القدس المحتلة- بعد نحو 600 يوم من الحرب على غزة، تواجه إسرائيل تدهورا غير مسبوق في مكانتها الدولية، بعد تصاعد الانتقادات من أقرب حلفائها، حيث هدّدت بريطانيا وفرنسا وكندا بفرض عقوبات، في حين اتخذت لندن خطوات فعلية، شملت إلغاء مفاوضات تجارية، واستدعاء السفيرة الإسرائيلية، وعقاب عدد من قادة المستوطنين.
ويزداد الوضع الداخلي في إسرائيل سوءا، وسط تحذيرات من انهيار اقتصادي قد تصل خسائره إلى مليارات الدولارات، وتنامي المخاوف من عزلة دولية خانقة، حيث وصفت وزارة الخارجية الإسرائيلية المشهد بأنه “الأسوأ على الإطلاق”، في ظل تزايد الضغوط على حكومة بنيامين نتنياهو.
وهذا “التسونامي الدبلوماسي”، كما وصفته مصادر دبلوماسية في تل أبيب، يحرج الحكومة الإسرائيلية، ويثير تساؤلات جدية حول مستقبل علاقاتها الدولية، واحتمال حدوث قطيعة مع شركاء تقليديين.
عداء عالمي
وقال مسؤول إسرائيلي لصحيفة “يديعوت أحرونوت”: “نواجه موجة عداء عالمية، لا خطط، ولا حلول، فقط دمار، والعالم ضاق ذرعا”، بينما تتوسع المقاطعة الصامتة، وتتعمق العزلة، وتعيش إسرائيل أسوأ لحظاتها الدبلوماسية منذ عقود، على حد وصفه.
وداخليا، تتصاعد الأصوات المنتقدة لحكومة نتنياهو، بينها رئيس الوزراء الأسبق إيهود أولمرت، والمسؤول العسكري السابق يائير غولان، في حين دعا إيهود باراك إلى عصيان مدني، كما امتنعت الأحزاب الحريدية (أحزاب اليهود المتدينين) عن التصويت مع الائتلاف الحكومي للأسبوع الثالث على التوالي، في مؤشرات تنذر بتفكك الحكومة.
وركزت التحليلات الإسرائيلية على ضغوط 3 دول أوروبية كبرى، أتبعتها بريطانيا بتحرك عملي مباشر، في رسالة واضحة مفادها: “كفى!”.
أما الولايات المتحدة، الحليف الأقرب، فاختارت الصمت، مع تسريبات تشير لتراجع الدعم التقليدي، وسط أنباء عن “إحباط” الرئيس الأميركي دونالد ترامب من أداء الحكومة الإسرائيلية.
ويعتقد مراسل الشؤون السياسية والدبلوماسية لصحيفة “يديعوت أحرونوت”، إيتمار آيخنر، أن الرأي العام في الغرب بات معاديا بشكل متزايد لإسرائيل، بسبب صور الدمار وسقوط المدنيين، وسط غياب خطة إسرائيلية لإنهاء الحرب أو إعادة إعمار غزة.
ولفت إلى أن تصريحات وزراء متطرفين مثل بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير زادت حدة الغضب الدولي، في ظل صمت أصوات إسرائيلية معتدلة؛ إذ يُتهم نتنياهو بإطالة أمد الحرب رغم مقترحات لوقف إطلاق النار، ويرى الغرب أن العمليات العسكرية تخدم أجندات داخلية أكثر من كونها تحقق أهدافا إستراتيجية واضحة.
وفي ظل هذه المعطيات، يضيف آيخنر “تجد إسرائيل نفسها محاصرة خارجيا ومهتزة داخليا، على شفا أزمة سياسية واقتصادية ودبلوماسية غير مسبوقة”.
ضغوط العرب والغرب
وأكد أن إسرائيل تواجه ضغوطا اقتصادية خطيرة، وقال إن “بريطانيا وحدها تمثل شريكا تجاريا رئيسيا”، والاتحاد الأوروبي يلوّح بإلغاء اتفاقيات بمليارات الدولارات، وفي الوقت نفسه، تدرس دوله خطوات مثل سحب السفراء وتعليق التعاون العلمي والثقافي.
وأشار إلى أن فرنسا تقود تحركا للاعتراف بدولة فلسطينية، بدعم من السعودية، وقد تنضم إليها بريطانيا ودول أوروبية أخرى، في حين ترفض إسرائيل المشاركة في أي مؤتمر يبحث هذا الحل، وتلوح بردود حادة، مثل إغلاق القنصلية الفرنسية في القدس.
وحيال ذلك، يقول آيخنر إن الولايات المتحدة، “الحليف الأهم”، تلتزم الصمت، ولم تصدر أي إدانة للضغوط الأوروبية، مما يثير الشكوك حول موقفها في حال طرحت مبادرة لإنهاء الحرب في مجلس الأمن.
ولا تقتصر الضغوط الدولية على إسرائيل من الدول الغربية، بل تمتد للعرب، وخاصة دول الخليج، التي تمارس ضغوطا على ترامب، لحثّه على التدخل وإنهاء الحرب على غزة.
