Close Menu
ناس مصر
  • الرئيسية
  • اخر اخبار
  • سياسة
  • اقتصاد
  • تكنولوجيا
  • رياضة
  • علوم وصحة
  • مقالات
  • منوعات

اشترك في الإشعارات

انضم الى قائمة الإشعارات البريدية ليصلك كل جديد مباشرة الى بريدك الإلكتروني

رائج الآن

تجمع القصيم الصحي يُطلق حملة ميدانية للكشف المبكر عن السكري واعتلال الدهون

«المنع من التسجيل» يقلق جماهير الفتح قبل الموسم الجديد

‫ استشهاد فلسطينية وإصابة آخرين في قصف للاحتلال وسط غزة

فيسبوك X (Twitter) الانستغرام
فيسبوك X (Twitter) الانستغرام
ناس مصر
النشرة البريدة
  • الرئيسية
  • اخر اخبار
  • سياسة
  • اقتصاد
  • تكنولوجيا
  • رياضة
  • علوم وصحة
  • مقالات
  • منوعات
ناس مصر
أنت الآن تتصفح:الرئيسية»سياسة»دعَم فلسطين وخذل سوريا ويريد قيادة بريطانيا.. معركة جيريمي كوربن الأخيرة
سياسة

دعَم فلسطين وخذل سوريا ويريد قيادة بريطانيا.. معركة جيريمي كوربن الأخيرة

فريق التحريرفريق التحريرالأحد 03 أغسطس 11:01 م00
شاركها فيسبوك تويتر واتساب بينتيريست لينكدإن Tumblr تيلقرام البريد الإلكتروني

في ظهر أحد أيام الربيع الماطرة شرق العاصمة البريطانية لندن، وصل جيريمي كوربن إلى مركز اجتماعي تابع لمسجد في المنطقة. كان بنطاله الرمادي مجعدًا بعد أن جاء إلى المكان يقود دراجته، وخوذته تتدلى من إحدى يديه. عندما رآه مراهق يمر في الشارع هتف بصوت عال “الحرية لفلسطين!”. رفع كوربن قبضته من غير تردد مبتسمًا في تأييد.

في الداخل، كانت الغرفة ضيقة وعلى جدرانها آيات قرآنية معلقة، ونشرات مجتمعية، وإعلانات عن التبرعات التي ينشط فيها المجتمع في هذه المنطقة، وكانت تفوح منها رائحة خفيفة من الهيل وبقايا مطهر يُباع في السوبر ماركت. ومع ذلك كانت الغرفة مكتظة بالعشرات من البريطانيين من خلفيات مختلفة طلابًا ومسنّين متقاعدين، امرأة محجبة من لجنة إدارة المسجد، وامرأة بيضاء ترتدي كوفية وتحتضن طفلًا نائمًا.

لم تكن هناك منصة، لكن ذلك لم يكن غريبًا على كوربن الذي سرعان ما وقف أمام كرسي قابل للطي كي يخاطب الحشد، وفي خلفيته صورة مؤطرة للمسجد الأقصى. لم يكن كوربن يجري لقاء انتخابيًّا تقليديًّا، فلم يكن هنا للترويج لنفسه، بل “للاستماع” كما قال. وفي بداية حديثه قال كوربن بنبرة هادئة: “تعلمون أني أجيء إليكم من غير دعم حزب، لكنني ما زلت هنا، لأن الظلم لم يتوقف عندما طردني حزب العمال، ولم أتوقف عن الجهر بسياساتي أيضًا!”.

كان كوربن والبريطانيون يتجهزون للانتخابات العامة لعام 2024، لكنه كان قد خسر دعم حزب العمال بقيادة كير ستارمر للترشح في دائرته التي يمثلها منذ أربعين سنة! لكن كوربن ترشح مستقلًّا على أية حال وفاز! في أنحاء لندن وبين مسلميها، رأى الناس كوربن باعتباره رجل دولة مخضرمًا، رغم أنه لم يكن أبدًا في موقع سلطة، مثّل كوربن بوصلة أخلاقية وتذكرة لما يجب أن يكون عليه السياسي.

في ذلك الوقت، كانت غزة تشغل العالم والناس بعد أن دخلت حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة شهرها السابع، ومعها الصمت الدولي والتواطؤ الغربي. نهض أحد الأئمة المسلمين مخاطبًا كوربن قائلًا: “لعلك السياسي الوحيد الذي يتحدث باسمنا الآن!”. نظر كوربن إلى الأسفل في تواضع حقيقي وعدل سترته البادية القِدم قائلًا “ليس المهم التحدث باسمكم، بل الوقوف إلى جانبكم!”.

كان كوربن يعي ما يقول، فالرجل قضى أكثر من أربعة عقود في حزب العمال، وانتُخب في البرلمان في ذروة صعود المحافظين مع مارغريت تاتشر عام 1983، شابًّا في منتصف الثلاثينيات، بصحبة شاب آخر هو توني بلير، الذي كان يؤدّي -خلال مسيرته- دور النقيض لكوربن.

لكن في الوقت الذي اختفى فيه توني بلير أو كاد، مع ارتباط اسمه بفضائح كبرى لم تبدأ مع حرب العراق، ولم تنته مع دعمه للأنظمة الاستبدادية التي قادت الثورات المضادة بعد الربيع العربي، يستمر كوربن بل ويعود بعد إخراجه من حزب العمال ليقدم شيئًا جديدا في السياسة البريطانية: حركة سياسية وُلدت من رحم السخط واليأس والحرب.

لعله من غير الواضح ما سيؤول إليه مصير هذه الحركة، سواء أصبحت جماعة ضغط أو محاولة غير مجدية أو حزبًا ثالثًا قابلًا للاستمرار في بريطانيا، لكن المؤكد أن جيريمي كوربن لم ينته بعد.

فبعد ست سنوات من قيادة حزب العمال، ثم أربع سنوات بعد خروجه من الحزب بسبب خلاف لم يتعلق بالسياسة الداخلية البريطانية، بقدر ما تعلق بالهوية الوطنية وما تعنيه، وبالخطوط الحمراء التي احتفظت بها إمبراطورية التاج البريطاني منذ بدايات عهد الاستعمار، يجهز كوربن لعودته. لا إلى الحزب الذي كان يقوده، بل إلى شيء أكثر أهمية بكثير، وربما أكثر فوضوية، إلى ساحة السياسة الشعبية، وبناء التنظيمات والحركات من الجذور، وإلى النضال ضد الإمبريالية الذي يعني نضاله ضد حكومته أكثر مما يعني أي شيء آخر.

