أكد شلل النظام الدولي وانعدام المعايير..
❖ حوار: حسن حاموش – هاجر بوغانمي
■ لمست لدى المسؤولين القطريين الاستعداد لدعم ومساعدة لبنان
■ ترحيب قطري واهتمام بعدد من الأفكار التي طرحتها في الدوحة
■ دور قطر في جهود الوساطة حاجة ملحة في ظل شلل المجتمع الدولي
■ الحرب على غزة تجاوزت مرحلة ازدواج المعايير إلى انعدام المعايير
■ لم نجد تضامنا عربيا وإسلاميا يعوض التضامن الغربي مع إسرائيل
■ سمح لإسرائيل ما لم يسمح لغيرها بالقتل والتدمير واستباحة كل القوانين
■ لهذه الأسباب غاب دور النخب والمثقفين العرب عن المشهد السياسي
■ وجدت اهتماما من الشيخة المياسة والوزيرات لمعرفة المساعدات المطلوبة
■ شكرت الوزيرة لولوة الخاطر على الدعم لإعادة تأهيل المكتبة الوطنية مرتين
■ مجلس الأمن في حالة شلل والنظام العالمي عاجز عن إيجاد حلول للحروب
وزير الثقافة اللبناني الدكتور غسان سلامة شخصية فكرية عالمية، مثّل الأمين العام للأمم المتحدة بكفاءة رفيعة في مهام دقيقة كان أبرزها قيامه بدور المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى ليبيا، كما عمل مستشاراً سياسياً لبعثة الأمم المتحدة في العراق عام 2003، حيث ساهم في إنشاء مجلس الحكم الانتقالي في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين. وشغل سلامة منصب وزير الثقافة عام 2000 وعمل الى جانب رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، وخلال تلك الفترة كلف بمهمة تنظيم قمة بيروت العربية التي عقدت في آذار 2002، وتبنى فيها العرب مبادرة ولي العهد السعودي آنذاك الأمير عبدالله للتطبيع مع إسرائيل مقابل انسحابها من الأراضي العربية وإنشاء دولة فلسطينية معترف بها دولياً على حدود 1967 وعودة اللاجئين، وهي المبادرة التي عرفت بـ»مبادرة السلام العربية» أو «الأرض مقابل السلام».
كما أشرف على تنظيم القمة الفرانكوفونية في لبنان في تشرين الأول 2002، وكان في كلتا القمتين رئيساً للهيئة التنظيمية وناطقا رسمياً. هذه السيرة الغنية والجامعة لشخصية فكرية تجمع الثقافة والدبلوماسية والسياسة تجعل الحوار معه شاملا ومعمقا وثريا حول الكثير من القضايا الراهنة والمستجدات الدولية والإقليمية وهز يدق ناقوس الخطر للواقع المذري الذي في المجتمع الدولي الذي تجاوز مرحلة ازدواجية المعايير الى مرحلة انعدام المعايير، حيث سمح لإسرائيل ان تستبيح كل الأعراف والقوانين والقيم الإنسانية فتقتل وتدمر وتشرد بلا حسيب او رقيب.
خصوصا ان النظام الدولي في مأزق غير مسبوق حيث مجلس الامن مصاب بالشلل ومؤسسات الأمم المتحدة تكاد تفقد دورها بدون أن تبدو في الأفق بارقة أمل. لكنه يستدرك ان هناك مبادرات وجهود وساطة أبرزها الجهود القطرية ويرى أن قطر طرقت كل الأبواب وما زالت تفعل ما تستطيع لوقف العدوان على غزة. أما على الصعيد الثقافي فإنه يرى ان الثقافة تستطيع ان تبني أفكارة مشتركة لمنع التطرف لكنها لا تنتج حلا سياسيا. لافتا الى ان ثورة الاتصالات والذكاء الاصطناعي قلبت المعادلة في المشهد الثقافي رأسا على عقب. الحوار مع وزير الثقافة اللبناني والدبلوماسي الأممي ثري بالقضايا الفكرية والسياسية والثقافية مع طروحات فلسفية جديرة بالقراءة والتمعن.
