في ساعة متأخرة من مساء يوم 25 سبتمبر/أيلول 2022، خطبت جورجيا ميلوني أمام حشود مبتهجة في العاصمة الإيطالية روما لتعلن فوزها كأول امرأة تتولى رئاسة الوزراء في البلاد.
كانت الدموع تترقرق من عينيها، وترتعش ابتسامة على شفتيها وهي تقول إنها تهدي فوزها إلى “كل من رحلوا واستحقوا رؤية هذه اللحظة”. لم توضح ميلوني من تعني بالضبط، لكن هذا الإهداء المبهم فهمه الكثيرون على أنه إشارة إلى أبطالها من ساسة أقصى اليمين الإيطالي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
انتصار ميلوني، المرأة الرومانية ذات اللكنة المحلية الثقيلة، والأسلوب الشعبوي الفج، والتي كانت تبلغ من العمر 45 عامًا حينها؛ كان تتويجًا لرحلة مثيرة من هامش السياسة الإيطالية إلى قلب المتن فيها، لتتولى أعلى منصب في الجمهورية.
وبينما كان مؤيدوها يهتفون باسمها ويحتفلون بالفوز التاريخي وهم يلوحون بالعلم الإيطالي ثلاثي الألوان، كان المتابعون يراقبون صعودها بتوجس مع إدراكهم للحمولة الأيديولوجية التي تحملها في رأسها.
ميلوني جاءت في وقت كان الكثيرون في القارة العجوز يعتقدون أن تجربة حكمها لإيطاليا -التي لم تنته بعد- ستترك أثرًا عميقًا في قارتهم. يعتبرها البعض وجهًا ناعمًا ممهدًا للفاشية والاستبداد في أوروبا، بينما يعتبرها آخرون امرأة ناجحة على نحو استثنائي استطاعت أن تطور أيديولوجية أقصى اليمين، وأعطت للأفكار اليمينية بريقًا وتوجهًا جديدًا أكثر وسطية وبراغماتية.
كما ينظر إليها البعض بوصفها أحد أكثر الرموز الشعبوية الجديدة في العالم الغربي تأثيرًا، وأن تلك الرموز -وهي على رأسهم- تهدد الديمقراطية الغربية، في حين يراها البعض الآخر صانعة للاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي في بلدها، فضلًا عن أنها جسر التواصل المحتمل بين أوروبا والولايات المتحدة، في عالم تبدو روابطه القديمة معرضة لزلزال غير مسبوق.
لكن، كيف يمكننا فهم صعود جورجيا ميلوني؟ هل يكفي النظر في السياسة الإيطالية، أم علينا أن ننبش أكثر في شخصية ميلوني نفسها، وتاريخها، ورؤيتها للعالم، بحثًا عما يفسر نجاحها؟
الطفولة الصعبة
لفهم حكم ميلوني وصعودها، يجب أن نتتبع أصولها إلى حي غارباتيلا، حي العمّال البسيط في روما، حيث تشكلت شخصية السياسية لدى جورجيا. تتحدث ميلوني عن طفولتها بطريقة “ميلودرامية” تجعلها كشخصية في رواية “البؤساء” لفيكتور هوغو أو رواية “أوليفر تويست” لتشارلز ديكنز، فقد هجر والدها منزل العائلة عندما كانت رضيعة في عامها الأول، وأبحر بعيدًا إلى جزر الكناري ليتزوج مجددا، ولم يعد أبدًا.
بعد ذلك بوقت قصير، دُمر منزلها بعدما احترق جراء شمعة مشتعلة تركتها جورجيا مع شقيقتها الكبرى، آريانا. من دون منزل وأب، انتقلت آنا، والدة جورجيا، بالفتاتين إلى شقة متواضعة في حي غارباتيلا الذي يسكن فيه العديد من أصحاب الياقات الزرقاء. هناك عاشت جورجيا مع جدها وجدتها وأمها وأختها في المنزل الذي لم تتجاوز مساحته 45 مترًا، وهناك كانت تنام على سرير قابل للطي مع أختها في ممر المنزل.
أما والدتها آنا، فكانت تتنقل بين العديد من الوظائف، لدرجة أنها كتبت روايات رومانسية تحت أسماء مستعارة للحصول على المال اللازم للإنفاق على ابنتيها. تتذكر ميلوني قضاء الأمسيات على طاولة مطبخ جدتها، وهي الطاولة الوحيدة التي كانت بمثابة مكتب ومكان لتناول الطعام للعائلة. أصبحت هذه النشأة المتواضعة فيما بعد حجر الزاوية في شخصية ميلوني السياسية، التي تطلق على نفسها بفخر لقب “ابنة الشعب” (una figlia del popolo) التي تغلبت على المشقة بـ “الشجاعة والإيمان”.
لم تكن طفولة جورجيا سهلة لأسباب أخرى أيضًا، فقد كانت تعاني من زيادة الوزن أثناء طفولتها، كما أن لهجتها الثقيلة كانت تجذب سخرية الأطفال الآخرين. كتبت ميلوني في مذكراتها تقول إنها شعرت في هذه المرحلة أنها غريبة أو دخيلة على مجتمعها، ما جعلها تطور أدوات دفاعية ومزاجًا متحديًا للعالم، تعتبر أنه جعلها دائما في حاجة لإثبات نفسها، وأن يتقبلها المحيطون بها، خاصة الذكور، لا سيما بسبب نقص الحب والاهتمام الذي نتج عن غياب والدها.
ستُنسج هذه الندوب من الهجر، والتنمر، والمنزل المحطم، في مرحلة التكوين والنشأة، لاحقًا في قصة قائدة تقدم نفسها على أنها المستضعفة التي لا تقهر، والمقاتلة التي لا تتوانى. لكن ميلوني وجدت منفذًا للقتال في السياسة في سن مبكرة للغاية، ففي عام 1992، وبينما كانت في سن 15 من عمرها، وحينما كانت إيطاليا تمر بفترة من الاضطرابات بسبب الاغتيالات التي كانت تنفذها عصابات الجريمة المنظمة (المافيا) ضد المسؤولين ومنهم القضاة، قررت ميلوني الانضمام إلى الفرع المحلي للحركة الاجتماعية الإيطالية، والتي تمثل الفاشية الجديدة في البلاد.
كان خيار ميلوني باعثًا على الدهشة، فلم يكن من المعتاد على أحد قاطني حي غارباتيلا العمالي اليساري أن ينضم إلى حركة يمينية متطرفة. لكن جورجيا، اللامنتمية، التي كانت تبحث عن تنظيم وهوية وقضية تنضم إليها وتتقبلها كما هي! لقد تحدثت جورجيا نفسها عن ذلك حين فسّرت انضمام العديد إلى الحركة الاجتماعية الإيطالية بأنهم “جاؤوا من ظروف عائلية صعبة” وأنهم “كانوا يبحثون عن الانتماء إلى شيء ما”.