في سن السادسة والسبعين، ومن دون اعتماده على أي منصب رسمي، اللهم إلا ذاكرة الناخبين الذين حولوه إلى أسطورة حية، يكثر كوربن من الحديث عن الإبادة في غزة، وعن الاعتداءات على اليمن، وعن فقراء لندن، ومشكلات السكن في بلاده. يعود كوربن بلا وعد سوى أن يعيد المبادئ إلى السياسة.

لكن لكي نفهم المرحلة التالية من مسيرة جيريمي كوربن، المتمرد الذي انتهى به المطاف خارج حزبه، فعلينا أن نعود إلى الوراء، لا إلى عام 2015 عندما قلب نجاحه حزب العمال رأسًا على عقب، ولا حتى إلى عام 2003، عندما قاد أحد أكبر المسيرات المليونية في تاريخ أوروبا مناهضًا للحرب على العراق، بل إلى كوربن وهو تلميذ المدرسة الثانوية الذي رفض الانضمام إلى فرقة المتطوعين في الجيش، وإليه وهو منظم نقابي يدخل إلى البرلمان مرتديًا شارة أعطتها إياه أمه للمطالبة بنزع السلاح النووي، وبرلماني مغمور مختلف عن كل الساسة في بريطانيا.

لم يكن كوربن طوال مسيرته سياسيًّا فحسب، بل كان اقتراحًا يمشي على قدمين لما يجب أن يكون عليه السياسي، سواء أصاب أم أخطأ، هذا المقال هو قصة هذا الاقتراح.

يكثر كوربن من الحديث عن الإبادة في غزة (رويترز)

سيرة ذاتية مختصرة وأسطورة سياسية ممتدة

وُلد جيريمي كوربن في مايو/أيار عام 1949 في بلدة تشيبنهام بمقاطعة ويلتشير بالقرب من مدينة باث القديمة إلى الغرب من لندن. ومع وصوله إلى سن الحادية عشرة، انضم إلى مدرسة ثانوية للمتفوقين، تُسمى مدرسة القواعد (Grammar School).

منذ وقت مبكر، أظهر كوربن اهتمامًا بالعمل العام، فانضم إلى رابطة المناهضين للرياضات المتوحشة، المعنية بحقوق الحيوانات في الرياضات المختلفة، وانضم كذلك إلى رابطة الشباب الاشتراكيين لحزب العمال. لكن لعل اهتمام كوربن بالسياسة والعمل العام أثر في أدائه الدراسي بشكل كبير، فترك المدرسة في سن الثامنة عشرة، بُعيد الوقت الذي انضم فيه إلى حملة نزع السلاح النووي عام 1966، وهو نفس الوقت الذي نشط فيه ضد حرب فيتنام.

وبعد أن ترك الدراسة، عمل كوربن في سن التاسعة عشرة مراسلًا لصحيفة محلية، قبل أن يقرر مغادرة بريطانيا ليتطوع في جامايكا مدرسًا للجغرافيا. وبين عامي 1969 و1970، زار كوربن الكثير من بلاد أميركا الجنوبية مثل البرازيل وتشيلي والأوروغواي، وهناك شارك في العديد من الفعاليات المناهضة لأنظمة الحكم العسكري في تلك البلاد.

في عام 1971 عاد كوربن إلى بريطانيا، وإلى شمال لندن تحديدًا، لينضم إلى نقابة الخياطين، وهو اتحاد عمالي يضم الحائكين والعمال المرتبطين بصناعات النسيج والملابس. في هذه الفترة، درس كوربن مدة وجيزة في معهد تقني في شمال لندن، لكنه انسحب بعد عام واحد من دون الحصول على شهادة. منذ ذلك الوقت، انخرط كوربن بكل قوته في اتحادات العمال، والنقابات المهنية، والمجالس المحلية، ليُنتخب قبل أن يُتم الخامسة والعشرين عضوًا في مجلس محلي، ثم يصبح رئيسًا لإحدى البلديات في عام 1978، حتى عام 1983 عندما دخل البرلمان لأول مرة.

ترشح كوربن للبرلمان أول مرة عام 1983، وهي الانتخابات التي شهدت أسوأ خسارة لحزب العمال في تاريخه في ظل الصعود الصاروخي لحزب المحافظين تحت قيادة مارغريت تاتشر، لكن رغم خسارة الحزب، فاز كوربن بمقعده ولم يرتض الناخبون في دائرته ممثلًا غيره منذ ذلك الحين.  فعلى مدى العقود الثلاثة التالية، بنى كوربن سمعته بوصفه عضوًا برلمانيًّا مبدئيًّا، لا يتولى مسؤوليات تنفيذية، ويصوت ضد كل الحكومات المحافظة، لكن الغريب أنه كذلك صوّت آلاف المرات ضد الرأي السائد في حزب العمال، ليقف داعمًا للعديد من القضايا التي تُعد على هامش السياسة البريطانية، بل وحتى تلك التي تعادي السياسة الرسمية البريطانية.

فخلافًا للحكومات البريطانية المتعاقبة، عُرف عن كوربن دعمه لنزع السلاح النووي، والمطالبة بإعادة تأميم السكك الحديدية، وأقام علاقات بقادة حزب شين فين الأيرلندي، الذي كان يُنظر إليه باعتباره الجناح السياسي للجيش الجمهوري الأيرلندي. كذلك وقف الرجل بثبات إلى جانب حركة مناهضة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، ولم يتوان عن دعم النضال الفلسطيني منذ وعى.

كتب كوربن بانتظام في صحيفة “مورنينغ ستار” الاشتراكية، وظل على علاقة وثيقة باليسار العمالي وبعض أهم رموزه التاريخيين. وشكّلت هذه الخلفية صورة له باعتباره مناضلًا مبدئيًّا خارج المؤسسة السياسية. وكما أشار أحد كتّاب سيرته، فإنه “لم يسعَ قط، ولم يُعرض عليه قط، أي منصب وزاري” خلال فترة حزب العمال الجديد، التي قادها زميله في البرلمان توني بلير (1997–2010). بل إن كوربن أصبح معارضًا دائمًا لحكومة بلير، يقدّم التعديلات البرلمانية، ويشارك في الاحتجاجات، ويتزعم التظاهرات المناهضة للحروب.

مع مرور السنوات، تشكّلت أسطورة كوربن بوصفه النائب الخارج عن المألوف: رجل يرفض السلطة لكنه ينال جوائز السلام (مثل جائزة غاندي الدولية للسلام وجائزة ماكبرايد للسلام). راكم الرجل مكانة شبه أسطورية في صفوف اليسار العمالي، إلى حد اعتباره “رجلًا من خارج الزمن، أو قادمًا من عالم ما قبل النيوليبرالية” كما وصفه أحد الكتاب في مقال منشور مؤخرًا.

