخدرات يقودها الرئيس الجديد أحمد الشرع، الساعي إلى تفكيك الإمبراطورية التي خلّفها الأسد، حسب الصحيفة البريطانية.
ووفق التقرير، تعهّد الشرع بأن تكون واحدة من أبرز معاركه “تطهير سوريا من المخدرات”، ووقف في المسجد الأموي بدمشق ليعلن أن “سوريا كانت مصنعا رئيسيا للكبتاغون، واليوم، بفضل الله، تُطهَّر منه”.
وبالفعل، انطلقت حملة شرسة أسفرت عن مصادرة 200 مليون حبة بين يناير/كانون الثاني وأغسطس/آب 2025، أي 20 ضعف ما صودر في العام السابق بأكمله، طبقا لما نقلته فايننشال تايمز عن معهد “نيو لاينز” الأميركي في واشنطن.

وانخفضت معدلات إنتاج المخدر في سوريا وتهريبه بما يصل إلى 80% بعد مداهمات استهدفت مختبرات الكبتاغون في معاقل النظام السابقة وتدمير ملايين الحبوب، وفق ما نقله التقرير عن تجار مخدرات ووجهات أمنية ومسؤولين محليين وباحثين.
كما تم تدمير مختبرات في مطار المزة العسكري وفي فيلات تعود لماهر الأسد ورجاله، حسب التقرير.
أخطر من الإرهاب
ويشير التقرير إلى أن بدء الحرب على المخدرات أسهل بكثير من كسبها، فعلى الرغم من تباطؤ إنتاج المخدر، فإن المنتجين والمهربين يواصلون التهرب من الاعتقال، مستغلين الفراغ الأمني في مناطق لا تزال الحكومة الجديدة غير قادرةعن السيطرة عليها.
وقال مسؤول بوزارة الداخلية في دير الزور للصحيفة البريطانية إن الخطر الأكبر لم يعد تنظيم الدولة، بل المليشيات المسلحة التي تواصل تشغيل شبكات الكبتاغون عبر الحدود.
وأضاف: “في كل مصنع كبتاغون ندهمه نجد ترسانة من الأسلحة”.

وفي الجنوب قرب الحدود الأردنية، استمرت تجارة الكبتاغون عبر شبكات مرتبطة بالنظام السابق، حسب التقرير.
وقد نجت هذه الشبكات -يتابع التقرير- لأنها تعمل في مناطق خارجة عن سيطرة الحكومة.
ووفقا للتقرير، لا تزال الحبوب تُهرّب عبر وسائل مبتكرة تُستخدم فيها مسيّرات صغيرة، وحتى بالونات يتم التحكم فيها عن بُعد.
“كنا نعرف الحراس المتواطئين ونتعامل معهم فقط. هؤلاء ما زالوا في مواقعهم على الحدود ويغضون الطرف”
ومع أن محاولات التهريب قلّت بشكل ملحوظ، فإن الفقر سهّل تجنيد شباب للعمل مهربين مقابل آلاف الدولارات لنقل كيس يزن 30 كيلوغراما من الحبوب.
وحسب التقرير، بعض حرس الحدود السوريين المعروفين بتلقي الرشى بقوا في مواقعهم بسبب نقص الأفراد، وقال أحد المهربين السابقين للصحيفة: “كنا نعرف الحراس المتواطئين ونتعامل معهم فقط. هؤلاء ما زالوا في مواقعهم على الحدود ويغضون الطرف”.
ويشتبه في وجود اختراقات داخل وحدات مكافحة المخدرات، إذ قال ضابط بالقلمون -للصحيفة- إنه عجز عن اعتقال تاجر كبير نقل معامله إلى لبنان، لأنه كان يتلقى تحذيرات مسبقة قبل كل مداهمة.
وبعيدا عن الحدود، ما زال السوريون يدفعون ثمن إمبراطورية المخدّرات التي أنشأها الأسد، وفق فايننشال تايمز، فالبلاد لا تضم سوى 4 منشآت لعلاج الإدمان، بينما تقدم المستشفيات عادة علاجا أوليا لفترة أسبوعين فقط دون برامج إعادة تأهيل.
وقال الدكتور غامدي فرعل -مدير مستشفى ابن رشد في دمشق- لكاتبة التقرير إن “الموارد الموجودة غير كافية إطلاقا لمواجهة حجم المشكلة في سوريا، ولكن الدولة بالكاد تستطيع تحمّل تكاليف ذلك”.
ومع ندرة الكبتاغون وارتفاع أسعاره، تحول كثيرون إلى بدائل أخطر وأرخص مثل الميثامفيتامين (الكريستال ميث)، ومن بين هؤلاء الجندي السوري السابق أحمد، الذي تسبب تعاطيه للكريستال ميث في فقدانه عدة أسنان، حسب التقرير.
وعلق أحمد للصحيفة بأن “رسالة الحكومة الجديدة واضحة: لا تسامح مع المخدرات في سوريا الجديدة. ولكن بعد كل ما مررنا به، هذا وحده لا يكفي لردعنا”.