من خلال اللعب على الإسلاموفوبيا واستغلال بعض مفاهيم ما بعد الحداثة، يعمل القوميون الهندوس بزعامة رئيس وزراء الهند ناريندرا مودي على مواجهة إسلام يصفونه بـ”المحتل والقمعي للتقاليد الهندوسية الحكيمة”، كما يعادون العلوم الطبيعية والتاريخ، محاولين فرض سردية وطنية جديدة على المسلمين الهنود وبقية العالم.
بهذه المقدمة، افتتح موقع أوريان 21 -مقالا للمؤرخ الفرنسي سيمون بيير- انطلق فيه من افتتاح مودي مبنى على الطراز الكلاسيكي الجديد في 22 يناير/كانون الثاني 2024، في موقع أقدم مسجد مغولي في شبه القارة الهندية، أسسه بابور، أول سلاطين سلالة الفرغانيين، ودمره القوميون الهندوس عام 1992، وتم تخريب آثاره خلال أعمال شغب صاحبتها مذبحة لآلاف المسلمين من دون عقاب.
وأوضح أستاذ التاريخ في جامعة السوربون أن الحجة المقدمة هي أن المسجد أقيم في مسقط رأس الملك المؤله راما الذي عاش قبل 4 آلاف عام، مشيرا إلى أن هذا الهجوم المتطرف، الذي يتم تبريره باسم الإيمان والعبادة والنظام الاجتماعي والهوية الهندوسية، جزء من الأجندة القومية الدينية لحزب بهاراتيا جاناتا الذي يتزعمه رئيس الوزراء الحالي، وهو يستهدف 225 مليون مسلم يشكلون 16% من سكان الهند.
إعادة كتابة العلوم بدعوى إنهاء الاستعمار
ونبه المؤرخ الفرنسي إلى أن الحملة المنسقة لإعادة الكتابة ضد الحقيقة العلمية تستهدف أيضا التاريخ الطبيعي والفيزيائي والبيولوجي بقدر ما تستهدف التاريخ الاجتماعي والسياسي، لأنهما يناقضان الحقائق المقدسة حول خلق العالم ونظامه، فضلا عن التفرد والحصرية الهندوسية للرواية الوطنية.
ويتم تبرير هذا الهجوم الأصولي بحجة أن سيادة المعرفة التقليدية مهددة بفِعل المعرفة الغربية التي يُنظر إليها على أنها استعمارية، ككل ما ينسب إلى الهند الإسلامية، مشبها حالة الهند هذه بالنزعة العسكرية اليابانية في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، وحججها بحجج الفاشية الإيطالية والنازية الألمانية في الفترة نفسها.
وفي هذا السياق، تحرم هذه الظلامية -حسب وصف الكاتب- طلاب المدارس المتوسطة والثانوية في الهند من الوصول إلى معلومات محايدة في المجالات البيولوجية والجيولوجية والفيزيائية الفلكية والاجتماعية والسياسية، محولة مسار النضال ضد الهيمنة الاستعمارية إلى تعزيز وإعادة فرض الهيمنة القديمة للطوائف المهيمنة، التي يتم تقديمها على أنها وطنية، ولا سيما البراهمة المتدينين.
تشكيك المتطرفين الهنود في العلوم يحرم طلاب المدارس المتوسطة والثانوية في الهند من الوصول إلى معلومات محايدة في المجالات البيولوجية والجيولوجية والفيزيائية الفلكية والاجتماعية والسياسية
وتُفرض دعاية حزب بهاراتيا جاناتا على الناس قبل التخصص في السنة النهائية، للمحافظة على جهل الجميع بما لا يخصه من مجالات، ومن ثم فإن إعادة كتابة التاريخ تقوم على مقولة شائعة مفادها أن الحضارة الهندية يعود تاريخها إلى 5 آلاف عام، وكأن حجة الأسبقية واستمرارية الجوهر من شأنها أن تبرر التفوق الجوهري المزعوم، كما يقول الكاتب.
عاطفة علمية عمياء
وقد أثارت هذه الهجمات المنسقة ضد التعليم الذي لا يتفق مع هيمنة القومية الهندوسية بالفعل بعض ردود الفعل، رغم أنها غير متكافئة ومفككة، فمن ناحية، لم يتلق القطاع الهندي للعلوم الإنسانية والاجتماعية، وخاصة في التاريخ التركي الإيراني والإسلامي، أي دعم أكاديمي من الدولة تقريبا، ورغم وجود تحركات متفرقة في دوائر دراسة الأحياء والفيزياء، فإنها لم تذكر أبدا حالة التاريخ.