مهدت هذه الأسطورة الطريق لصعوده المفاجئ في عام 2015. فبعد استقالة إد ميليباند من زعامة حزب العمال عقب هزيمة الحزب في الانتخابات ضد حزب المحافظين بقيادة ديفيد كاميرون، انتقل كوربن من مرشح هامشي لرئاسة الحزب إلى فائز كاسح بنسبة 60٪ من الأصوات، أي ثلاثة أضعاف أقرب منافسيه!

المفارقة أن عدد ناخبي حزب العمال تضاعف، من قرابة 200 ألف إلى أكثر من 550 ألفًا خلال شهري الانتخابات، ليصوت معظمهم لجيريمي كوربن، أما من بين أعضاء الحزب وقياداته البرلمانية، فلم يصوت من بينهم سوى 20 شخصًا فقط لكوربن، وهي الإشارة التي تؤكد تحيزات الرجل الذي حافظ على موقعه خارج مؤسسة السلطة في بريطانيا.

في هذه المرحلة سُمي فوزه بـ”كوربنمانيا” أو الهوس بكوربن، فقد استطاع تأسيس حركة شعبية جديدة شديدة الحيوية جذبت الشباب والعمال والناخبين الساخطين من الأداء الاقتصادي للمحافظين. على جانب آخر، استطاع كوربن اختراق الآلة الانتخابية لحزب العمال، وهي التي أدارها مؤيدو توني بلير وسياساته من خلال تنظيمه تجمعات جماهيرية ضخمة في كل أنحاء بريطانيا. كانت القاعات تمتلئ إلى حد أنه اضطر في بعض الأحيان إلى إعادة خطاباته على الأرصفة للجموع العالقة التي لم تستطع الوصول إلى قاعات المؤتمرات.

بين ليلة وضحاها، انتقل كوربن من المقاعد الخلفية في البرلمان إلى زعامة المعارضة، وحتى مع خسارة حزب العمال للانتخابات العامة عام 2019، التي اضطر بعدها كوربن إلى الاستقالة من قيادة الحزب، تركت قيادته أثرًا لا يُمحى: فقد ضاعف عدد أعضاء الحزب، وحوّل دفة برنامج الحزب السياسي نحو اليسار من خلال مشاريع تأميم المرافق، وزيادة الضرائب على الشركات الكبرى، وتوسيع برامج الرفاه، وأطلق جيشًا جديدًا من المتطوعين النشطاء الذين كان لهم أبلغ الأثر في الحراك الداعم لفلسطين من بين العديد من القضايا الأخرى.

خرج كوربن من حزب العمال، لكنه حافظ على إرثه في حزب العمال، واستطاع أن يحفر شعاره “من أجل الكثيرين لا القلة” في الذاكرة الجمعية البريطانية. أما بالنسبة لأنصاره من اليسار، فيظل كوربن شخصية شبه أسطورية تمثل الصدق والنقاء الأخلاقي، داعية سلام، لم يقبل مال الشركات، ولم يخن وعوده التي قطعها للناس.

نقول هذا لنؤكد أن كوربن، كما وصفته إحدى افتتاحيات صحيفة “مورنينغ ستار” لا يزال “يعبر عن آراء ملايين الناس العاديين الذين حُرموا من التمثيل” في ظل التواطؤ، أو “التوافق” كما تسميه الصحيفة “الخانق بين النخبة السياسية” على ما ينبغي أن تكون عليه الأمور. بل إن هزائم كوربن أصبحت جزءًا من أسطورته: فمع طرده من حزب العمال في 2024، أُعيد انتخابه نائبًا مستقلًّا بأغلبية ساحقة.

يساري من شأنه أن يجعل ماركس فخورًا!

يعرف كوربن نفسه على أنه اشتراكي، ويتحدث كثيرًا عن إعادة توزيع الثروة، وقوة النقابات، ويعتبر الخدمات العامة الشاملة حقوقًا ثابتة لا تُنتقص. ففي عام 2018، وبينما كان قائدًا لحزب العمال، قال أمام البرلمان في ويستمنستر إن العالم دخل في “عصر فيكتوري جديد” من اللامساواة، مطالبًا بتغيير جذري من أجل الأغلبية، لا من أجل الرضوخ لتطرف السوق.

تشكل الأممية والنضال الجماعي محورًا مركزيًّا في رؤيته. إذ طالما حاجّ كوربن بأن السياسة الخارجية البريطانية يجب أن تستند إلى القانون الدولي وحقوق الإنسان، لا إلى استعراض القوة مثلما كان عليه الحال دومًا. هذا الموقف تجلى بوضوح في تصريحاته التي عكست وعيًا بالواقع، ورفضًا للسياسات القائمة مثلما قال حينها إن “الحركة المناهضة لهذه الحرب قدمت رؤية وإستراتيجية أوضح من السياسيين الذين قادونا إليها”.

وقد حمّل كوربن الإمبريالية التوسعية الغربية مسؤولية مآسي القرن العشرين، خاصة في الشرق الأوسط وأفريقيا مشيرًا إلى دور بريطانيا في انقلاب إيران عام 1953، الذي زرع بذور العداء للغرب وهو ما أفضى إلى الثورة الإسلامية في النهاية. ويستند كوربن في رؤيته لسياسة خارجية مبنية على مبادئ مناهضة للإمبريالية إلى هذا التصور عن مسؤولية الغرب.

محليًّا، يلتزم كوربن بأسلوب أخلاقي صارم، مما يجعله ينادي بحقوق متساوية للجميع، وإن كان يعلي صوته دومًا للدفاع عن المظلومين سياسيا أو المسحوقين اقتصاديًّا.

يناهض كوربن بشدة سياسات التقشف الحكومية المتكررة، وقد شجب إجراءات خفض الدعم الحكومي، مثل وصفه لقصر الإعانة الحكومية للأسر على الطفل الثاني، الذي فرضته حكومة المحافظين بأنه ينتمي للأخلاقيات الظالمة التي صدرتها الإمبراطورية البريطانية في القرن التاسع عشر، وتعهد بإعادة إعانات التدفئة الشتوية للمسنّين، وإلغاء رسوم التعليم الجامعي، وضمان أجور مناسبة للجميع.