كانت الرفقة التي قدمتها لها الحركة كافية لجذب ميلوني وجعلها تدرك أنها اختارت الاختيار الصحيح بالانضمام إلى الحركة، فرغم قرار الحركة حل نفسها عام 1995 وتأسيس جبهة يمينية جديدة تحمل اسم “التحالف الوطني” منبتة الصلة عن الماضي الفاشي للحركة، استمرت ميلوني في الصعود السياسي خاصة كناشطة طلابية.
أختار الأم، أختار اليمين
ومع بلوغها سن 19، كانت ميلوني تقود الجناح الطلابي للتحالف الوطني، وتمثله في اتحادات الطلاب التي شكلتها وزارة التعليم الإيطالية، لتلفت انتباه قادة اليمين الإيطالي أكثر وأكثر.

في تلك الأيام، لم تتردد ميلوني في التعبير عن إعجابها بأشد حكام إيطاليا عنفًا في العصر الحديث، ففي مقابلة عام 1996، أشادت ميلوني، وهي متخرجة حديثًا من المدرسة الثانوية، بزعيم إيطاليا الفاشية بينيتو موسوليني أمام الكاميرا، قائلةً إنه “كان سياسيًا جيدًا، بل الأفضل في البلاد خلال الأعوام 50 الماضية”.
سيظل هذا المقطع يطاردها في سنواتها اللاحقة، حيث يروج له خصومها كدلي على نهايتها التي لم تأت أبدًا.
تتجذر صورة ميلوني في تجارب الطفولة والمراهقة تلك وغيرها، فهي دومًا تصور نفسها على أنها الفتاة القادمة من العدم، من حي يساري، لتقاتل المؤسسة المسيطرة المعادية لها. بالطبع، ليست هذه هي الصورة الكاملة لنشأة ميلوني، فأبوها فرانكو ميلوني جاء من عائلة من الطبقة الوسطى العليا، فجدُّها مخرج سينما وجدّتها ممثلة ومؤدية صوتية. كذلك عاشت أسرتها، قبل انفصال والديها، أو حتى احتراق منزلها، في منطقة كاميلوتشيا الراقية في شمال روما.
لكن هذه الحياة المرفهة اختفت بين عشية وضحاها بعد أن تخلى أبوها عن أسرته وذهب ليؤسس أخرى في جزر الكناري، ليكون لها 4 إخوة غير أشقاء. إذا صدقنا كل تفاصيل رواية ميلوني عن نفسها، فسيكون بإمكاننا تفسير توجهها السياسي باعتباره مجازًا عائليًا أيضًا، فقد كان والدها يساريًا، في حين كانت والدتها متدينة محافظة. وباختيارها اليمين المحافظ، تكون جورجيا قد اختارت رمزيًا الأم المضحية بنفسها والمخلصة لأسرتها، لا الأب الخائن.
إن قصة جورجيا بهذا المعنى تبدو روائية في تفاصيلها، بين الأب الضال الذي اعتُقل عام 1995 في إسبانيا بتهمة تهريب المخدرات وحُكم عليه بالسجن 9 سنوات، في نفس الوقت الذي كانت تبدأ فيه جورجيا مسيرتها السياسية، وبين الأم المحاصَرة بين التزاماتها ومحافظتها الدينية والسياسية، والابنة التي وجدت في اليمين القومي بديلًا عن الأسرة التي فقدتها صغيرة. ولقد انعكس هذا الأمر على مواقفها السياسية بوضوح، فميلوني مخلصة بشدة للمثل الأعلى للعائلة، وهو ما يبدو انعكاسًا مباشرًا لما واجهته في طفولتها.
ترفض ميلوني زواج الشواذ جنسيا، ولا تعترف إلا بشكل واحد للأسرة النووية يقوم على ذكر وأنثى، أب وأم، ولا ينفصل ذلك عن نشأتها في عائلة مفككة كما أشارت هي مرات عدة. ومع ذلك، تصر ميلوني على أنها قد حظيت بطفولة سعيدة مليئة بالحب، وهي تنسب الفضل في ذلك إلى تضحيات والدتها، لكنها تؤكد أيضًا أن المجتمع خارج دائرة أسرتها كان دوما ما يسيء فهمها.
لذلك، فإن حملة ميلوني الانتخابية حملت شعارًا يلخص كل أفكارها: “الله، الوطن، العائلة”. وفي هذا الشعار نرى عناوين معركتها ونضالها ضد هذا الشعور بالاغتراب الاجتماعي، في مهمة للدفاع عن الركائز التقليدية للدين والأسرة والمجتمع، والتي لا يدرك أحد قيمتها أكثر من ميلوني، التي فقدت تلك الركائز كلها منذ طفولتها.
الطريق الطويل إلى قصر كيجي
عرفت جورجيا ميلوني إيطاليا كبلد يجاهد لإعادة تعريف هويته السياسية بعد سنوات الحرب العالمية الثانية التي كان يلعب فيها دور الشرير. لذلك لم يتقبل الإيطاليون الحركة الاجتماعية الإيطالية التي لم تسع لقطع الصلة بالأيديولوجيا السياسية التي قادت موسوليني إلى التحالف مع هتلر، وبالتالي ظلت الحركة لعقود منبوذة تُمنع من المشاركة الانتخابية. لذلك، في عام 1995، عمد زعيم الحركة جيانفرانكو فيني إلى تحويل الحركة إلى حزب التحالف الوطني في إطار خطته لمحو الإرث الفاشي للحركة.
رأت ميلوني، التي كانت حينها في 18 من عمرها، في فيني معلمًا ومرشدًا، ورأى فيها نجمة صاعدة في اليمين الإيطالي، وهو ما تحقق بالفعل، ففي سن 29، انتُخبت ميلوني للبرلمان الإيطالي لتصبح أصغر أعضائه سنًا، ودفعها فيني دفعًا لتولي مسؤوليات أكبر فيه.
خلال عامين فقط، وفي عام 2008 أصبحت ميلوني أصغر وزيرة تنضم إلى حكومة إيطالية على الإطلاق، بعدما عيّنها سيلفيو برلسكوني وزيرة للشباب وهي بعدُ في سن 31، لتجد الناشطة اليمينية نفسها جالسة على طاولة مجلس الوزراء في واحدة من أهم بلدان الاتحاد الأوروبي.
في تلك السنوات، رسخت ميلوني صورتها كشخصية محافظة لكن عصرية ومتحررة من التطرف الذي عرفته الحركة اليمينية في الماضي. بل إن أصواتًا من اليسار أعربت عن تقدير كبير لتلك الشابة الشغوفة التي بدت كما لو كانت تمثل جيلًا جديدًا من الإيطاليين. لم تكن ميلوني اعتذارية أيضًا، فقد تحدثت أن علاقتها هادئة مع الفاشية، باعتبارها فصلًا عابرًا في تاريخ إيطاليا تجاوزته ميلوني كما تجاوزته البلاد. كذلك أدانت ميلوني فاشية موسوليني، وقمعه للديمقراطية ومعاداته لليهود، واعتبرت نفسها محافظة على غرار مارغريت تاتشر في بريطانيا، أو رونالد ريغان في الولايات المتحدة.
