ليست القدس مدينة تسير فيها الحياة بشكل اعتيادي كما في أي مكان آخر، بل هي رواية من الصمود تتجدد فصولها مع كل مواجهة جديدة. فمع كل عيد يهودي، يتهيأ المقدسيون لصباح مختلف، لا تُفتح فيه الأبواب إلا للجنود، ولا يرفع فيه الأذان إلا بعد أن يسمح به الاحتلال، إن سمح أصلًا.
وبرغم القيود المفروضة، يبقى المقدسيون متمسكين بثباتهم وتشبثهم بقداستهم، بينما تتحوّل ساحات المسجد الأقصى والحرم الإبراهيمي إلى مسارح لطقوس دخيلة تؤدى تحت أعين تراقِب وحراب مسلولة.
وفي ظل تصاعد السياسات الإسرائيلية الهادفة إلى تغيير الواقع التاريخي والديني في الأراضي الفلسطينية المحتلة، اقتحم وزير الأمن القومي الإسرائيلي اليميني المتطرف إيتمار بن غفير، يوم الأربعاء 16 أبريل/نيسان، الحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل وسط إجراءات أمنية مشددة وحراسة كبيرة رافقت موكبه، بينما أغلقت سلطات الاحتلال الحرم أمام المصلين المسلمين.
وخلال الاقتحام، ألقى بن غفير كلمة أمام جموع المستوطنين، وأدى رقصات وطقوسًا تلمودية في باحات الحرم، في مشهد رأى فيه خبراء ومراقبون استفزازا مباشرا للمشاعر الدينية للمسلمين. كما يعكس ذلك تسارع وتيرة الاقتحامات الإسرائيلية تحت غطاء الأعياد الدينية، إذ حوّلت شرطة الاحتلال مدينة القدس وبلدتها القديمة إلى ثكنة عسكرية بالتزامن مع حلول عيد الفصح اليهودي.
كيف بدأت الاقتحامات؟
ما تشهده المقدسات الإسلامية هذه الأيام ليس حدثًا طارئًا، بل هو امتداد لتاريخ طويل من الاقتحامات والانتهاكات التي بدأت بشكل واضح عسكريًا منذ عام 1967، تاريخ معركة “حرب الأيام الستة”، حين اقتحم الجنرال الإسرائيلي “مردخاي جور” المسجد الأقصى برفقة جنوده عقب احتلال مدينة القدس.
في ذلك اليوم، رُفع العلم الإسرائيلي فوق قبة الصخرة، وأُحرقت المصاحف، ومنعت الصلاة في المسجد لمدة أسبوع كامل. كما استولت سلطات الاحتلال على مفاتيح باب المغاربة، لتخصصه لاحقًا بشكل حصري لاقتحامات المستوطنين وجنود الاحتلال.
ولم تتوقف هذه الاقتحامات عند هذا الحد، بل أصبحت سياسة ممنهجة أكثر وضوحًا، ففي 8 أكتوبر/تشرين الأول عام 1990، بلغ التوتر ذروته عندما حاول متطرفون يهود وضع حجر الأساس لما يُسمى بـ”الهيكل الثالث” داخل ساحات المسجد الأقصى، فتصدّى لهم المصلون، فقابلهم جنود الاحتلال بالرصاص الحي، مما أدى إلى استشهاد 21 فلسطينيًا وإصابة 150 آخرين، وفق وسائل إعلام فلسطينية.
وفي 1996، افتتحت سلطات الاحتلال نفقًا بمحاذاة الجدار الغربي للمسجد الأقصى، وهو ما أدى إلى اندلاع ما عُرف بـ”انتفاضة الغضب”. وفي تلك الأيام، كان الفلسطينيون يقاومون بحمم الحجر، بينما كانت قوات الاحتلال تقابلهم بالرصاص الحي، لتسجل مذبحة الأقصى الثانية التي أسفرت عن استشهاد 62 فلسطينيًا، وجرح 1600 آخرين.
ورغم مزاعم المسؤولين الإسرائيليين حينها بأن هذه الاقتحامات كانت “تصرفات فردية” إلى حد عام 2000، فقد تبين فيما بعد أن هناك توافقًا سياسيًا يهدف إلى تحقيق أجندة تهويدية.