داخليًّا أيضًا يصر كوربن على دعم حقوق المهاجرين واللاجئين، وموقفه ثابت في ذلك سواء كانت الحكومة محافظة أو عمالية. فخلال شهر يوليو/تموز الجاري، عبر كوربن عن رفضه لقوانين الهجرة الجديدة التي تعمل على إقرارها حكومة كير ستارمر، حيث وجه رسالة لقادة البلاد من حزب العمال مستنكرًا جحدهم لإنجازات المهاجرين التي أسهمت في بناء المجتمع البريطاني في مجالات التعليم والصحة والنقل وغيرها.

وقد صوّر كوربن نفسه كمتمرد دائم، لأنه –حسب قوله– ثابت في مواقفه على الدوام، ففضلًا عن قضايا الهجرة واللاجئين، دعم كوربن كل مطالب اتحادات العمال والنقابات المهنية في قضايا العمل، وعارض الخصخصة دائمًا، ووقف إلى جانب الفقراء ضد سياسات التقشف بلا استثناء. وبحلول العقد الثاني من الألفية، تطور خطابه من السياسة إلى ما بعد السياسة، أو بعبارة أخرى إلى رؤية أكثر أخلاقية ووضوحًا للعالم؛ ففي المظاهرات المناهضة للحروب من العراق إلى اليمن، لم يكن كوربن يهاجم الظلم والعنف فحسب، بل كان يستهدف بانتقاداته المنظومة العالمية التي تنتج هذا الظلم.

فمثلًا، في خطاب له عام 2013، مع صعود موجة الثورات المضادة، حذّر كوربن من أن حق بريطانيا في الاعتراض على انتهاكات حقوق الإنسان لدوافع أخلاقية “يتلاشى حين نكون قد بعنا الأسلحة لمن يقتلون المتظاهرين”. وبعد كل تدخل غربي في العالم، كان يسلّط الضوء على التكلفة الإنسانية التي يتجاهلها الساسة عادة.

لذلك، فإن أيديولوجية كوربن اليوم تدمج اشتراكية حزب العمال البريطاني على نهجه القديم في السبعينيات، قبل أن تلوثه مغامرات توني بلير وتحالفاته، من التركيز على توفير فرص العمل، ودعم حق المواطنين في السكن، ومسؤولية الدولة عن نظام تأمين صحي شامل، تدمج ذلك مع أممية مناهضة للحرب. ففي الوقت الذي يجاهد فيه لتحسين الأوضاع المعيشية للبريطانيين، يطالب باستمرار بأن تتماشى سياسات بريطانيا مع العدالة باعتبارها قيمة عالمية، سواء في فلسطين أو في اليمن أو العراق. وهي أيديولوجية من شأنها أن تجعل منظري اليسار الأوائل فخورين بما أنتجته ماكينتهم الفكرية في شخص كوربن.

وإذا كان أنصار كوربن يرونه مبدئيًّا وأخلاقيًّا، فإن غيرهم يتهمه بالسذاجة أو حتى بالتطرف ودعم الإرهاب. فبالنسبة لمنتقديه، تبدو مواقف كوربن الخارجية، خاصة اتجاه العالم العربي والإسلامي، سببًا كافيًا لوصمه بالتطرف ومعاداة السامية.

سياسة خارجية مختلفة، وثمن سياسي باهظ

بالنسبة لسياسي بريطاني، بل ربما بالنسبة لمعظم السياسيين في العالم، تبدو مواقف جيريمي كوربن الخارجية، وخصوصًا اتجاه الشرق الأوسط، أكثر أخلاقية مما قد يتصوره المراقب العادي. فقد صاغ كوربن مواقفه ضمن إطار عام من معارضة التدخلات الأجنبية ودعم حق الشعوب في تقرير مصيرها. ففي مناظرة برلمانية عام 2022 حول إيران، ذكّر زملاءه النواب بأن بريطانيا شاركت في الإطاحة بحكومة الدكتور محمد مصدق في إيران في خمسينيات القرن الماضي، واصفًا هذا التاريخ بأنه “حيّ للغاية في ذاكرة الشعب الإيراني”.

حينها دافع كوربن عن الانخراط مع طهران ضمن إطار الاتفاق النووي لعام 2015، مشددًا على أنه “اتفاق دولي” منتقدًا الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في فترته الأولى لتراجعه عن الاتفاق. وأكد أن المفاوضات يجب أن تترافق مع تخفيف العقوبات وفتح حوار حول حقوق الإنسان. كما حذّر من أن انهيار الاتفاق قد سيؤدي إلى سباق تسلح إقليمي، مشيرًا إلى أن إسرائيل تمتلك أسلحة نووية بالفعل.

تقوم رؤية كوربن على عالمٍ خالٍ من الأسلحة النووية ومن الحروب التي تُفرض من الخارج. وبشأن إيران تحديدًا، شدد مرارًا على أهمية الدبلوماسية. ففي خطاب له في مجلس العموم قال: “يجب أن تكون إيران جادة بشأن المفاوضات، ويجب أن نكون نحن أيضًا جادين… ترامب هو من قال إنه اتفاق ثنائي وعلى الولايات المتحدة الانسحاب منه”، مؤكدًا أن الاتفاق مع إيران كان شاملًا للاتحاد الأوروبي لا الولايات المتحدة فقط. وحذر كوربن من الصراع مع إيران متسائلًا: “ما البديل؟”. كما ذكّر البرلمان بأن بريطانيا نفسها ليست بريئة، حيث أعلنت مؤخرًا زيادة ترسانتها النووية.

أما فلسطين، فيُعد موقف جيريمي كوربن منها حجر الزاوية في هويته السياسية، القائمة على مناهضة الإمبريالية، واحترام القانون الدولي، والدفاع عن حقوق الإنسان. فعلى مدار عقود، برز كوربن ضمن أكثر السياسيين البريطانيين دعمًا وثباتًا في تأييده لحق الفلسطينيين في تقرير المصير، وهو موقف كثيرًا ما وضعه في مواجهة مع التيار السائد في السياسة والإعلام في بريطانيا والولايات المتحدة التي ما فتئت منصاتها الإعلامية تنتقده.

يمتد انخراط كوربن في دعم القضية الفلسطينية إلى بداية حياته السياسية. فقد كان عضوًا –إن لم يكن في الغالب رئيسًا– في “حملة التضامن مع فلسطين” (Palestine Solidarity Campaign) منذ ثمانينيات القرن الماضي، وشارك بانتظام في المظاهرات والنقاشات البرلمانية والمنتديات العامة للدفاع عن فلسطين. كما زار الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك قطاع غزة، والتقى بعدد من ممثلي المجتمع المدني والسياسيين الفلسطينيين.

