القدس المحتلة- في ضوء الغارات الإسرائيلية الأخيرة التي استهدفت مواقع سيادية في العاصمة السورية دمشق، كشفت مصادر لموقع “أكسيوس” الأميركي أن هذه العمليات لم تكن منفصلة عن دوافع سياسية داخلية، خاصة تلك المرتبطة بالطائفة الدرزية داخل إسرائيل، التي يبلغ عدد أفرادها نحو 150 ألف نسمة، وتشكل قرابة 2% من سكان الأراضي الفلسطينية التاريخية.

وتكررت في الخطاب الإسرائيلي الإشارة إلى “حماية الدروز” في سوريا كذريعة لتبرير خرق السيادة السورية، لاسيما في المناطق الجنوبية مثل السويداء والقنيطرة.

وفي موقف لافت، دعا الشيخ موفق طريف، الزعيم الروحي للطائفة الدرزية في إسرائيل، بشكل علني إلى تدخل عسكري لحماية دروز السويداء، واتهم ما وصفها بـ”جهات إرهابية” بمهاجمتهم، كما ناشد المجتمع الدولي التحرك، مما أثار جدلا سياسيا وإعلاميا واسعا بشأن الأهداف الحقيقية وراء هذا الخطاب.

وفي تطور غير مألوف، عبَر نائبان درزيان من الكنيست الإسرائيلي -هما حمد عمار عن حزب “يسرائيل بيتينو”، وعفيف عابد عن “الليكود”- خط وقف إطلاق النار مع سوريا، وتقدما في طليعة مجموعة تضم قرابة ألف شاب درزي من داخل إسرائيل، ينتمي بعضهم إلى منطقة الخضر السورية، وآخرون إلى محافظة السويداء.

هذا التحرك الميداني طرح علامات استفهام حول مدى تنسيقه المسبق مع الجيش الإسرائيلي، الذي لم يعارض الخطوة أو يعترض طريق المشاركين فيها.

أبعاد متعددة

ويرى محللون وباحثون أن الغارات الإسرائيلية الأخيرة لا يمكن فصلها عن سياق سياسي أوسع، مؤكدين أنها ليست مجرد عملية عسكرية معزولة، بل تنطوي على رسائل سياسية تتصل بدعم الطائفة الدرزية الحليفة لإسرائيل، ومحاولة إضعاف السلطة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع، بالإضافة إلى استباق أي ترتيبات داخلية محتملة في الجنوب السوري لا تراعي المصالح الإسرائيلية.

وتُعد الطائفة الدرزية داخل إسرائيل حالة فريدة، إذ يرتبط جزء كبير منها بالمؤسسة العسكرية والسياسية ارتباطا وثيقا. ويبلغ معدل التجنيد الإجباري بين الشبان الدروز قرابة 80%، ويخدم الكثير منهم في وحدات قتالية واستخباراتية، بل وحتى في سلاح الجو.

كما يشغل عدد من الشخصيات الدرزية مناصب سياسية بارزة، من بينهم وزراء ونواب سابقون مثل أيوب قرا، وصالح طريف، ومجلي وهبة، وشكيب شنان. إلا أن هذا التمثيل لا يمنع تساؤلات عميقة من الظهور: هل يمثل الدروز شركاء فعليين في صياغة السياسات الإسرائيلية؟ أم أن وجودهم يُستدعى عند الضرورة لتبرير سياسات الدولة أو تمرير أجندات معينة؟

ورقة ضغط

طوال السنوات الماضية، سعت إسرائيل إلى استغلال ملف الأقليات في سوريا كوسيلة لتفكيك النسيج الوطني السوري، وتحويل مكونات مجتمعية إلى أوراق تفاوض في سياق صراع إقليمي متعدد المستويات.

وبالإضافة إلى الطائفة الدرزية، سبق لإسرائيل أن حاولت فتح قنوات مع الأكراد والعلويين، من خلال تقديم أشكال مختلفة من الدعم السياسي والعسكري والإعلامي، في إطار إستراتيجية تهدف إلى تقويض المركزية السياسية في دمشق، وتثبيت واقع الانقسام.

وبرغم ما يبدو من نفوذ درزي داخل إسرائيل، يشير مراقبون إلى أن هذا الوجود غالبا ما يوظف لخدمة أجندات تتعلق بالأمن القومي، خصوصا على الجبهة الشمالية.

وبين ما يُعرف بـ”حلف الدم” الذي يجمع المؤسسة العسكرية الإسرائيلية بالدروز داخل حدودها، و”ورقة الضغط” المتمثلة بالطائفة الدرزية السورية، تتحرك إسرائيل على خطوط دقيقة تتشابك فيها الجغرافيا بالديمغرافيا.