لبعض الوقت، بدت ميلوني محافظة هادئة بالفعل، لكن هذا الهدوء في طرح الأفكار لم يدم طويلًا. فمثل معظم حكومات إيطاليا، سقطت حكومة برلسكوني تلك سريعًا عام 2012، وتولت حكومة تكنوقراط المسؤولية برئاسة ماريو مونتي الذي فرض سياسة تقشفية عارضتها ميلوني. كذلك مع الوقت، لم تجد ميلوني في اليمين السائد من تتماهى معه، فقررت الانشقاق عن حزب برلسكوني الذي ضم معظم توجهات اليمين، لتؤسس حزبها الجديد “فراتيلي دي إيطاليا” أو “إخوان إيطاليا”.
كان اسم الحزب رمزيًا، يذكر بكلمات النشيد الوطني الإيطالي، وشعاره رمزي يستخدم الألوان الثلاثة للعلم الإيطالي، وعلى شكل شعلة تشبه كثيرًا الشعلة التي كانت على شعار الحركة الاجتماعية الإيطالية، وهي الشعلة الثلاثية التي ترمز إلى الشعلة الأبدية التي نراها على قبر الدكتاتور بينيتو موسوليني. عادت ميلوني إلى حيث بدأت، لتستعيد اللحظة الفاشية التي سعى أستاذها فيني إلى محوها.
كان تأسيس حزب “إخوان إيطاليا” بمثابة إعلانٍ عن عودة روح الحركة الاجتماعية الإيطالية، القومية، المحافظة اجتماعيًا، المتشككة في الاتحاد الأوروبي، والمغرقة بالحنين إلى الماضي، وأنها لم تختفِ، بل تنتظر اللحظة المواتية لعودتها. وبذلك، ألقت ميلوني بالمشروع المحافظ الأكثر اعتدالًا الذي سعى إليه التحالف الوطني لصالح النسخة القديمة للحركة الاجتماعية.
ومنذ عام 2013، أعادت ميلوني بناء تيار أقصى اليمين في إيطاليا بجهد مضنٍ ليصبح قوة انتخابية فاعلة. ففي الانتخابات المبكرة التي أجريت في فبراير/شباط 2013، بعد ثلاثة أشهر من تأسيس الحزب الجديد، حصل “إخوان إيطاليا” على 2% من الأصوات، لكن ميلوني استمرت وثابرت بلا كلل لتجتذب إلى حزبها مؤيدي برلسكوني وغيره من قادة اليمين الإيطالي الذين خيبوا الآمال.
لقد شكلت جورجيا ميلوني في حزبها أيديولوجية مزجت القومية الإيطالية والفخر بالوطن، مع المحافظة الاجتماعية المتجذرة في القيم الكاثوليكية، بالكثير من الحديث عن السيادة الوطنية، ما يعني مناهضة العولمة ومعارضة الاتحاد الأوروبي إذا ما كانت سياساته تفتئت على السياسة الإيطالية، كل ذلك مع تأكيدها على الهوية المسيحية اليهودية لأوروبا، في مقابل الإسلام. تجلى ذلك كله في ساحة سان جيوفاني بالعاصمة روما عام 2019 عندما صرخت ميلوني بكلمات انتشرت مثل النار في الهشيم: “أنا جورجيا، أنا امرأة، أنا أم، أنا مسيحية”.
كانت ميلوني تصرخ دفاعا عن الشكل الطبيعي للأسرة “ضد أولئك الذين سيطلقون علينا ألقاب أب رقم 1 و أب رقم 2، لا أب وأم”، كما قالت. ورغم أسلوبها الحاد ورسالتها المتحدية للتيار الثقافي السائد الذي جذب عليها السخرية، إلى حد أن منسقي أغاني “دي جي” استخدموا كلماتها في مقطوعات رقص ساخرة، فقد حققت انتشارًا غير متوقع، وتضخّمت شهرتها خارج المجال السياسي، ووصلت رسالتها إلى جماهير جديدة.
دكتاتورة إيطاليا أم زعيمتها المختارة؟
لطالما كانت توصف إيطاليا في التحليلات الاقتصادية أو السياسية بأنها أشبه بالمراهق الضال في القارة، فهي الدولة التي لم تستطع الاستفادة جيدًا من استثمار أموالها، وهي الدولة التي عانت كثيرا من غياب الاستقرار السياسي على نحو استثنائي.
لقد شهدت إيطاليا معدلًا استثنائيًا في تغير حكوماتها بمعدل حكومة كل 11 شهرًا منذ الحرب العالمية الثانية، إذ شهدت البلاد 68 حكومة، وهو أكثر من ضعف عدد الحكومات التي شهدتها ألمانيا وبريطانيا منذ الحرب، ومن ثم حين فازت ميلوني في الانتخابات لم يكن حتى أغلب المتفائلين بها يتوقعون أن تستمر حكومتها مستقرة لأكثر من عامين، كما هو الحال، إذ أصبحت الآن من بين الحكومات الخمس الأطول عمرًا في تاريخ الجمهورية الإيطالية، وهي التي لم تكمل 3 سنوات بعدُ في السلطة.
حين تولت ميلوني الحكم كان الشعب الإيطالي تاريخيًا يمتلك واحدا من أدنى معدلات الثقة بين شعب وأحزاب بلاده في قارة أوروبا، وكانت أغلب التوقعات تنصبّ على أن حكومتها ستلقى نفس مصير الحكومات التي تعاقبت في السنوات السابقة، ولكن يبدو أن القاعدة الشعبية الكبيرة التي اختارتها كانت ترى فيها المخلّصة التي ستخرج إيطاليا من دائرة عدم الاستقرار الأبدية.
وبعد فترة وجيزة للغاية من انتخابها وحزبها، أصدرت شركة “مورنينغ كونسلت” بيانات مؤشرها الشهير الخاص بتتبع شعبية القادة في بلادهم، وقد ظهرت ميلوني في المؤشر بوصفها أكثر قائد يتمتع بشعبية داخل بلده مقارنة ببقية الدول الأوروبية، إذ تمتعت بضعف الشعبية التي تمتع بها الرئيس الفرنسي ماكرون، والمستشار الألماني شولتس آنذاك، وأشاد 49% من الإيطاليين بها وفق المؤشر.
وبعد شهور على حكم ميلوني، تبين أنها في اتجاه تصاعدي، وأنها أبعد ما تكون عن المصير الذي انتظره لها منافسوها، إذ أشارت إحصاءات مركز “بيو” الأميركي للأبحاث في بداية صيف عام 2023 إلى أن 60% من الإيطاليين يحملون وجهة نظر جيدة حول أداء ميلوني، بل إن أداءها الذي وجد قبولًا عند قطاع من الشعب قد دفع وجهة نظر الشعب الإيطالي حول أحزاب اليمين لتصبح أكثر إيجابية مما سبق. فقبل تولي ميلوني، كانت استطلاعات الرأي توضح أن أقل من ثلث الإيطاليين يملكون آراءً جيدة حول الأحزاب اليمينية، وبعد مرور 7 أشهر على حكم ميلوني كانت تلك النسبة تقترب بسرعة من النصف.