يعتز كوربن بذلك التاريخ، ففي خطاب ألقاه عام 2011 في وستمنستر، قال كوربن: “لقد ناضلت من أجل الشعب الفلسطيني طوال حياتي. إن نضالهم من أجل الكرامة والاعتراف والعدالة هو القضية الأخلاقية في زماننا”.

وقد صدق في ذلك، فقد دعم كوربن كل المقترحات البرلمانية التي تطالب بالاعتراف بدولة فلسطين، ووقف مبيعات الأسلحة البريطانية لإسرائيل، وتحقيق العدالة في جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل.

 

كذلك استخدم كوربن موقعه في البرلمان لتسليط الضوء على تواطؤ بريطانيا مع الاحتلال الإسرائيلي، من خلال مبيعات السلاح والدعم السياسي غير المشروط. وكان من أبرز المطالبين بفرض حظر على تصدير الأسلحة إلى إسرائيل، لا سيما خلال الحروب الإسرائيلية على غزة في أعوام 2008 و2009 و2014. وفي نقاش برلماني عام 2014 قال إنه لا يمكن لبريطانيا أن تستمر في بيع الأسلحة لدولة تستخدمها في ارتكاب جرائم حرب، واصفًا ما يجري في غزة بأنه “ليس حربًا، بل مجزرة”.

وكان لكوربن دور محوري في دفع حزب العمال –خلال قيادته بين 2015 و2020– إلى تبني مواقف أكثر جرأة اتجاه القضية الفلسطينية، حيث أدرج الحزب في برنامجه الانتخابي لعام 2019 تعهدًا بـ”الاعتراف الفوري بدولة فلسطين” و”تعليق مبيعات الأسلحة لإسرائيل”.

أما أثناء حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، فانتقد موقف حزب العمال المتردد، وأجبر الحزب على التصويت لصالح وقف إطلاق النار. ففي مارس/آذار 2024، وصف حرب غزة بأنها “عار عالمي”، وأصر على ضرورة التوصل إلى وقف دائم وكامل لإطلاق النار. وبعد ذلك بشهر واحد، عندما شنت إسرائيل هجومًا على إيران في أبريل/نيسان 2024، حذّر كوربن من اندلاع حرب إقليمية، وكتب آنذاك: “بينما تحترق مدن غزة ورفح، ويتضور الأطفال جوعًا، يجب على القادة الغربيين تمهيد طريق للتهدئة، لا الاستمرار في مبيعات السلاح التي تصنّف الناس إلى أبرياء وأضرار جانبية”.

وبسبب موقفه من جرائم الحرب الإسرائيلية ودفاعه عن حقوق الفلسطينيين، فقد تعرض كوربن لهجمات امتدت لسنوات، وكان أحد أكثر الفصول تعبيرًا عن سياسات جيريمي كوربن، وعن سطوة اللوبي الإسرائيلي في بريطانيا، ما حدث من اتهامه بمعاداة السامية.

ففي عام 2018، تبنّى حزب العمال تحت قيادة كوربن التعريف الأساسي لمعاداة السامية كما أقره التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست (IHRA)، لكنه اعترض على الأمثلة التوضيحية التي يذكرها التعريف، خاصة تلك التي تعتبر وصف إسرائيل بأنها “دولة عنصرية” أو مقارنة سياساتها بسياسات ألمانيا النازية شكلًا من أشكال معاداة السامية!

حينها قال كوربن وحلفاؤه إنهم يرفضون معاداة السامية بجميع أشكالها، لكن صياغة التعريف تُستخدم “لإسكات حرية التعبير حول فلسطين، وتُقيد الانتقاد المشروع لسياسات الدولة الإسرائيلية” لا سيما فيما يتعلق بالاحتلال ومعاملة الفلسطينيين. وقد عبر عن ذلك بقوله “لا يمكننا تبنّي تعريف يُغلق باب النقد المشروع لسياسات إسرائيل، أو يمنع الناس من الدفاع عن حقوق الفلسطينيين”.

وقد أيد هذا الموقف عدد من الأكاديميين القانونيين ونشطاء حقوق الإنسان، ومنظمات يهودية. كما عبّر أكاديميون بارزون مثل البروفيسور نورمان فينكلشتاين عن تحفظات مشابهة.

في المقابل، شنّت الصحافة البريطانية -خاصة الصحف الصفراء والمؤيدة لحزب المحافظين- حملات تشويه شبه يومية على كوربن، ووجهت له اتهامات مباشرة بالتعاطف مع معادي السامية أو بمعاداة السامية، ووصفت حزب العمال بأنه أصبح “مؤسسة معادية للسامية” في ظل قيادته. وخلال هذه الحملات، أعادت الصحافة الترويج لاقتباسات كان كوربن قد قالها عام 2009 وصف فيها حركة حماس وحزب الله بأنهما “صديقان”، داعيا إلى الحوار معهما لا شيطنتهما، رغم تراجع كوربن عن هذا الوصف عام 2016، قائلًا إنه كان وصفًا دبلوماسيًا.

وقد فاقم من ذلك بثّ هيئة الإذاعة البريطانية في عام 2019 لوثائقي بعنوان “هل حزب العمال معادٍ للسامية؟”، مما زاد من التوترات وأدى إلى استقالات في صفوف موظفي الحزب.

وفي أغسطس/آب 2018، وتحت ضغط داخلي كبير، أوصى كوربن بتبنّي التعريف الكامل لمعاداة السامية وفقًا لـ”IHRA” مع ملحق يحمي الحق في انتقاد سياسة الحكومة الإسرائيلية. وقد صوّتت اللجنة التنفيذية الوطنية للحزب لصالح القرار، لكن الضرر الذي لحق بكوربن كان كبيرًا بالفعل، وطارده لوقت طويل لاحق.

فبعد تنحيه عن زعامة الحزب عام 2020 عقب هزيمة الانتخابات، استمر مؤيدو إسرائيل في بريطانيا في استعادة الجدل حول تعريف معاداة السامية لملاحقة كوربن. ففي أكتوبر/تشرين الأول 2020، وبعد صدور تقرير هيئة المساواة وحقوق الإنسان (EHRC) بشأن معاداة السامية في حزب العمال، أصدر كوربن بيانًا قال فيه إن المشكلة تم تضخيمها “لأسباب سياسية” لا حقيقية.

أدى هذا التصريح إلى تعليق عضويته في الحزب. ورغم أنه أُعيد لاحقًا عضوًا، فإن زعيم الحزب الجديد كير ستارمر رفض إعادة منحه حق تمثيل الحزب في البرلمان، مبررًا ذلك بضرورة “استعادة الثقة مع الجالية اليهودية”.