لكن تلك التحركات، بحسب المراقبين، لا تستند إلى اعتبارات إنسانية أو عقائدية، بل تهدف إلى تثبيت مكانة إسرائيل كطرف رئيس في أي تسوية إقليمية مقبلة، مستثمرة ملف الأقليات كأداة للابتزاز السياسي والأمني.

مسار الأحداث| نتنياهو يتعهد بحماية الدروز في سوريا وغارات إسرائيلية على دمشق

مبالغة في تقدير التأثير

الباحث في الشأن الإسرائيلي أنطوان شلحت علق على ما ورد في تقرير “أكسيوس”، معتبرا أن في الربط بين الضغط الدرزي داخل إسرائيل والسياسة الحكومية تجاه سوريا مبالغة.

وفي حديثه للجزيرة نت، أكد شلحت أن حجم القضية يتجاوز تأثير طائفة واحدة، مشيرا إلى أن العلاقة بين الدروز والدولة العبرية قائمة بالفعل، لكنها لا ترقى إلى مستوى التأثير المباشر على قرارات الدولة في الملف السوري.

وأضاف أن إسرائيل توظف البعد الطائفي ليس فقط لتبرير تدخلاتها في سوريا، بل كذلك لتعزيز إستراتيجيتها الإقليمية، لاسيما في ظل تحديات تواجه الجيش الإسرائيلي، مثل النقص في القوى البشرية.

وأوضح أن تل أبيب تسعى إلى توطيد ما تسميه “حلف الدم” مع الطائفة الدرزية، عبر تقوية العلاقة المؤسسية والمجتمعية، لتعزيز جبهتها الداخلية وتوسيع نفوذها في محيطها الجغرافي.

تجارب قديمة

وأشار شلحت إلى أن الطائفة الدرزية في سوريا ولبنان كانت ولا تزال ضحية للتجاذبات الطائفية، وهي تجاذبات تغذيها إسرائيل تحت غطاء “حماية الأقليات”، مشبّها ذلك بمحاولات إسرائيل السابقة في استثمار الملف الكردي كوسيلة لتفكيك الروابط العربية.

ورغم تمثيل الدروز في الجيش والمؤسسات الرسمية، بما في ذلك مناصب عليا مثل منسق أعمال الحكومة في الأراضي المحتلة غسان عليان، فإن شلحت يرى أن ذلك لا يعني امتلاكهم نفوذا حقيقيا في رسم السياسة الخارجية، خصوصا ما يتعلق بسوريا.

وأكد أن التدخل الإسرائيلي في الساحة السورية يتجاوز البعد الدرزي، ويندرج في إطار رؤية إستراتيجية تهدف إلى إعادة تشكيل الخارطة السياسية بما يحقق مصالح إسرائيل الأمنية، مع توظيف البعد الطائفي كأداة لتحقيق تلك الأهداف، لا كمبرر رئيس لها.

غايات أمنية

من جهته، يرى الباحث في مركز “تقدم” للسياسات، أمير مخول، أن إسرائيل تفتقر لأي مشروعية أخلاقية للحديث عن “حماية الأقليات”، في وقت تمارس فيه سياسات تمييزية ضدهم داخل أراضيها.

وفي حديثه للجزيرة نت، قال مخول إن تل أبيب تعمل على إعادة تشكيل الجغرافيا السورية بما يخدم مصالحها الأمنية، وليس انطلاقا من حرص على استقرار سوريا أو مصالح مكوناتها.

ووصف التصريحات الإسرائيلية -خصوصا تلك الصادرة عن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية– ووزير الدفاع يسرائيل كاتس حول حماية الدروز بأنها موجهة بالأساس للاستهلاك المحلي وتهدئة الداخل الدرزي في إسرائيل.

وحذّر مخول من مخاطر تفجير الوضع الطائفي في سوريا، مشيرا إلى أن تأثير ذلك قد يمتد إلى لبنان، في ظل ما وصفه بمحاولات إسرائيل فرض هيمنتها الأمنية على المنطقة الممتدة من دمشق إلى الجولان المحتل، وتحويل الجنوب السوري إلى منطقة تدخل إسرائيلي دائم.

واعتبر أن الهدف الإسرائيلي يتجاوز الادعاءات الإنسانية، ويتجه نحو خلق منطقة خاضعة فعليا لنفوذها الأمني، منزوعة السيادة السورية الفعلية.

وخلص إلى أن التحدي الأكبر الذي يواجه الأقليات في سوريا -وعلى رأسها الطائفة الدرزية- يكمن في استعادة القرار الوطني المستقل، وتفادي الوقوع في فخ التوظيف الخارجي، وخاصة في إطار المشاريع الإسرائيلية الرامية إلى تقسيم النفوذ والقرار داخل الجغرافيا السورية.

شاركها.
Exit mobile version