ونفس هذا المعنى خلص إليه استطلاع رادار “إس دابليو جي” نهاية عام 2023، فقبيل وصولها إلى رئاسة الوزراء كان أغلبية الإيطاليين ينظرون إلى ميلوني باعتبارها يمينية متشددة، لكن مع نهاية 2023 تغيرت هذه الصورة بشكل جذري، ولم يعد يحتفظ بها سوى أقل من 15% من الإيطاليين، بل إن نسبة قريبة منهم وصفوها بأنها أقرب إلى يسار الوسط من اليمين.
وفي نهاية عام 2024، تلقت جورجيا ميلوني فوزًا كبيرًا جديدًا عزز من استقرار حكمها في البلاد، إذ فاز حزبها “إخوان إيطاليا” في الانتخابات الأوروبية حاصلًا على 28.8% من الأصوات، بينما لم يحصل الحزب الذي ينافسها “الحزب الديمقراطي” من يسار الوسط إلا على 24.1%. وقد جعلت ميلوني من هذه الانتخابات استفتاًء على حكمها، إذ دعت ناخبيها إلى كتابة اسمها على بطاقات الاقتراع، وقد عززت تلك الانتخابات من الشعور العام في إيطاليا بأن جورجيا باقية، وأن حكمها مستقر لفترة ربما تكون طويلة.
وبعيدًا عن الشعبية المباشرة وصعودها وهبوطها، هناك عامل شديد الأهمية لعب دورًا كبيرًا في استقرار حكومة ميلوني كل هذا الوقت، وجعلها تُرى بوصفها سيدة تكسر قاعدة الاستقرار الإيطالية، وهو قدرتها في أغلب الأحيان على إظهار سيادتها على اليمين الإيطالي.
فمنذ بداية حكمها لم تدخر ميلوني وقتًا كي تؤكد أنها زعيمة اليمين الوحيدة وأن حلفاءها لا يعدون كونهم حلفاء وأشقاء صغارا، وقد كان هذا واضحًا حين أظهرت “العين الحمراء” لحليفيها اليمينيين المخضرم سيلفيو برلسكوني الذي كان قد دفع بها إلى الصفوف السياسية الأمامية وهي لم تزل بعدُ شابة، وممثل أقصى اليمين ماتيو سالفيني، حين اختلفت معهما في التعامل تحديدًا مع الحرب الروسية الأوكرانية، ولم ترضخ لموقفهما السياسي، وبنت السياسة الإيطالية الخارجية في هذا الملف وفق تصورها هي.
كذلك استطاعت ميلوني أن تقضم من شعبية الرجلين لصالح شعبيتها، وتجعل أعدادا أكبر من ذوي الهوى اليميني يقتنعون بأنها الممثل الأفضل لليمين.
باختصار، يمكن القول إن ميلوني -في أغلب الأحيان حتى الآن- استطاعت أن تخضع القوى اليمينية الأصغر منها تحت جناحها، وتوقف طموحات “أشقائها الأصغر” في المكانة عند حدها، بحيث لا يحدث تمرد داخلي في الجناح اليميني يمكن أن يؤدي في نهاية المطاف إلى الإطاحة بها. كان هذا عاملًا حاسمًا في حفاظها على استقرار حكومتها.
على جانب آخر، استطاعت ميلوني أن تهدئ من روع مخالفيها، إذ لم تقم بإجراءات يبدو معها أن البلاد تتحول جذريًا إلى طريق يميني متطرف أو دكتاتوري أو فاشي. كما تجنبت استخدام اللغة العنصرية التي يتورط قادة اليمين الآخرون في استخدامها وعلى رأسهم ماتيو سالفيني، بل وصل الأمر إلى أن جماعة فاشية خططت لاغتيال ميلوني نهاية العام 2024، وقد قبضت سلطات إنفاذ القانون على 12 فردا منهم.
ولاحقًا، أجبرت ميلوني عددا من شباب حزبها على الاستقالة بعدما ظهروا في مقاطع فيديو سرية وهم يرددون شعارات فاشية وعنصرية، وقالت إن هذا السلوك لا يتوافق مع الخط السياسي لحزبها الذي انتهجته منذ سنوات. وبحسب صحيفة الغارديان البريطانية، فإن ميلوني تحيط نفسها بمستشارين أذكياء، ومحافظين في الوقت ذاته، لكنهم أقل تطرفًا بكثير من المحيطين بالساسة الشعبويين حول العالم، مثل هؤلاء الذين يحيطون بالرئيس الأميركي دونالد ترامب.
لكن في المقابل، تمرر ميلوني قوانين ذات صبغة دكتاتورية بحذر شديد، فقد وافقت حكومتها في أبريل/نيسان الماضي على مشروع أمني جديد يشدد العقوبات على من يرتكب الاعتداءات على قوات إنفاذ القانون، ويعزز حماية رجال الأمن الإيطالي بشكل عام، ويسهل عملية إخلاء المباني المأهولة بشكل غير قانوني (عادة ما تكون أماكن مهجورة احتلها الفقراء والمهاجرون ليعيشوا فيها وتقام بها عروض فنية).
ويعد هذا القانون مثيرًا للجدل والاحتجاج بشدة في إيطاليا، وهو بحسب تقرير سابق لمنظمة “هيومن رايتس ووتش” يمثل تهديدًا حقيقيًا لحقوق الناشطين والمهاجرين، إذ يفرض عقوبات السجن على المتظاهرين الذين يعرقلون المرور، والذين يشاركون في مظاهرات غير مرخصة، كما يجرّم المقاومة السلبية للأوامر والقواعد في السجون ومراكز احتجاز واستقبال المهاجرين.
عملت ميلوني بتأنٍ أيضًا على قمع حرية الصحافة، إذ تختفي بعض الأخبار من وسائل الإعلام السائدة ويستقيل صحفيون في إيطاليا فجأة، ويحتج الاتحاد الوطني للصحافة الإيطالية على ما يراه تراجعًا في حرية الصحافة داخل البلاد. وقد منع المسؤولون التابعون لميلوني في هيئة الإذاعة الإيطالية “راي” عرض مونولوغ مناهض للفاشية كان يذكر حزب ميلوني بأنه جماعة “ما بعد فاشية”، أعدته الصحفية سيرينا بورتوني، التي تعرضت لإجراءات تأديبية وأُلغي برنامجها.
وفي تقرير نشرته “فورين بوليسي” بعنوان “لماذا تحب جيورجا ميلوني أنطونيو غرامشي؟”، ذكرت المجلة الأميركية أن ميلوني تعلمت من المفكر الماركسي غرامشي، الذي يقع في الضفة المقابلة تمامًا لأفكارها، أهمية مسألة الهيمنة الثقافية والسيطرة على القمم التي تشكل ثقافة المجتمع. ونظرًا لأنها لا تمتلك إمبراطورية إعلامية ضخمة، فقد استعاضت عن ذلك بالتحكم التام في أجهزة الدولة الإعلامية التي باتت تنتقي فقط الأخبار التي تصبّ في مصلحتها وتتجاهل أي خبر ضدها.
وجدير بالذكر أن إيطاليا تراجعت 5 مراكز خلال عام واحد من عهد ميلوني في مؤشر حرية الصحافة العالمي، ودخلت بحسب المؤشر في نفس منطقة المجر المشهورة بمناخها المعادي لحرية الصحافة، كما أن الاتحاد الأوروبي للصحفيين أدان التراجع الإيطالي في حرية الإعلام.