ترك هذا الاستهداف أثرًا عميقًا في اليسار البريطاني، فقد مزّق التحالفات، وأسهم في تهميش الأصوات المؤيدة لفلسطين داخل حزب العمال. ومع ذلك، لا يزال كوربن بالنسبة لكثيرين رمزًا للشجاعة السياسية، لأنه دفع ثمنًا باهظًا وتمسّك بقيمه حتى النهاية.

لكن مواقف كوربن الخارجية لم تكن دومًا على هذه الدرجة من الوضوح الأخلاقي.

مواقف كوربن الخارجية لم تكن دومًا على تفس الدرجة من الوضوح الأخلاقي (الأوروبية)

المسألة السورية.. اهتزاز البوصلة

إذا كانت سياسة جيريمي كوربن الخارجية اتّسمت دومًا بالوضوح الأخلاقي، سواء في فلسطين، أو اليمن، أو جنوب أفريقيا في عهد الفصل العنصري، فإن سوريا كانت النقطة التي بدأت فيها هذه البوصلة الاهتزاز.

حين اندلعت الثورة السورية عام 2011، كان ردّ الكثيرين من اليسار البريطاني بطيئًا ومرتبكًا. فقد بدأت الانتفاضة كحراك ديمقراطي قاده المدنيون ضد نظام بشار الأسد، لكنها تحوّلت مع وحشية نظام الأسد خلال شهور إلى حرب متعددة الأطراف. فقد كان الأسد يحارب شعبه، تدعمه روسيا وإيران، وتقاتل المعارضة الأسد، وتدخلت الولايات المتحدة ضد تنظيم الدولة الإسلامية، وتدخلت تركيا ضد الأكراد المرتبطين بحزب العمال الكردستاني، وأصبحت روسيا تسيطر على السماء. بالنسبة لمناهضي الإمبريالية مثل كوربن، الذين قضوا عقودًا يعارضون التدخلات العسكرية الغربية في الشرق الأوسط، شكّلت الأزمة السورية سؤالًا محرجًا: ماذا نفعل عندما يكون الطاغية خصمًا لبريطانيا، لا حليفًا لها مثل إسرائيل؟

حافظ كوربن على غموض محسوب. فقد أدان قمع نظام الأسد، ولكن بلغة حذرة ومقتضبة. فعندما سقطت حلب بيد الأسد والقوات الروسية عام 2016، قال: “لا مبرر لقصف المدنيين”، لكنه أضاف فورًا: “ومع ذلك، فإن تصعيد التدخل البريطاني لن يجلب السلام”.

وفي مناقشات مجلس العموم، كثيرًا ما كان يحوّل النقاش من جرائم نظام الأسد إلى التحذير من “عراق آخر”، مشددًا على رفض تغيير النظام، أو الضربات الجوية، أو حتى تسليح المعارضة السورية.

ربما كان هذا الموقف نتيجة لجروح سابقة. فذكريات العراق وليبيا وأفغانستان طاردت جيل كوربن من السياسيين المناهضين للحرب. لكن نفوره من التدخل العسكري جعله عرضة لنوع مختلف من النقد هذه المرة ليس من اليمين، بل من السوريين أنفسهم ومن دعاة الحرية والديمقراطية في العالم العربي والعالم.

ففي عام 2013، عارض كوربن التدخل البريطاني حتى بعد تقارير موثقة عن استخدام الأسد لغاز السارين في الغوطة، ومقتل أكثر من 1000 شخص. وفي ذلك الوقت، كان يشغل منصب رئيس “تحالف أوقفوا الحرب”، وهي المنظمة التي أصدرت بيانات تشكك حتى في مسؤولية النظام عن الهجوم، في ترديد غير مباشر لسرديات تُسمع عادة في المنصات الإعلامية الروسية والإيرانية والداعمة للثورة المضادة. وفي كثير من الأحيان، بدا أن تحالف وقف الحرب أكثر اهتمامًا بتكبيل مقاومي نظام الأسد بدلًا من مواجهة جرائمه.

حتى بعد سقوط حلب عام 2016، في أعقاب الحصار الذي شهد العالم وحشيته، حتى وصفته مؤسسة بريطانية مثل منظمة العفو الدولية بأنه “سقوط في قاع الجحيم”، ظلت تصريحات كوربن العلنية مقتصرة على دعوات عامة للسلام والدبلوماسية.

جلب هذا التردد انتقادات لاذعة مستحقة! وكتب حينها المعارض السوري البارز ياسين الحاج صالح في رسالة مفتوحة انتشرت على نطاق واسع: “نظر اليسار الغربي في المرآة، فرأى الإمبراطورية، لكنه لم يرَ الجلاد الواقف في الغرفة”.

حتى داخل حزب العمال، شعر بعض النواب بعدم الارتياح. النائبة جو كوكس، التي اغتيلت على يد متطرف يميني عام 2016، كانت من أبرز الأصوات المطالبة بتدخل إنساني في سوريا. وحذرت حينها من أن “رواندا جديدة” تتشكل تحت براميل الأسد المتفجرة. وفي الكواليس، عبّر بعض أعضاء حكومة الظل عن خيبة أملهم من صمت كوربن.

أظهرت الأزمة السورية نقطة عمياء في مناهضة كوربن للإمبريالية، فهو يميل إلى تفسير الصراعات من منظور عبء ذنب الرجل الأبيض وحده. صحيح أن لتاريخ بريطانيا في المنطقة، من سايكس-بيكو إلى غزو العراق، سجلًّا استعماريًّا يستحق المواجهة. لكن التركيز على ما “لا ينبغي أن تفعله بريطانيا” جعل كوربن يتجاهل ما يطلبه المظلومون أنفسهم: من مناطق آمنة، إلى ممرات إنسانية، أو حتى ضربات دولية محدودة لوقف المجازر.

ولا تزال آثار هذا الموقف ماثلة إلى اليوم، حتى بعد رحيل الأسد وانتصار الثورة السورية. فبينما يُحتفى بكوربن كرمز للمبادئ من قبل الفلسطينيين واليمنيين والإيرانيين وحتى الأكراد في مواجهة تركيا، فإن اسمه في أوساط السوريين، خاصة في المنفى، يثير شعورًا بالمرارة والحنق. لا يُنظر إلى كوربن كخصم على الأرجح بل كمثال على خيبة الأمل. فهو رجل رفع راية الكرامة الإنسانية في كل محفل، لكنه تردد عندما لم يكن الجلاد مدعومًا غربيًّا كعادة طغاة عالمنا.