وحسب محلل الشؤون الدبلوماسية في صحيفة “هآرتس”، حاييم ليفينسون، فإن دول الخليج تحاول دفع واشنطن لتقديم مبادرة لوقف القتال، في ظل رفض نتنياهو الجدي أي مناقشة لإنهاء الحرب، وتعاطيه مع قضية المحتجزين الإسرائيليين قي غزة كـ”مأساة خاصة” لا كأولوية وطنية. ويرى أن استمرار هذا النهج يجعل مفاوضات الدوحة محكومة بالفشل.
يقول ليفينسون في أوروبا بدؤوا يدركون بأن اللحظة الحالية قد تكون “الفرصة الأخيرة” لوقف ما يعتبره البعض تطهيرا عرقيا واسع النطاق في غزة، وسط غضب أوروبي متزايد من تصريحات وزراء إسرائيليين، مثل سموتريتش، الذي دعا إلى تدمير غزة وتهجير سكانها وتجويعهم.
وأشار إلى أن تحالفا بين كندا وبريطانيا وفرنسا يتشكل للضغط على إسرائيل وإنهاء الحرب، مستفيدين من قوتهم الاقتصادية رغم محدودية تأثيرهم السياسي مقارنة بواشنطن.
صمت وشرخ الداخل
في المقابل، يتابع الكاتب الإسرائيلي، “تواصل واشنطن التردد”، ففي حين يبدي مسؤولوها رغبة بإنهاء القتال، يفضل ترامب البقاء على الحياد، مما يعيق طموحاته السياسية، ومنها حلم نوبل للسلام.
ويختم ليفينسون “إسرائيل تبدو معزولة دوليا، باستثناء دعم محدود من رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان، في حين يترقب الجميع ما إذا كان ترامب سيتحرك أخيرا لإنهاء هذه الأزمة”.
وفي خضم “التسونامي الدبلوماسي” الذي تواجهه إسرائيل دوليا، تتفاقم أزماتها الداخلية ويتعمق الانقسام في المجتمع، في ظل استمرار الحرب وغياب اتفاق لتبادل الأسرى يضمن عودة الأسرى الإسرائيليين في غزة.
وكتب المحلل السياسي شالوم يروشالمي في صحيفة “زمان يسرائيل” أن تصريحات غولان، التي دعا فيها إلى “دولة عاقلة لا تقتل الأطفال كهواية”، ألحقت ضررا كبيرا بمعسكره، رغم صحة تحذيراته من العزلة المتزايدة لإسرائيل، ووصف الكلمات بأنها “فظيعة”، حتى لو حملت مضامين صائبة.
في المقابل، يقول يروشالمي، إن نتنياهو سارع لوصف تصريحات غولان بأنها “انحلال أخلاقي”، رغم أن كثيرين يرون أن الانحلال الحقيقي يكمن في سياسات حكومته وخطواتها الفاسدة، التي عمَّقت الأزمة ووسعت رقعة الحرب.
ويعتقد يروشالمي أن تصريحات غولان أحدثت شرخا جديدا داخل المعارضة، التي تعاني أصلا من الانقسام والتشتت، مما قد يحد من قدرتها على تشكيل حكومة في المستقبل.
ومع استمرار القتال دون أفق واضح، يتابع الكاتب الإسرائيلي “تتزايد المخاوف من تآكل الدعم الشعبي”، خاصة في ظل خطر يهدد حياة الجنود والمحتجزين، وحرب تبدو في نظر كثيرين بلا جدوى أخلاقية أو إستراتيجية.
تطورات وترتيبات
وفي سياق الائتلاف الحكومي، قدّر الكاتب الإسرائيلي آفي بار إيلي، في مقال نشرته صحيفة “ذى ماركر” أنه “مع تعيين بيني غانتس للقضاة، يبدو أن زعيم حزب “شاس”، أرييه درعي، بدأ بالفعل في تشكيل الائتلاف المقبل”، وأن التطورات الأخيرة في الساحة السياسية تشير لإعادة ترتيب القوى تمهيدا لما بعد الحرب.
ورغم أهمية الحرب على غزة، وقضية المحتجزين، وتفاقم الضغوط والعزلة الدولية، والانكماش الاقتصادي الناتج عن استمرار القتال، انشغل السياسيون -هذا الأسبوع- يقول بار إيلي “بمعركة السيطرة على المحاكم الحاخامية”، في مشهد كشف ملامح محتملة لكيفية تعيين قضاة المحكمة العليا مستقبلا.
ويرى أن تعيين 21 قاضيا في المحاكم الدينية اليهودية تحول إلى استعراض للقوة السياسية، خرج منه درعي وسموتريتش منتصرين، بينما خسر الليكود نقاطا، وسجلت شخصيات من المعارضة مكاسب يمكن أن توظف لاحقا في مفاوضات تشكيل حكومة جديدة.
وربما يكون هذا التصعيد، وفق قراءة بار إيلي، بمثابة الطلقة الافتتاحية لمفاوضات تشكيل الائتلاف الحكومي المقبل، ما بعد الحرب.