وبحسب أستاذة السياسة الإيطالية بجامعة كولومبيا الأميركية، نادية أوربيناتي، فإن إيطاليا تشهد “تحولًا دكتاتوريًا خلف الابتسامة الأنثوية الرقيقة” لميلوني، فحزبها ينفذ -بحسبها- سياسة هيمنة شاملة على الدولة، خاصة فروع العدالة والأمن في أجهزة الدولة، وقد احتل الحزب المواقع الرئيسية في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، كما تُجرى تعديلات على القوانين بهدف عرقلة وتجريم عمل الصحفيين الاستقصائيين، فضلًا عن محاولات تغيير الدستور ليصبح انتخاب رئيس الوزراء بشكل مباشر.
الاقتصاد سر الصعود، وسر الهبوط!
خرجت إيطاليا من عام 2024 بأرقام جيدة للغاية تخص أداءها الاقتصادي، وهو الأمر الذي تفاخرت به جورجيا ميلوني، فالأرقام تؤكد أن الاقتصاد الإيطالي شهد نموا يساوي 5 أضعاف نمو الاقتصاد الألماني، وضعف نمو الاقتصاد الفرنسي، منذ عام 2019 إلى عام 2024، بحسب يورغ كرامر، كبير الاقتصاديين في بنك كومرز “البنك التجاري العالمي بفرانكفورت الألمانية”.
وفي العامين اللذين حكمت فيهما ميلوني، حقق الاقتصاد الإيطالي نموًا فاق معدلات النمو الحالية في منطقة اليورو كلها، كما توسعت البلاد في تصدير المنتجات التصنيعية الهامة، سواء المنتجات التكنولوجية أو السيارات، وانخفضت البطالة وزادت الاستثمارات الخارجية في إيطاليا على نحو ملحوظ.
لقد اتبعت ميلوني منذ توليها السلطة سياسة اقتصادية وسطية حذرة في الإنفاق، والتزمت بالميزانيات الصارمة، وقد جلب لها هذا الثناء من التيار السائد من الاقتصاديين في أوروبا، حتى هؤلاء الذين يعارضونها من حيث المبدأ، فلم يجدوا أن حكومتها اتبعت أي سياسات اقتصادية يمينية راديكالية، أو خطوات متهورة غير محسوبة، فبعد فترة قليلة من حكمها قال زعيم يسار الوسط الإيطالي السابق إنريكو ليتا، إن سياسة ميلوني الاقتصادية كانت مفاجأة وأفضل كثيرًا مما توقعه معارضوها.
وكذلك رأت منصة “دويتش فيله” الألمانية في تقييمها، أن ميلوني لم تتبع مسارًا اقتصاديًا متطرفًا، وإنما اتبعت سياسة اقتصادية مشابهة للغاية لسلفها ماريو دراغي، الاقتصادي الأكاديمي ذي العلاقات الوثيقة مع أوروبا.
سياسة ميلوني الحذرة اقتصاديًا، والنتائج الاقتصادية الإيجابية التي وصلت إليها بالأرقام مع انتهاء عام 2024، لعبت دورًا كبيرًا في دعم صورة ميلوني محليًا وعالميًا؛ بأنها امرأة تمثل نسخة جديدة عقلانية من اليمين. ولا شك أن تلك الأرقام كانت أحد أسرار القبول بها بشكل متزايد محليًا وأوروبيًا، بوصفها امرأة حديدية قادرة على جلب الاستقرار والرخاء لبلادها، في وقت تعاني منه كل الدول الأوروبية الكبيرة من غياب الاستقرار السياسي ومن التدهور الاقتصادي، وهذا مخالف جذريًا للصورة النمطية لإيطاليا على مدار العقود السابقة؛ بأنها الشقيق الفاشل في مقابل أشقائه الناجحين في أوروبا، وعلى رأسهم ألمانيا وفرنسا.
لكن في الواقع، لم تكن سياسة ميلوني الاقتصادية الحذرة هي وحدها من وفرت لإيطاليا هذا الأداء الاقتصادي الذي تفاخر به، فبحسب الخبير الاقتصادي يورغ كرامر، يعود الفضل في النمو الإيطالي مؤخرًا بالأساس إلى التدفقات المالية الضخمة التي دفع بها الاتحاد الأوروبي في اقتصاد البلاد بعد جائحة كورونا، إذ حصلت إيطاليا على النصيب الأكبر من الأموال الأوروبية المخصصة للتعافي من آثار ما بعد الوباء، ومن ثم فإن محرك هذا النجاح الاقتصادي الإيطالي هو في الأصل الديون والمنح الأوروبية، علما بأن الدين الإيطالي يتجاوز نسبة 140% من الناتج المحلي الإجمالي.
ومن ثم فإن هذا النمو كان مدفوعًا بالعوامل الخارجية أساسا، وسيظل جبل الديون يهدد في السنوات القادمة بإرجاع الوضع إلى ما كان عليه سابقًا. وتتوقع وكالة رويترز للأنباء أن الضعف الهيكلي الذي لطالما اتسم به الاقتصاد الإيطالي سيعاود الظهور مرة أخرى حين ينتهي الأثر الإيجابي للمنح الأوروبية، وأن إيطاليا ستعود قريبًا إلى موقعها المعتاد كواحدة من أسوأ دول اليورو من ناحية الأداء الاقتصادي، وربما يتضح الأمر أكثر بمقارنة أداء إيطاليا بأداء دولة أخرى جارة لها تحتل المركز الثاني من ناحية تلقي المنح والمساعدات الأوروبية بعد الجائحة وهي إسبانيا، التي استطاعت أن تحقق نموًا أعلى بنحو 4 أضعاف من نظيره الإيطالي، وفقا لرويترز.
وبحسب المؤسسة البحثية الأميركية بروكنغز، فإن الأرقام توضح أنه لولا التأثير الذي خلفته الأموال الضخمة التي دفع بها الاتحاد الأوروبي في الاقتصاد الإيطالي بعد الجائحة، لكان النمو الاقتصادي الإيطالي أقل بكثير من النمو الفرنسي والألماني، ولكان الناتج المحلي الإيطالي سيظل راكدًا بين عامي 2023 و2024.
المفارقة هي أنه رغم كون الاقتصاد بأرقامه الإجمالية التي تميل إلى الإيجابية في العام الماضي سرًا من أسرار استقرار صورة ميلوني الإيجابية في الداخل والخارج، فإنه أيضًا كان السر في تراجع شعبيتها داخليًا. وكما سبق ذكره فإن استطلاع شركة إيبسوس لصالح صحيفة “كوريري ديلا سيرا” وجد انخفاضًا في شعبية ميلوني بعد عامين في السلطة، وكان الانخفاض بالأساس في قطاع الطبقات الفقيرة.