حزب جديد وإرث كبير

في مايو/أيار 2024، وبعد حل البرلمان مباشرة بسبب فشل المحافظين في الحفاظ على استقرار الحكومة، طُرد كوربن رسميًّا من حزب العمال. وبمجرد تحرره من قيود الحزب، بدأ كوربن وحلفاؤه التحرك. ففي 2 سبتمبر/أيلول 2024، بعد أيام من الانتخابات، انضم كوربن إلى أربعة نواب مستقلين جدد (جميعهم من منشقّي يسار العمال وذوي مواقف مؤيدة لفلسطين)، لتشكيل كتلة رسمية في البرلمان تحت اسم “التحالف المستقل”.

وصفت الغارديان هذه الخطوة بأنها “بداية فعلية لحزب سياسي بلا زعيم”، وهدفت بالأساس إلى منحهم وقتًا أطول في الحديث البرلماني. وجاء في بيان مشترك صادر عن الأعضاء الخمسة: “ملايين الناس يصرخون طلبًا لبديل حقيقي للتقشف، وعدم المساواة، والحروب، وهذه الأصوات تستحق أن تُسمع”.

تعهد التحالف بإلغاء تحديد إعانة الأسرة بعد الطفل الثاني، واستعادة مزايا التقاعد، وإنهاء مبيعات الأسلحة البريطانية إلى إسرائيل، وهي القضايا التي قالوا إن الأحزاب الكبرى تتجاهلها. كما وجهوا دعوة مفتوحة لانضمام نواب آخرين، في إشارة واضحة إلى النواب العماليين السبعة الذين أُوقفوا بسبب تمردهم على بعض قرارات الحزب التي يتفقون فيها مع كوربن.

ومع تبلور التحالف، ظهرت خطة أوسع وأكثر وضوحًا: فبحلول منتصف 2025، دخل كوربن في مفاوضات مستمرة لتحويل هذا التجمّع البرلماني الفضفاض إلى حزب سياسي متكامل. وفي يوليو/تموز الجاري، أحدثت النائبة السابقة عن حزب العمال زارا سلطانة مفاجأة سياسية بإعلانها استقالتها من الحزب وانضمامها إلى كوربن “للمشاركة في قيادة حزب جديد”.

مستشعرًا الغضب الشعبي بين قاعدته، أكّد كوربن أن “النقاشات جارية” وأنه متحمس للعمل مع الجميع “للنضال من أجل المستقبل الذي يستحقه الناس”. ويبدو أن كوربن يطمح من خلال هذا المشروع إلى بناء تحالف يضم منشقّي حزب العمال، والخضر، والمجموعات الاشتراكية الصغيرة، وأعضاءً سابقين في العمال من الذين خاب أملهم جراء سياسات الحزب.

تجنّب كوربن حتى الآن تسمية نفسه زعيمًا للحزب. حتى إن إعلان سلطانة صيغ بلغة تشاركية: “سأشارك في القيادة” بدلًا من تنصيب كوربن على رأس المشروع. ويقول مساعدو كوربن إن الحزب الجديد سيتبع هيكلًا أفقيًّا، ويعتمد المجموعات على الأرض لا الهيراركية التصاعدية. وفي مقابلاته، أكد كوربن أن المشروع “متجذر في النشاط القاعدي”، وأنه يركز على “سياسة خارجية مبنية على السلام” ، كما كان يدعو إليه دومًا.

وقد بدأت تتضح معالم الإستراتيجية الجديدة لكوربن، وغزة في القلب منها. فقد شكّلت حرب الإبادة الإسرائيلية لحظة محورية للكتلة الجديدة، حيث ظهرت كصوت يمثل ملايين الناقمين على موقف حزب العمال من القضية الفلسطينية. تقول الناشطة آمنة عبد اللطيف للجزيرة إن هذا التحالف يسعى إلى تصحيح “أخطاء حزب العمال” من خلال الاستماع للمجتمع البريطاني ومكوناته لا النخبة السياسية.

كذلك يستهدف الحزب الجديد جذب الناخبين المسلمين والشباب الذين نفروا من قيادة ستارمر للعمال والحكومة. فقد فاز النواب المستقلون في لندن مثل شوكت علي وعدنان حسين في دوائر ذات كثافة سكانية مسلمة عالية، بعد حملات قوية ضد سياسة حزب العمال اتجاه إسرائيل. ومن الواضح أن كوربن وحزبه الجديد يسعون لتوسيع هذا الخطاب على مستوى البلاد.

تكتيك آخر يستخدمه كوربن هو بناء التحالفات. فقد فتح التحالف المستقل قنوات تواصل مع حزب الخضر، وقال مرشح قيادة حزب الخضر زاك بولانسكي “أي شخص يريد التصدي للمحافظين وحزب الإصلاح (اليميني المتطرف) وحكومة حزب العمال الفاشلة هو صديقي”.

بل إن محادثات تجري في بعض المناطق حول التصويت التكتيكي: ففي مدن برمنغهام أو برادفورد، يفكر بعض مرشحي حزب الخضر أو اليسار المحليين في الانسحاب لصالح المرشح المؤيد لكوربن إن بدا أن لديه فرصة أفضل للفوز.

لكن هذه الإستراتيجية ليست مضمونة النجاح، إذ إن بناء ائتلاف مستقر من الاشتراكيين، والخضر، والنشطاء المناهضين للحرب ليس بالمهمة السهلة مع الاختلافات الفكرية الكبيرة بينهم.

حتى الآن، ركّز نواب التحالف على ما أسموه “انتصارات رمزية”، مثل تقديم مقترحات لوقف إطلاق النار، وكتابة رسائل إلى توني بلير تطالبه بالشهادة بشأن غزة، والمشاركة في المسيرات التضامنية. لكن في أروقة الحزب الجديد يناقش كوربن وحلفاؤه سياسات أكثر جذرية، مثل تمرير قانون مناهض للعنصرية، وفرض ضريبة على الثروة، وتأميم القطاعات الحيوية، لكنهم يتجنبون إصدار برنامج انتخابي كامل في الوقت الراهن، مفضلين التموقع كقوة احتجاج مرنة. غير أن تقريرًا حديثًا نشرته الغارديان في منتصف يوليو/تموز 2025، أورد أن كوربن يُجري اللمسات الأخيرة على هيكل الحزب وبرنامجه السياسي.