وتشير مجلة “نيتشر” إلى أن “الهند ليست الدولة الوحيدة التي تتصارع، في مرحلة ما بعد الاستعمار، مع مسألة كيفية احترام أشكال المعرفة القديمة أو المحلية والاعتراف بها في مناهجها المدرسية”، إلا أن المجلة كغيرها -حسب الكاتب- لم تكن قادرة على ربط هذه الهجمات بتلك التي تستهدف العلوم الإنسانية وتاريخ الإسلام، وفي نهاية المطاف فالمسلمون هم الذين يتعرض بقاؤهم الجسدي والسياسي والرمزي للتهديد، في الوقت نفسه يتعرض فيه مستقبل العالم للخطر.
ويبدو أن جزءا صغيرا من الصحافة هو الذي لمح الجانب المناهض للإسلام والمسلمين في عملية إعادة كتابة التاريخ هذه، وبالفعل أشار مقال في صحيفة فايننشال تايمز إلى محو آخر سلالة هندية من المغول، وهي إشارة لا تضع في الاعتبار ما ينطوي عليه ذلك من آثار على الصعيد الاجتماعي والسياسي، على حقوق مئات الملايين من المواطنين المسلمين في الاتحاد الهندي.
وبالفعل تحدد قناة الجزيرة -حسب الكاتب- هذا التركيز على المغول وحدهم فيما يتعلق بالعلوم الإنسانية، وهي تشعر بالقلق منذ عام 2018 بشأن العلامات التحذيرية لهذه السياسة المناهضة للإسلام، مع تغيير اسم مدينة الله أباد من قبل حكومة ولاية أوتار براديش.
وبالفعل قام رئيس وزراء الإقليم، وهو “الراهب” الهندوسي العنصري المسمى يوغي أديتياناث، عام 2020 بحملة علنية من أجل طرد جميع المسلمين إلى باكستان، كما أعلن في مواجهة المظاهرات المناهضة لتجريم الطلاق في الشريعة الإسلامية أنهم (المحتجون) “إذا لم يفهموا الكلمات سيفهمون الرصاص”.
ويعتمد جزء كبير من السردية القومية الهندوسية على الانتقام من الاستعمار الإسلامي للهندوس منذ آلاف السنين، وأحد العناصر الأساسية في خطاب الاضطهاد هذا هو ما يسمى “التحول الديني القسري”، لكن الحقيقة البسيطة المتمثلة في أن الهندوس ما زالوا أغلبية تظهر أن هذا مجرد وهم، وهو يتناقض مع الشريعة الإسلامية التي تكتفي بالجزية مقابل بقاء المرء على دينه، كما مارستها السلطات المحلية.
ومع أن مودي يحرص على عدم نقل هذا الجانب، لتجنب ردود الفعل الغربية، فإن سياسته على المستوى الفدرالي، تتضح بشكل خاص من خلال تغيير الاسم الرسمي للبلاد، من “هندوستان” في اللغة الفارسية إلى “بهارات”.
أجندة إصلاحية رجعية
وعلى النقيض من الصحافة العالمية -كما يقول الكاتب- فإن صحفيي الجزيرة لا يتحدثون فقط عن المساجد والسلالات الإسلامية، بل يصفون المراجعة الكاملة للتدريس في 14 ولاية اتحادية، ويفصلون في ذلك، مقتبسين من أستاذ هندي أسفه لأن طلابه يفقدون “المكان الوحيد لمناقشة وتحدي المفاهيم الدينية”، وهو فرصة “المعلم لقيادة الطلاب إلى التمييز بين” الإيمان كوسيلة للمعرفة” و”العلم كوسيلة للمعرفة”.
وباختصار، تنتقد الصحافة المناصرة للإسلام بوضوح قمع العلوم الطبيعية غير الدينية في التعليم الثانوي الهندي، في حين تتجاهل وسائل الإعلام العلمية استئصال العلوم التاريخية المرتبطة بالإسلام أو تقلل من شأنه.
ويتقدم القوميون الهندوس على وجه التحديد انطلاقا من غياب رد الفعل الدولي، من خلال مهاجمة الحقائق البيولوجية والتاريخية، مما يعرض العلم بشكل عام للخطر، ولكن رد فعل المجتمعات الغربية المتضررة كان خجولا.
ونبه الكاتب إلى أن مودي يتبنى عن طيب خاطر وبنجاح موقفا مناهضا للاستعمار مع الهيبيين، وموقفا آريا مع الفاشيين، وفي هذه السردية المتوافقة مع أوروبا يبرز أن الهند كانت ستصبح منارة علمية لو لم تسحقها الظلامية الإسلامية، ولو لم تكن ضحية للغرب.
ويستغل حزب بهاراتيا جاناتا بمهارة الإسلاموفوبيا ومعاداة الداروينية ومعاداة الاستعمار ومحبة الهندوسية، لتنفيذ أجندته “الإصلاحية” الرجعية -حسب تعبير الكاتب- حيث ينظر إلى أي مدخلات إسلامية أو غربية باعتبارها اعتداءات “استعمارية” على أصالة بهارات وتفوقه الوجودي.