وفق تقرير “ظروف المعيشة ودخل الأسرة” للمعهد الإيطالي للإحصاء، فإن ربع الإيطاليين فقراء، كما أن خطر الفقر والإقصاء الاجتماعي -بحسب التقرير نفسه- ارتفع في البلاد من 22.8% في عام 2023 إلى 23.1% في عام 2024. لقد كانت أولى الخطوات التي اتخذتها ميلوني منذ وصولها إلى السلطة هي استبدال الحد الأدنى للدخل بالنسبة للفقراء بحزمة مساعدات أخرى، وخفض الامتيازات الحكومية التي لطالما تمتع بها العاطلون وذوو الدخل المحدود في البلاد.
صحيح أن حكومة ميلوني نجحت في تحقيق أرقام إيجابية فيما يتعلق بخفض البطالة، لكن الأرقام التفصيلية تشير بوضوح إلى أن مزيدا من الإيطاليين باتوا يعملون بالفعل، لكن لساعات أطول وفي ظروف أسوأ وبأجور أقل. كما أن معدل البطالة -رغم انخفاضه في فترة حكم ميلوني- يزيد عن متوسط القارة بنسبة كبيرة، وفق معايير الاتحاد الأوروبي.
السياسة الخارجية موطن قوة ميلوني
لطالما اختار بعض الإيطاليين العيش في بلاد العرب وامتدت ذريتهم جيلًا بعد جيل. وحتى في ظل الحروب الصليبية كان التجار الإيطاليون يجوبون العالم الإسلامي بحثًا عن الفرص والتجارة، فعلى مستوى المجتمعات، حتى قبل المستوى السياسي، كانت هناك محطات وقصص أكثر من أن تحصى؛ تشابكت فيها الثقافتان العربية والإيطالية وأثرت كلتاهما في الأخرى.
وفي الوقت الحالي يعيش ملايين العرب والمسلمين داخل إيطاليا ويتأثرون بكل التغيرات السياسية والاجتماعية التي تشهدها، إذ يقدر عدد المسلمين في إيطاليا بحوالي 2.6 مليون، علمًا بأن 44% منهم يحملون الجنسية الإيطالية. ويمثل هذا الرقم نسبة 4.3% من سكان الدولة الأوروبية. وبالإضافة إلى ذلك، تلعب إيطاليا -بشكل مباشر أو غير مباشر- دورًا هامًا في العديد من الملفات السياسية والاقتصادية الدولية التي تمس المصالح العربية والإسلامية من خلال سياسات روما الخارجية.
تؤكد استطلاعات الرأي، بما فيها تلك التي بينت انخفاض شعبية ميلوني في العام الأخير، أن سياستها الخارجية لا تزال تحظى بتأييد كبير، وهي من أقوى أوراق شعبيتها، ويتفق الكثير من المحللين على أن ميلوني استطاعت أن ترسم لإيطاليا دورًا رياديًا خارجيًا لم تستطع البلاد أن تلعبه منذ عقود طويلة، كما استطاعت أن تبلور مكانة جديدة لروما، سواء على المستوى الأوروبي أو العالمي.
على صعيد الحلبة الأفريقية، قدمت ميلوني منذ عامها الأول في الحكم، خطابًا غير نمطي لم يستخدمه السياسيون اليمينيون الغربيون من قبل، إذ تحدثت كثيرًا عما اعتبرته الغطرسة الغربية، وأن الأوروبيين يَعِدون الأفارقة ولا يَفون بتعهداتهم ولا يعطونهم الاحترام اللائق. وقالت بوضوح إن الأوروبيين يهتمون بإعطاء الدروس للأفارقة بدلًا من مساعدتهم بجدية على حل مشاكلهم، وأكدت أن السياسة الجديدة التي تحاول أن تنتهجها إيطاليا في أفريقيا مختلفة عن سياسات باقي الدول الأوروبية، وأن عمادها أن لا يكون التعاون مع القارة السمراء مفترسا -بحسب تعبيرها- ولا إمبرياليًا.
جدير بالذكر أن ميلوني قبل توليها السلطة كانت تشتهر بخطاباتها ضد فرنسا، إذ كانت ترى أن السياسة الإمبريالية الفرنسية المستمرة في أفريقيا هي أصل المشاكل والضغائن بين القارتين، وقد عزفت ميلوني ببراعة على هذا الوتر في علاقاتها بأفريقيا، فحاولت أن تقدم نفسها باعتبارها البديل الأوروبي عن جارها الفرنسي الإمبريالي، كما استخدمت لغة جديدة مع الزعماء الأفارقة مبنية على التقدير بدلًا من النصائح الفوقية.
وقد كانت الجزائر محط أول زيارة لميلوني إلى دولة أفريقية، وهناك زارت “مقام الشهيد” الذي يمثل النصب التذكاري لحرب الاستقلال الجزائرية ضد فرنسا، كما وصفت الجزائر بأنها الشريك الاستراتيجي الأقرب إلى إيطاليا في شمال أفريقيا. وقد كانت هذه الزيارة شديدة الأهمية لميلوني لتعلن من خلالها لأفريقيا رؤيتها الجديدة للتعاون غير المفترس كما تسميه، فهي لم تزر فقط “مقام الشهيد”، وإنما زارت أيضًا حديقة “إنريكو ماتي” في الجزائر.
وإنريكو، هو المسيحي الديمقراطي الشهير، مؤسس شركة إيني الإيطالية، وهو الرمز الإيطالي التاريخي الذي يشار إليه باعتباره من أبرز أصدقاء ثورة التحرير الجزائرية، ومن المنادين باتفاقيات عادلة في ملف توزيع أرباح إنتاج الطاقة بشكل لا يفترس ثروات البلاد الضعيفة التي لا تمتلك مواقف تفاوضية.
وعلى ذكر إنريكو ماتي، فإن سياسة ميلوني التي أعلنتها بشأن التعامل مع أفريقيا تشكلت في مبادرة حملت اسم الرمز الإيطالي الشهير بعنوان “خطة ماتي”. وما تعلنه ميلوني في هذه الخطة هو أنها تسعى من ناحية لتحويل إيطاليا إلى مركز لتصدير الطاقة بين أوروبا وأفريقيا، ومن ناحية أخرى؛ لحل المشاكل الجذرية التي تؤدي من وجهة نظرها إلى الهجرة غير النظامية، وهي الفقر وغياب التنمية. ومن ثم فإن الهدف الثاني هو ضخ المنح والمساعدات التنموية لأفريقيا والتوصل إلى اتفاقات مع دول القارة لتعزيز سياسات مكافحة الهجرة غير النظامية من داخلها.
وقد استطاعت ميلوني في الواقع أن تجني مكاسب ملموسة في القارة السمراء منذ عامها الأول نتيجة هذا التوجه والخطاب الجديدين، فعلى سبيل المثال تم توقيع اتفاقيات اقتصادية هامة بين شركة إيني الإيطالية وشركة سوناطراك الجزائرية بعد زيارتها للجزائر، واستطاعت أن تعقد شراكة استراتيجية مع تونس، وتوسطت لعقد اتفاق بين الاتحاد الأوروبي وتونس عزز من مكانة ميلوني أوروبيًا، وكان هذا الاتفاق يقضي بإطلاق حزمة مساعدات لتونس في مقابل التعاون على مكافحة الهجرة غير النظامية.
