25/7/2025–|آخر تحديث: 15:23 (توقيت مكة)
في شهادة شخصية تقطر ألما نشرتها صحيفة إندبندنت البريطانية، كشف الكاتب الفلسطيني أحمد نجار، المقيم في لندن منذ 22 عاما، عن الواقع المأساوي الذي تعيشه عائلته في قطاع غزة، حيث تحوّل التجويع إلى سلاح إبادة بطيئة في ظل حصار خانق تقوده إسرائيل، وبتواطؤ دولي لم يعُد صامتا فحسب، بل بات فعّالا، على حد تعبيره.
تحدّث نجار، وهو موظف في القطاع المالي بلندن، عن محادثة مؤثرة جمعته مؤخرا بوالدته المسنّة في غزة، والتي أبلغته أن شقيقه وابن شقيقه اضطرا للعودة إلى أنقاض منزل العائلة المدمر بفعل القصف الإسرائيلي في مخيم جباليا شمالي القطاع المحاصر، على أمل العثور على 3 علب فاصولياء دُفنت تحت الركام.
ومن الساعة التاسعة صباحا حتى الرابعة عصرا، ظل الاثنان يحفران بأيديهم العارية تحت لظى شمس يوليو/تموز الحارقة، وفي منطقة لا تزال تُصنّف إسرائيليا على أنها “منطقة قتال”، رغم علمهما بخطر التعرض لإطلاق النار أو قصف الطائرات الإسرائيلية المسيّرة. لم يكن أمامهما خيار آخر، فهما يتضوران جوعا.
الغذاء حشائش
وفي مشهد آخر لا يقل قسوة، خرجت شقيقته تبحث لساعات عن ما يسدّ رمق أطفالها الأربعة الذين تتراوح أعمارهم بين 10 و16 عاما، وعادت بما لا يُطعم الطير: حفنة من الحشائش، هذا كل ما استطاعت تقديمه لهم في ذلك اليوم.
يقول النجار في مقاله إن ما يجري في غزة ليس مجاعة، وليس نزوة قاسية من الطبيعة نتيجة جفاف أو أزمة مناخية، ولا حتى انهيارا في سلاسل التوريد، “هذا جوع من صُنع الإنسان، متعمد، محسوب، ومفروض”.
ويضيف أن ما يحدث في غزة عمل تنفذه قوات الاحتلال بوعي كامل منها، وبتغطية من المجتمع الدولي. ويقول “نحن نشهد إبادة بطيئة، تُمارَس بالقنابل، وبالحرمان، وبالقصف المنهجي لكل ما يجعل الحياة ممكنة”.
ويشير إلى أن المجاعة لم تعد مجرّد تهديد يلوح في الأفق، بل هي واقع يومي، حيث لقي 21 طفلا حتفهم بسبب التجويع خلال 3 أيام فقط، وفق تصريحات لمسؤول طبي رفيع في غزة، بينما تحذر منظمات الإغاثة من أن ربع مليون شخص يعيشون على شفا المجاعة الكاملة.
أنا أجلس الآن إلى طاولة. أذهب إلى المطبخ، أفتح ثلاجة تعجّ بالخيرات. أغلي الماء لتحضير الشاي. أمرّ بجانب محال وأسواق ممتلئة بالسلع، وأشعر بالغثيان، غثيان من الذنب، غثيان من العجز، آكل وأختنق بخزي لا يُطاق
غثيان
وتابع قائلا بعبارات حزينة تعكس حجم المأساة “أكتب هذه الكلمات من لندن، حيث أعيش منذ 22 عاما. أعمل في مجال المال، وأعيش في منزل مريح في حي إزلنغتون، وأنا أجلس الآن إلى طاولة. أذهب إلى المطبخ، أفتح ثلاجة تعجّ بالخيرات. أغلي الماء لتحضير الشاي. أمرّ بجانب محال وأسواق ممتلئة بالسلع، وأشعر بالغثيان، غثيان من الذنب، غثيان من العجز، آكل وأختنق بخزي لا يُطاق”.
وتابع “أنام وأصحو وأنا أشعر أنني هجرت دمي ولحمي. أخي ينبش الأنقاض بحثا عن طعام مُعلب، بينما أشعر بنعومة فراشي تحتي. أختي تطعم أطفالها الحشائش، بينما ابني البالغ 10 أشهر في لندن يبصق البازلاء لأنه لا يحبها”.
واعتبر أن ما تشهده غزة لا يمكن تبريره بأي منطق أخلاقي.
وفي الوقت الذي تطالب فيه حكومات غربية (بينها بريطانيا وفرنسا وكندا وأستراليا) برفع القيود عن دخول المساعدات، لا تزال هذه الدول -حسب نجار- تمارس نفاقا سياسيا صارخا، إذ تواصل دعم إسرائيل عسكريا ودبلوماسيا.
ويضيف “حكومتي البريطانية تتحدث عن السلام، بينما تبيع الأسلحة، وتمنح الغطاء الدبلوماسي لمن يقصف المخابز، ويطلق النار على قوافل المساعدات، ويحوّل الخبز إلى ساحة معركة”.
وفي واحدة من أكثر الحوادث فتكا، أطلقت القوات الإسرائيلية النار على حشود فلسطينية كانت تنتظر الطحين، ما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 93 شخصا. ويؤكد نجار أن الضحايا “قُتلوا لأنهم كانوا جائعين، ومات بعضهم وأكياس الطحين الفارغة لا تزال في أيديهم”.
ويخلص الكاتب إلى أن معاناة عائلته المكونة من والدته ووالده وإخوته وأبنائهم، لا تعدو أن تكون مرآة لمعاناة شعب كامل يتعرض للتجويع المتعمد، بينما يشاهد العالم من بعيد دون أن يُحرِّك ساكنا، بل ويشارك، عن قصد أو تجاهل، في الجريمة.
وختم أحمد نجار مقالته بنداء أخير، صريح ومؤلم “في يوم ما، سينتهي كل هذا، وسينقشع الغبار، وسوف تُحصى القبور. وستسأل غزة: أين كنتم؟ ماذا فعلتم بينما كنا نتضور جوعا؟ وسأسأل أنا أيضا. لأن الصمت جريمة، وإنْ أشحت بنظرك، فأنت شريك في الجريمة أيضا”.