وكان اقتحام رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرييل شارون للمسجد الأقصى في 28 سبتمبر/أيلول 2000 بمثابة الشرارة التي أشعلت “انتفاضة الأقصى”، ليتحول المسجد الأقصى إلى ساحة معركة لا تهدأ، ومنذ ذلك الحين، باتت الاقتحامات تتم بغطاء رسمي وتنسيق مؤسسي، وبدأت الحكومة الإسرائيلية في الترويج لحق المستوطنين في دخول المسجد الأقصى، بل وطالبت بتقسيمه زمنيًا ومكانيًا، ما يعني أن يومًا قد يأتي ويصبح فيه الأقصى مجرد موقع سياحي محدود من يصل إليه.
بل وفرضت شرطة الاحتلال أوقاتا محددة لاقتحام المتطرفين بين السابعة والنصف إلى العاشرة صباحًا، ومن الواحدة إلى الثانية ظهرًا، ليزداد في تلك الفترات زخم الاقتحامات، خاصة في فترات الأعياد اليهودية.
أما في العقود الأخيرة، فقد شهدت القوانين الإسرائيلية تصعيدًا ضد المقدسات الإسلامية، حيث بدأ القضاء الإسرائيلي في السماح لليهود بالصلاة داخل المسجد الأقصى، بل إن الأمر تجاوز ذلك إلى دعوات واضحة لتقسيم الأقصى بشكل رسمي، لا سيما في عام 2014 حينما طرح الكنيست مشاريع قوانين تهدف إلى سحب الوصاية الأردنية عن المقدسات الإسلامية، وتقسيم المسجد الأقصى بين المسلمين واليهود، وهو ما لم يحدث بعد.
وتُظهر الأرقام الصادرة عن دائرة الأوقاف الإسلامية ارتفاعا كبيرًا في أعداد المستوطنين الذين اقتحموا المسجد الأقصى خلال الأعياد اليهودية، حيث وصل عددهم في عيد الفصح لعام 2024 إلى نحو 4345 مستوطنًا، مقارنة بـ3430 مستوطنًا في العام نفسه 2023.

حلم الهيكل اليهودي
تحمل هذه الاقتحامات أبعادًا أيديولوجية عميقة، تتمثل في السعي لبناء “الهيكل اليهودي” على أنقاض المسجد الأقصى، وهو ما يعتبره العديد من اليهود جزءًا من إعادة تأسيس الدولة اليهودية، في إطار إستراتيجية طويلة الأمد تهدف إلى فرض السيادة اليهودية على القدس وتغيير واقعها الديني والجغرافي.
لم يعد حلم الهيكل في طي الخيال، فهو الآن مشروع واقع تتضافر له الجهود الرسمية والشعبية. بحسب ما نقلت صحيفة “هآرتس”، فإن بن غفير يقود خطة من 3 مراحل للسيطرة على المسجد الأقصى، وتستهدف المرحلة النهائية بناء الهيكل الثالث في مكان قبة الصخرة.
وكان هذا الحلم الذي ظل يحكم الوعي الديني اليهودي على مدار الألفيْ عام يواجه عقبات دينية وسياسية حالت دون تنفيذه، لكن مع وصول الأحزاب اليمينية المتطرفة إلى السلطة في إسرائيل، أصبح الأمر أقرب إلى التحقق، بحسب هآرتس.
في هذا السياق، تتراءى بعض الصور المجردة عن الواقع، صوّر فيها المزعوم من “الهيكل الثالث” يأخذ مكان المسجد الأقصى، حيث تدفع منظمات صهيونية متطرفة بهذا الاتجاه، كـ”اتحاد منظمات الهيكل”، الذي يحرّك الجماهير في مسيرة تهويد لا تتوقف.
تعمل هذه الجماعات بلا هوادة، باستخدام أساليب التحريض المتنوعة، ففي 13 أبريل/نيسان الجاري، ومع بدء الأعياد اليهودية، أطلَقت دعوات علنية تحث على تنفيذ طقوس “قربان الفصح” داخل باحات المسجد الأقصى.
وتجاهر منظمات الاحتلال المتطرفة بمخططات تهدف إلى تفجير المسجد الأقصى وإزالة قبته ومآذنه لبناء الهيكل المزعوم مكانه. ولم تعد هذه التحركات سِرًّا، إذ تُعد الاقتحامات اليومية خطوات تمهيدية نحو تحقيق هذا الهدف الخطير.

وكانت تلك الدعوات مرفقة بصورة نشرها الناشط في جماعات الهيكل أرنون سيغال مُصممة بتقنية الذكاء الاصطناعي يظهر فيها بن غفير وهو يحمل ماعزًا كقربان على أعتاب المسجد الأقصى، وخلفه “الهيكل” مكان المسجد الأقصى، وأرفقها بتعليق “هذا العام”، في إشارة واضحة إلى الهدف المزعوم.