ويبدو أن فرص كوربن في الوصول إلى نسبة مؤثرة من الأصوات ليست ضعيفة. فقد أثار الحديث عن الحزب الجديد حماسة كبيرة لدى شرائح واسعة من الناخبين -وخاصة الشباب والأقليات المحبطة- في الوقت نفسه الذي أقلق فيه تيارًا في حزب العمال يخشى من انقسام الأصوات. وتقدّم استطلاعات الرأي الأخيرة صورة متباينة. ففي استطلاع أجرته مؤسسة “YouGov” المرموقة في يوليو/تموز الجاري، قال حوالي 18٪ من البريطانيين إنهم “منفتحون على التفكير” في التصويت لحزب بقيادة كوربن، وهي نسبة أقل من دعم حزب العمال البالغة 30٪ لكنها ليست نسبة قليلة.

وتظهر البيانات أن هذا الدعم يميل بقوة نحو الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عامًا. وبرزت لندن ضمن معاقل هذا الدعم، إلى جانب ناخبي حزب الخضر السابقين وثلث من صوتوا لحزب العمال في 2024. كذلك لا تزال قاعدة كوربن التقليدية بين المسلمين البريطانيين متماسكة. فبعد حرب غزة، أظهرت استطلاعات عدة تراجع دعم المسلمين لحزب العمال بشكل حاد، وانخفضت شعبية ستارمر في أوساطهم تزامنًا مع ما يرونه تواطؤًا مع إسرائيل في حربها على غزة.

أما النقابات العمالية، التي شكلت تاريخيًّا العمود الفقري لحزب العمال، فهي تراقب الوضع عن كثب. فرغم أن القيادات النقابية ما زالت تدعم الحزب رسميًّا، فإن الأعضاء الذين دعموا كوربن بقوة بين 2015 و2019 لا يزالون يميلون إلى خطابه الاجتماعي الديمقراطي. لم تعلن أي نقابة كبرى انشقاقها بعد عن حزب العمال، لكن الخطاب الداخلي لاتحادات العمال والنقابات مليء بأصوات مؤيدة لكوربن ترى أن الحزب قد “خان الطبقة العاملة” جراء سياساته وحتى تعامله مع رئيسه السابق.

حتى الآن، لا تُظهر أي استطلاعات انهيارًا مباشرًا في نسب ستارمر بسبب كوربن وحزبه الجديد الذي لا يزال في طور التشكّل. ومع ذلك، يجب القول إن جاذبية كوربن الداخلية حقيقية بلا شك بين الشباب والمجتمعات المسلمة واليسار الراديكالي، لكن يبقى السؤال: هل يمكن تحويلها إلى قاعدة تصويتية مستقرة؟

في النهاية، يخبرنا تاريخ جيريمي كوربن أن أسطورته السياسية ستستمر على الأرجح، بغض النظر عن مدى نجاح حزبه في الحصول على الأصوات أو حتى في الحفاظ على تماسكه.

شاركها. فيسبوك تويتر بينتيريست واتساب تيلقرام البريد الإلكتروني

المقالات ذات الصلة

“خراب الهيكل”.. انتهاكات غير مسبوقة وبن غفير يعلن “التمكين والسيادة” بالأقصى

سياسة الإثنين 04 أغسطس 1:04 ص

تحذيرات حاكم دارفور من مخططات لتقسيم السودان

سياسة الإثنين 04 أغسطس 12:02 ص

زيارة متقي لباكستان.. دبلوماسية أفغانية بمواجهة أزمة اللاجئين

سياسة الأحد 03 أغسطس 10:00 م

صمت براغ.. تواطؤ تشيكي تجاه المجاعة والمجازر في غزة

سياسة الأحد 03 أغسطس 7:59 م

ماذا يعني دخول قطاع غزة المرحلة الثالثة من التجويع؟

سياسة الأحد 03 أغسطس 6:58 م

“ما وراء الخبر” يناقش أهداف زيارة الرئيس الإيراني لباكستان

سياسة الأحد 03 أغسطس 5:57 م

جدعون ليفي: نتنياهو يرتكب أسوأ جرائم الحرب في غزة بحماية من ترامب

سياسة الأحد 03 أغسطس 4:56 م

هجوم لقوات “قسد” بمنبج يخلف إصابات في صفوف الجيش السوري

سياسة الأحد 03 أغسطس 3:55 م

محللون: نتنياهو يرفض إنهاء مشكلة التجويع

سياسة الأحد 03 أغسطس 2:54 م
عاجل الآن

‫ جوجل تطور منصة ذكاء اصطناعي تفوق شات جي بي تي 4

الإثنين 18 سبتمبر 5:55 ص164 زيارة

مصر تطالب بتعديل حدود القاهرة التاريخية واليونسكو تكشف للجزيرة شروطها

الأحد 01 أكتوبر 10:14 م119 زيارة

الحوثيون يؤجرون أسطح المدارس في صنعاء لتجار الطاقة الشمسية

الإثنين 07 أغسطس 4:51 م102 زيارة

‫ البيئة: 10 أنواع طيور برية مسموح بصيدها

الثلاثاء 29 أغسطس 7:18 ص100 زيارة

الذكاء الاصطناعي في الهندسة المدنية

الأحد 11 فبراير 12:15 ص80 زيارة
Demo
رائج الآن

تجمع القصيم الصحي يُطلق حملة ميدانية للكشف المبكر عن السكري واعتلال الدهون

بواسطة فريق التحريرالإثنين 04 أغسطس 1:26 ص

«المنع من التسجيل» يقلق جماهير الفتح قبل الموسم الجديد

بواسطة فريق التحريرالإثنين 04 أغسطس 1:19 ص

‫ استشهاد فلسطينية وإصابة آخرين في قصف للاحتلال وسط غزة

بواسطة فريق التحريرالإثنين 04 أغسطس 1:14 ص
رائج الآن

تجمع القصيم الصحي يُطلق حملة ميدانية للكشف المبكر عن السكري واعتلال الدهون

«المنع من التسجيل» يقلق جماهير الفتح قبل الموسم الجديد

‫ استشهاد فلسطينية وإصابة آخرين في قصف للاحتلال وسط غزة

اخترنا لك

«المنع من التسجيل» يقلق جماهير الفتح قبل الموسم الجديد

‫ استشهاد فلسطينية وإصابة آخرين في قصف للاحتلال وسط غزة

‫ المهرة فولن إنجل ملك وذنان ريسنغ تفوز بجائزة روتشيلد من الفئة الأولى بفرنسا

اشترك في الإشعارات

انضم الى قائمة الإشعارات البريدية ليصلك كل جديد مباشرة الى بريدك الإلكتروني

2025 © ناس مصر. جميع حقوق النشر محفوظة.
  • من نحن
  • سياسة الخصوصية
  • الشروط والاحكام
  • اتصل بنا

اكتب كلمة البحث ثم اضغط على زر Enter