وبحلول نهاية 2024، كانت إيطاليا قد أعلنت عن استثمارات بقيمة 5.5 مليارات يورو ومشاريع تجريبية في 9 دول أفريقية هي: مصر وتونس والمغرب والجزائر وإثيوبيا وكينيا والكونغو وموزمبيق وساحل العاج. وبحسب عدد من التقارير الصحفية فإن توجهات ميلوني تجد موضع تقدير في العواصم الأفريقية، إذ ترى نظم الحكم في تلك البلاد أن نهج ميلوني لا يفرض خططا جاهزة محددة على الشركاء، وأنها لا تتعامل معهم بفوقية. وأن ميلوني أضافت بُعدًا أوروبيًا على شراكتها مع أفريقيا، إذ أدخلت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين، في إجراءات خطتها.
وبعيدًا عن نشاطها الواضح داخل القارة الأفريقية، بذلت ميلوني جهودًا دبلوماسية كبيرة لتحسين العلاقات مع الإمارات العربية المتحدة، وعملت في الوقت نفسه على تعزيز تعاونها مع قطر.
وحتى فيما يتعلق بدعم دولة الاحتلال الإسرائيلي، لم تصل ميلوني درجة التطرف التي وصلها اليمينيون الغربيون في الدعم، فرغم تأكيدها على حق دولة الاحتلال في الدفاع عن نفسها، فإنها أيضًا أعربت عن تمسكها ومناصرتها القوية -بحسب “فورين بوليسي” الأميركية- بحل الدولتين، وطالبت بإنهاء الحرب في غزة، والتقت كذلك رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، وتعهدت بالمشاركة في جهود الإعمار بعد الحرب. ومن ثم لم تترك ميلوني انطباعًا قويًا بأنها شريكة في حرب إبادة الاحتلال على غزة، مثل ألمانيا على سبيل المثال.
أما على الصعيد الأوروبي فقد باتت ميلوني تلعب دورًا أكبر من الأدوار التي لعبتها إيطاليا في السنوات السابقة. وبحسب صحيفة “التايمز” البريطانية فإن العديد في أوروبا الآن ينظرون إلى ميلوني -المستقرة في بحر من التيه الأوروبي- بوصفها الملكة الجديدة المرتقبة للسياسة الأوروبية، بعد الحقبة التي لعبت فيها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل هذا الدور.
الصورة النمطية عن الزعيم اليميني تتمثل في كونه زعيما انعزاليا ينسحب من الاتفاقيات العابرة للقوميات، ومن ثم كان متوقعًا من جورجيا ميلوني أن تكون على الأقل أكثر انعزالية داخل الاتحاد الأوروبي في فترة حكمها، لكنّ ما حدث هو العكس تمامًا، فبدلا من اللهجة المعتادة من أقصى اليمين المتشككة في جدوى الاتحاد والساعية للتخلص من هياكله وعمله، قدمت ميلوني رؤية يمينية مختلفة تتمثل في أنها تسعى أن تقف إيطاليا قائدة ومرفوعة الرأس داخل الاتحاد، وأن تغيره من داخله لا أن تنسحب منه.
نظرت ميلوني فوجدت أن مشكلة اليمين الحقيقية مع الاتحاد هي أن الاشتراكيين والخضر سيطروا عليه طوال السنوات السابقة بحسبها، ومن ثم حددوا أولوياته وتوجهاته بشكل لا يرضي المحافظين، ووجدت أن تغيير ذلك يكون بسيطرة اليمين الأوروبي على الاتحاد بما يتضمن زعامتها له، ومن ثم تشكيل أولويات جديدة له، لا يكون فيها خصمًا بل أداة فاعلة، وإطارا كونفدراليا يدعم دولتها ويفيدها.
لاحظت صحيفة “التايمز” أن ميلوني نجحت بشكل كبير -خلال العامين الأولين من حكمها- في تشكيل صورة لها على نطاق واسع في القارة؛ باعتبارها زعيمتها، في ظل تخبط ألمانيا وفرنسا. وفي نهاية العام الماضي، بدا أن القادة الجدد في أوروبا أصبحوا لا يبدؤون مسيرتهم المهنية كقادة جدد؛ بزيارة العواصم الأوروبية الكبرى التقليدية (برلين وباريس وبروكسل)، وإنما بزيارة روما. كما باتت ميلوني موضع تقدير من خصومها في أوروبا حين حافظت على مبدئها القاضي بمساعدة أوكرانيا في حربها رغم الموقف المعارض لذلك من العديد من اليمينيين في إيطاليا وأوروبا.
ولاحظت الصحيفة أيضًا أن نجاح ميلوني في لعب هذا الدور القيادي في أوروبا يعود كذلك إلى استخدامها الذكي لقدراتها الشخصية في تكوين العلاقات، فقد اعتمدت طريقة دبلوماسية مبنية على تقوية العلاقات الشخصية، وهو ما جعل أغلب الزعماء يشيدون بشخصيتها.
وقد ذكر مسؤول بريطاني للصحيفة -وقد رأى ميلوني أثناء تأدية عملها الدبلوماسي مع الشخصيات الخارجية- أنها دائمًا مرحة تعرف كيف تلقي النكات ومتى تقول الإطراء، ولديها طريقة جذابة في الحديث بصوتها الأجش، وتعرف كيف تتواصل حتى مع من يختلفون معها تمامًا فتذيب الجليد بينهما، وتحترم عادات الآخرين بحسبه، وليس عجيبا إذًا أن يصفها دونالد ترامب الذي لا يمدح كثيرًا زعماء الدول الأخرى، بأن شخصيتها رائعة وقيادية.
وبحسب فابيو رامبيلي، وهو عضو في البرلمان الإيطالي ويعرف ميلوني منذ أن كانت مراهقة، فقد اكتسبت تلك الروح الشخصية التي تمكنها من إزالة العقبات الدبلوماسية من خلال العلاقات الودية، بسبب نشأتها في الطبقة العاملة بمنطقة غارباتيلا في العاصمة روما، وهذا ما جعلها تعرف كيف تتحدث بلباقة وبشكل ودي وغير رسمي، وبحس فكاهي ساخر وجريء، ومن ثم فهي -بعكس النخب التي نشأت في بيئات مغلقة- تعرف كيف تقول النكتة، وكيف تفاجئ الآخرين بتعليقات شديدة الجرأة.
في الواقع، طريقة ميلوني في كسر الرسميات والحديث الودي أفادتها كثيرا على الصعيد الداخلي، لا على الصعيد الدبلوماسي فقط، إذ استطاعت أن تظهر بشخصية ودودة أمام الشارع الإيطالي، فلم تستخدم وسائل التواصل الاجتماعي على النحو التقليدي المعتاد بنشر مقاطع لخطبها وأفكارها، وإنما استخدمتها بفاعلية أيضًا لتقدم زوايا مختلفة من حياتها وبانفتاح على حياتها الأسرية والمشاكل التي تواجهها بوصفها أما عاملة، هذا فضلًا عن كسر الصور النمطية عنها من خلال نشر صور لها مع أطفال أفارقة في أديس أبابا تحتضنهم بإشارات أمومية.