في قلب هذا التصعيد، يتحدث أستاذ العلوم السياسية، الدكتور أيمن البراسنة، عن واقع مرير يتكشف تدريجيًا أمام أعيننا، إذ يرى أن الاقتحامات المتواصلة للمقدسات ليست مجرد تحركات عسكرية، بل جزء من مشروع أعمق وأخطر لإعادة تشكيل هوية مدينة القدس، مشروع يهدف إلى تضييق الوجود الفلسطيني، وتحويل المدينة إلى مكان لا يتسع إلا لراية الاحتلال.
ومع تزايد النشاط الاستيطاني، أصبح “اتحاد منظمات الهيكل” يشمل اليوم 46 مؤسسة تحت مظلته، في دلالة قاطعة على نمو هذا المشروع وتوسعه. ليس هذا فحسب، بل إن قدرة هذه المنظمات على التنسيق والحشد والتمويل قد تعاظمت بشكل لافت وأصبح لها حضور بارز في الكنيست والحكومة الإسرائيلية.
ويقول البراسنة، إن ما نشهده في هذه الأيام من اقتحامات وتعديات على المقدسات ليس مجرد استعراض للقوة العسكرية، بل هو سعي حثيث لمحو التاريخ الفلسطيني في القدس، هذا التاريخ الذي ينبض بالحياة منذ آلاف السنين، يواجه الآن محاولات مستميتة لتغيير ملامحه.
تحدّ للقانون الدولي
تشكل هذه الاقتحامات المتواصلة تحديًا صريحًا للقانون الدولي، إذ تتعارض مع قرارات أممية كثيرة، مثل القرار 181 لعام 1947 واتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 التي تُلزم بحماية الأماكن الدينية في الأراضي المحتلة.
ورغم ذلك، لم تقف سلطات الاحتلال مكتوفة الأيدي، بل سهلت هذه الاقتحامات بشكل مستمر، ساعية إلى فرض واقع جديد على الحرم القدسي الشريف. كان هذا التغيير الواقع بمثابة خرق واضح لمبدأ حرية العبادة، وفق ما قاله أستاذ القانون الدولي، الدكتور أيمن هلسة.
ويرى هلسة أن هذه الانتهاكات تتناقض تمامًا مع ما نصت عليه اتفاقية لاهاي لعام 1954، والبروتوكول الإضافي الأول لعام 1977، اللذان يحظران استهداف دور العبادة، معتبرَين ذلك انتهاكًا لحماية التراث الثقافي والديني.
وأكد على أهمية ملاحقة هذه الانتهاكات أمام المحكمة الجنائية الدولية لضمان المساءلة ومنع الإفلات من العقاب، ومحاسبة سلطات الاحتلال التي تستمر في تنفيذ هذه الاقتحامات، كما لو أن القانون الدولي لا وجود له.
من جانبه، يوضح الدكتور أيمن البراسنة، أستاذ العلوم السياسية، أن هذه الاقتحامات تُعتبر استهانة بمشاعر المسلمين، وتشكل جزءًا من مشروع أوسع يهدف إلى تغيير الهوية الدينية والثقافية للقدس.
ويشير البراسنة إلى أن هذا التصعيد يزيد من التوترات ويهدد استقرار المنطقة، في وقت يُعزز فيه دعمُ الحكومة الإسرائيلية لهذه الاقتحامات سياسات تهويد المدينة. وهو ما يُشكل خرقًا صارخًا للقانون الدولي، ويُهدد مستقبل القدس كمقدس ديني متعدد الأديان.
وفي الوقت نفسه، أطلق مجلس الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية في القدس نداء عاجلا إلى الدول الإسلامية والعربية لتتحمل مسؤولياتها إزاء الانتهاكات المتكررة بحق المسجد الأقصى، أولى القبلتين ومسرى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، واتخاذ خطوات جادة لوقفها، ودعم وصاية الملك عبد الله الثاني على الأقصى والمقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس.
يتفق الخبراء على أن الحاجة إلى تحرك دولي عاجل أصبحت أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. الأمر لم يعد يقتصر على حماية المسجد الأقصى فحسب، بل يتعلق بالحفاظ على الوضع القانوني والتاريخي للقدس.
وأن الصمت الدولي أمام هذه الممارسات يفتح الطريق لمزيد من التصعيد، ويهدد بتحويل المدينة المقدسة إلى ساحة لصراع ديني مفتوح. ومع ذلك، لا يزال الجميع يدرك أن القدس يجب أن تُصان كرمز للتعايش والسلام، لا كساحة للصراع والدمار.