عن عمر يناهز 81 عاماً، ورحلة عطاء شعري وثقافي لافتة، رحل عن عالمنا، الأربعاء الماضي، الشاعر المصري أحمد عنتر مصطفى، بعد صراع مع المرض، وإصابته بغيبوبة مكث على أثرها عدة أيام في أحد المستشفيات بالقاهرة، مخلِّفاً حالة من الحزن والصدمة عمَّت الأوساط الثقافية، ولا يزال صداها ممتداً على مواقع التواصل الاجتماعي، في كثير من كلمات الرثاء لكتاب وشعراء ونقّاد، لا سيما أن رحيله تزامن مع رحيل الناقد الدكتور المصري محمد عبد المطلب، أحد النقاد البارزين الذين أولوا الشعر والتيارات الشعرية الجديدة اهتماماً خاصاً في مؤلفاتهم.
ونعت وزارة الثقافة المصرية، على لسان وزيرها، الدكتور أحمد هنو، الشاعر الراحل، وقالت في بيان لها: «إن الساحة الثقافية فقدت صوتاً شعرياً استثنائياً أثرى المكتبة العربية بإبداعاته ورؤيته المتفردة»، كما نعاه اتحاد كتاب مصر، في بيان مماثل. ووُصف رحيله بالخبر المؤلم والمحزن.
وُلِد أحمد عنتر مصطفى بمحافظة الجيزة عام 1944، وعمل باحثاً بإدارة النشر بالهيئة المصرية العامة للكتاب، ومديراً لمتحف أم كلثوم، وهو الموقع الذي استطاع من خلاله توثيق تراث «كوكب الشرق» بمنهجية دقيقة. كما كان من الوجوه البارزة في مؤسسات ثقافية مهمة، مثل عضويته لمجلس أمناء «بيت الشعر»، ومجلس إدارة «اتحاد الكتّاب المصريين»، وشارك في عدد من لجان المجلس الأعلى للثقافة، في مقدمتها لجنة الشعر.
وأسهم، خلال نصف قرن، في إثراء الحياة الثقافية من خلال نشاطه في الثقافة الجماهيرية، وتميَّز بإنتاج شعري ونقدي مهم يعكس قضايا الإنسان والوطن، ونُشِرت أعماله في صحف ومجلات مصرية وعربية.
كان الراحل أحد شعراء الستينات، وظل محافظاً على تمسكه بالقصيدة التفعيلية والعمودية، رغم ما شهدته الشعرية العربية على مدار حقبة السبعينات وما بعدها من تحولات كبيرة في مفهوم الشعر، وصوره، ولغته وإيقاعه، وما اكتنفها من جنوح نحو التجريب والمغامرة الإبداعية، في محاولة لاكتشاف أرض شعرية مغايرة وبكر، لكن عنتر ظل متمسكاً بأصالة الشكل الشعري الموروث، ومخلصاً له على مستويَي الشكل والمضمون. بهذه الروح كان صديقاً مقرباً من الشاعر الراحل أمل دنقل، وكذا الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، وأيضاً لشعراء تلك المرحلة، لكنه لم يَعِر الحركات التجديدية انتباهاً، رغبة في الحفاظ على هوية القصيدة العربية، وإيقاعها الموسيقي، وأغراضها الشعرية، كجزء من رؤيته في الحفاظ على الهوية العربية بشكل عام.
أصدر الراحل عدداً من الدواوين الشعرية، منها: «أغنيات دافئة على الجليد»، «حكاية المدائن المعلقة»، «أبجدية الموت والثورة»، «مأساة الوجه الثالث»، «مرايا الزمن المعتم»، و«الذي لا يموت أبداً». كما أصدر دواوين للأطفال، منها: «الوردة تسأل»، «فراشات الأسئلة»، و«فوضى الزمن الجميل»، وحاز على عدة جوائز مرموقة، أبرزها جائزة اتحاد الكتاب في التميُّز الشعري، وجائزة البابطين الكويتية عن ديوان «هكذا تكلم المتنبي».
وكان آخر احتفاء بالشاعر الراحل ومشروعه الإبداعي في منتصف أكتوبر الماضي، حين كرَّمته الهيئة العامة لقصور الثقافة في لقاء ثقافي وأدبي كبير نظّمته احتفاء به وبمنجزه الشعري ودوره الثقافي الثري، ضمن فعاليات برنامج «العودة إلى الجذور»، أحد برامج وزارة الثقافة لتكريم رموز الأدب والفكر في مصر. ناقش اللقاء المشروع الشعري والإبداعي للشاعر الراحل، مع استعراض أبرز محطات مسيرته الأدبية والإنسانية، وشهد قراءة تحليلية لملامح أعماله، بمشاركة مجموعة من النقاد والمبدعين.
عن المسار الشعري للشاعر الراحل، يقول الناقد الدكتور محمد عبد الباسط عيد: «ليس من السهل أن تشد أحمد عنتر مصطفى إلى تيار شعري أو جمالي بعينه، على نحو ما درجنا عليه في تصنيف الشعراء وتسكينهم في خانات الزمن؛ فهذا ستيني وذاك سبعيني… كما أنه ليس من السهل أن تنسبه إلى جماعة بعينها، رغم اقترابه من الجماعات الشعرية وعلاقته القوية بأعضائها، ومنهم الشعراء: رفعت سلام وحلمي سالم وأمجد ريان من جماعة (إضاءة 77) الشعرية».
يضيف عيد: «ظل أحمد عنتر مصطفى قريباً من كل موجات التحديث الجمالي أو التجريب الشعري، لكنه لم يندفع بكليته إلى عوالم التجريب وفتنته، وحافظ باستمرار على إرفاد قصيدته بروح عربية أصيلة، جعلتها مشدودة إلى آباء تاريخيين، وجماليات تجد مكانتها الراسخة في عقل القارئ العربي… فقد جمعت قصيدته بين الإخبار والإيحاء، وكان لديها دائماً ما تقوله، وظلَّت محتفظة بحيوية الشكل القديم (العمودي والتفعيلي)، ترفده بما يستجد من قيم وجماليات وتقدم جديدها باستمرار».
ويسرد الشاعر سمير درويش تاريخ علاقته مع الشاعر الراحل، التي امتدت لأكثر من أربعين عاماً، قائلاً: «التقيت الشاعر أحمد عنتر مصطفى عام 1981، وأنا طالب في الفرقة الثانية بكلية تجارة بنها، عرَّفني عليه شاعر العامية الراحل عمر نجم… كنت أعدُّ لندوة شعر في الكلية، فجاء نجم ومعه أحمد عنتر وعرفة الكيلاني، وشارك أيضاً الدكتور يسري العزب الذي كان معيداً وقتها في كلية آداب بنها -رحمهم الله جميعاً- إلى جانب شعراء الكلية».
ويكمل درويش: «تعددت لقاءاتنا وأحاديثنا وتشعَّبت. شاركنا معاً في أمسيات كثيرة بعد هذا اللقاء الأول، وسافرنا في عدة أماكن معاً، آخرها مشاركتنا معاً العام الماضي في مثل هذه الأيام بالضبط، في المهرجان الشعري السنوي الذي يقيمه بيت الشعر بالأقصر، ومعنا جمال القصاص وصلاح اللقاني وأحمد بخيت ومحمد عبد الوهاب السعيد ومسعود شومان، إلى جانب الشعراء الشباب. رحم الله أحمد عنتر مصطفى، وصبَّر أهله وأصدقاءه ومحبيه على فراقه».