وبالعودة إلى الحديث عن علاقاتها الخارجية، ارتفعت بشدة في الوقت الحالي أهمية ميلوني الخارجية من وجهة النظر الأوروبية، إذ يُنظر إليها -على نطاق واسع- أنها الجسر الوحيد القائم بين أوروبا والولايات المتحدة في حقبة ترامب، إذ بحسب تعبير “فورين بوليسي” الأميركية، هي حاليا أقرب زعيم أوروبي إلى الرئيس دونالد ترامب، وكانت الزعيمة الوحيدة من الاتحاد الأوروبي التي دعيت إلى حفل تنصيب ترامب الذي يرى أنها اجتاحت أوروبا بذكائها وأنها زعيمتها الحالية.
جدير بالذكر هنا أن قوة إيطاليا الدولية المتمثلة في علاقتها القوية بالولايات المتحدة لا تثير فقط الآمال الأوروبية بأن تصبح روما جسر التفاوض مع واشنطن في حقبة ترامب المخيفة للكثيرين، وإنما تثير المخاوف أيضًا، إذ تخشى فرنسا -خصوصا- أن تقتنص ميلوني اتفاقًا منفردًا مع الولايات المتحدة بشأن الرسوم الجمركية وتترك أوروبا لشأنها في مواجهة رياح ترامب العاتية.
لهذه الأسباب، تحظى سياسة ميلوني الخارجية بتأييد كبير في إيطاليا تظهره استطلاعات الرأي، إذ ينظر العديد من الإيطاليين الآن إلى حقبة رئيسة وزرائهم من الناحية الخارجية فيجدون انقلابًا راديكاليًا قد حدث لهم، فبلدهم ذات القدرات المادية المتواضعة والنفوذ العسكري والسياسي المحدود مقارنة مع جيرانها الكبار، ها هي تتوسع في مكانتها العالمية وتتمدد دبلوماسيًا في المناطق التي تخفق فيها جارتهم فرنسا، وها هي رئيسة وزرائهم بات ينظر إليها باعتبارها زعيمة أوروبا، في وقت تتراجع فيه مكانة ألمانيا.
باختصار، ينظر العديد من الإيطاليين إلى بلدهم التي كانت تلعب دورًا تابعًا في السنوات السابقة فيجدونها قد تحولت فجأة إلى واحدة من أهم العواصم الصانعة للسياسة الأوروبية، وإلى بلد يخشى جيرانها الكبار أن قدراتها الدبلوماسية باتت تتجاوزهم، وقد تصل إلى حلول منفردة مع الولايات المتحدة وتتركهم وشأنهم.
فصل جديد لليمين الإيطالي
مع مضي السنوات الأولى من حكومة جورجيا ميلوني، تجد إيطاليا نفسها أمام مفترق طرق، إما أن تتجه إلى الفاشية لتعيد تشكيل الجمهورية الإيطالية، وإما أن تتبنى ما بعد الفاشية لتدمج اليمين المتطرف في التيار الرئيسي الإيطالي، لكن المؤكد أن ميلوني لن تكون مجرد شخصية عابرة في تاريخ السياسة الإيطالية.
فمن نواح عديدة، استطاعت ميلوني بالفعل إعادة تشكيل اليمين الإيطالي، إذ حققت ما استعصى على أساتذتها مثل جيانفرانكو فيني، حين جلبت الحركةَ اليمينية المتطرفة من الهامش إلى قمة السلطة السياسية من غير أن تقضي على الديمقراطية، ولا على اليمين. وتحت قيادتها، أضحى اليمين الإيطالي بهوية متماسكة، فهو تيار قومي، محافظ اجتماعيًا، وليبرالي بشكل واضح، خاصة في مناهضته للعولمة وتجلياتها في إيطاليا.
حوّلت ميلوني حزب “إخوان إيطاليا” إلى حزب محافظ جامع، يضمّ تحت مظلة واحدة فاشيين سابقين وكاثوليك شبه تقدميين. وبذلك، قد تُشكّل ميلوني ما يشبه النسخة الإيطالية من الحزب الديغولي في فرنسا، أو الديمقراطي المسيحي في ألمانيا، ولكنه حزب قد يهيمن على مشهد اليمين في إيطاليا لسنوات. وإذا تمكنت من التمسك بالسلطة عبر انتخابات ثانية وما بعدها، فقد تشهد إيطاليا إعادة توجيه مماثلة لما حدث في بريطانيا ما بعد تاتشر، أو فرنسا ما بعد ديغول، حيث أصبح اسم الحزبين الكبيرين مرادفًا للحكم المحافظ.
لا شك أن ميلوني تُطبّق سياسات ما بعد الفاشية، وإن كان ذلك بشكل غير مباشر، وتطبّع العالم معها، فبتمسكها بالسلطة وعدم انهيارها، وبقبولها من المجتمع الدولي، نجحت في غسل سمعة تيار أقصى اليمين بعض الشيء، إذ لم تعد رموز مثل الشعلة ثلاثية الألوان تُثير الكثير من الجدل، فقد اعتاد الناس رؤيتها بجانب العلم الإيطالي في المناسبات الرسمية.
لقد تحوّل الرأي العام وما يتقبله الساسة والمجتمع، فبينما كان مجرد التصور أن ورثة الحركة الاجتماعية الإيطالية قد يقودون البلاد قبل 10 سنوات فقط؛ يُثير القلق والاعتراض الشديدين، فإنه أصبح اليوم واقعًا، واضطرت قطاعات كبيرة في البلاد -وحتى المعارضة- إلى التكيف معه.
هذا “التطبيع مع الفاشية” سيطيل أمد تأثير ميلوني على السياسة الإيطالية والأوروبية، وحتى لو حكمت لولاية واحدة، ستكون قد برهنت على قدرة اليمين ما بعد الفاشي على الحكم، وعلى قدرته على فرض تغييرات جوهرية في السياسات قد تمتد طويلا بعد رحيله عن السلطة، إذ في الغالب لن تعود الأمور كما كانت عليه قبل تولي ميلوني السلطة، وسيضطر خلفاؤها في السياسة الإيطالية إلى الحذو حذوها في معالجة قضايا المهاجرين والهوية والوطنية، بدلا من التعامل مع هذه القضايا باعتبارها محصلة إجماع متخيل حول التصورات الليبرالية عن العالم والأخلاق.
حتى القضايا الشائكة التي يقدمها ليبراليو أوروبا والولايات المتحدة باعتبارها محسومة في العصر الحالي، حول الهويات الجنسية، وشكل الأسرة، ودور الدين في المجتمع، والحريات الفردية، كلها لم تعد محل إجماع بعدما أثبت صعود ميلوني ذلك. ولهذا فقد ترددت أصداء ما قالته في خطابها الأول أمام البرلمان الإيطالي حين تعهدت بأن “تشعل النيران من أجل إثبات أن 2 + 2 = 4، وأن أوراق الأشجار خضراء في فصل الصيف”، وهو الوعد الذي تبدو ميلوني صادقة فيه حتى قبل وقت طويل من نهاية فترة حكمها الأولى.