• المشاركة بمؤتمر الاستشراق
– شاركتم في أعمال المؤتمر الدولي للاستشراق الذي استضافته الدوحة أبريل الماضي تحت شعار “نحو تواصل حضاري متوازن”.. كيف تقيمون هذه المشاركة؟
الحقيقة، بسبب المواعيد لم يتح لي أن أحضر كل جلسات المؤتمر، لكن ما سمعته كان جيدا. كان مؤتمرا كبيرا حضره حوالي 600 شخص، ويطرح موضوعا قديما وجديدا في الوقت ذاته. قديم بمعنى أن موضوع مساجلة المستشرقين بدأت منذ زمن، وأخذت طابعا عالميا مع صدور كتاب إدوارد سعيد عام 1972، ولكن هناك استشراق جديد موجود في مؤسسات أخرى مثل مراكز البحوث واللوبيات والشركات التجارية العملاقة، ويتم إيصال أفكاره من خلال وسائل جديدة، يحمل أحيانا نفس الصور النمطية، ولكن يضيف إليها الصورة، والصورة تضيف الكثير للرسالة النصية، لذلك فإن فاعلية الاستشراق الجديد لا يستهان بها.
• مفاهيم الاستشراق
– هل نفهم من كلامكم أن مفاهيم الاستشراق تغيرت؟
المفاهيم لم تتغير بصورة أساسية لكن وسائل التعبير عن الاستشراق تنوعت لاسيما من خلال وسائل الاتصال الحديثة، وسبل التواصل أصبحت أوسع بكثير مما كانت عليه قبل أربعين عاما، والاستشراق ليس الوحيد الذي يستفيد من هذه الثورة الرقمية.
• الاستشراق السياسي
– ما أهمية أن يطرح هذا الموضوع الإشكالي اليوم في مؤتمر دولي تستضيفه دولة قطر؟
موضوع الاستشراق ما زال مفتوحا. ربما لديَّ رأي في هذا الموضوع، ولقد عبرت عنه في المؤتمر. الرأي الغالب أن هناك غربا مستشرقا ونحن مادة بحثهم وبالتالي إما عن سوء نية أو عن جهل هذا الاستشراق يكتب عنا أشياء لا يمكن أن نتقبلها وأعتبرها خاطئة أو مغرضة أو لها طابع السيطرة السياسية التي تختبئ وراء الدراسات الأكاديمية، ولقد عبر كثيرون في هذا المؤتمر كما عبر قبلهم كثيرون عن تأففنا وغضبنا من عدم دقة المستشرقين في عملهم، أو عدم موضوعيتهم في ما ينقلون، أو أحيانا في استعمال معرفتهم بالمنطقة لأهداف سياسية، هذا كلام بات كلاسيكيا عن الاستشراق ولا أجده جديدا. أعتقد أنه علينا أن نسبر أغوار هذه الظاهرة أكثر، ونضعها في السياق التاريخي الذي أنا مقتنع به، وآمل أني أقنعت بعض العاملين في هذا المجال، وأنه في كل مرحلة تاريخية تضعف أو تنهار فيها الأيديولوجيات الكبرى تحل مكانها ظاهرة الثقافوية ونحن في نهاية القرن العشرين خصوصا مع انتهاء الحرب الباردة ومع انفجار ظاهرة العولمة رأينا تماما ذلك. رأينا انهيارا لأيديوليوجيات القرن العشرين، وأعني بذلك الاشتراكية والشيوعية والقومية العنصرية على الطريقة الهتلرية.. عندما تهبط الأيديولوجيات يتغير السؤال الأساسي وهو: ما هو رأيك؟ ولقد شاهدنا في عدد كبير من النزاعات أنه داخل العائلة الواحدة قد تكون الثقافة المشتركة، ولكن في عصر الأيديولوجيات قد تكون الأفكار مختلفة داخل العائلة الواحدة. مثلا عندما انفجرت الثورة الأهلية اليونانية عام 1947 هناك دراسة قيمة جدا تشير إلى أن العائلات انقسمت قد يكون أخ إلى جانب الشيوعيين وأخ آخر إلى جانب الملكيين، وحدث نفس الشيء في الثورة الإسبانية الأهلية وفي أماكن أخرى كثيرة ولاسيما في الصين، إذا الانتماء إلى ثقافة واحدة لا يعني التشارك في نفس الأفكار بالضرورة، بينما الثقافوية أي المبالغة في إعطاء الثقافة دورا في تكوين الوعي السياسي تشير إلى شيء آخر وهو أن السؤال المهم ليس: ما هو رأيك؟ لكن السؤال: ما هو لون بشرتك؟ أو ما هو دينك؟ أو ما هو مذهبك؟ أو ما هو جنسك؟ أو ما هي مهنتك؟ لأن كل هذه العناصر تشكل هويتك وبالتالي أن أسير هذه الهوية وأفكارك ليست مهمة لأن السؤال المهم بالنسبة للثقافويين هو من أنت؟ وليس بماذا تفكر؟
• الفجوة الثقافية
– إذن نحن أمام فجوة ثقافية كبيرة مع رحيل زمن الأيديولوجيات؟
نحن دخلنا في عصر الثقافويين التي عبرت عن نفسها في عدة تعابير مثلا فكرة الإمبريالية الثقافية لم تكن موجودة، الاستشراق هو نفسه، والقول بصراع الحضارات أو بتحالفها أو حوارها هو أيضا تعبير ثقافوي لأنه يعتبر أن الحضارات حلت مكان الدول، وأصبحت تتصارع وتتصالح. أنا لا أعتقد أن الحضارات لاعب دولي، بل هي مخزن من القيم والذكريات والأفكار التي نعود إليها لنستقي منها جزءا من هويتنا. لذلك لم أسر في التيار الثقافوي رغم أني وزير الثقافة. أعتقد أن المبالغة في إعطاء الثقافة هذا الدور في تكوين أفكارنا أمر خطير لأنه يقلل من قدرة الفرد على اختيار أفكاره واختيار مواقفه.
• الرؤية والأيدولوجيا
– مع رحيل زمن الأيديولوجيات ظهر زمن الرؤية (vision).. فهل تجد أن الرؤية أصبحت بديلا للأيديولوجيا؟
الرؤى آتية إجمالا من الفكر الاقتصادي وليس الثقافي، هي البديل للخطة كان يقال الخطة الخمسية أو الخطة العشرية، وكلمة خطة ارتبطت كثيرا بالأنظمة الاشتراكية ومع أفول الاشتراكية ظهرت الرؤية.
• العلاقات القطرية اللبنانية
– كانت لكم لقاءات مع مسؤولين في دولة قطر في إطار هذه الزيارة.. حدِّثنا عن فحوى هذه اللقاءات؟
كوني وزيرا حاليا عليَّ أن ألتقي بمسؤولين في كل بلد أزوره. ومنذ أن تولت الحكومة اللبنانية الجديدة تسيير دواليب الدولة، انشغلنا بأمور كثيرة قد لا تكون لها علاقة بالثقافة، أحيانا الوزير هو عضو في الحكومة قبل أن يكون مستلما لحقيبة ما، وكان أمامنا عدد من القضايا الكبرى التي بدأنا مواجهتها لاسيما الانهيار المالي والاقتصادي، وموضوع الترتيبات الأمنية التي وافق عليها لبنان في شهر نوفمبر الماضي، لذلك لم أسافر خلال فترة وهذا ما لم يحدث معي سابقا.
• الدعم القطري للمؤسسات الثقافية
– سبقت زيارتك للدوحة زيارة قامت بها سعادة السيدة لولوة الخاطر للبنان، وقد جمعكم بها لقاء في بيروت.. هل كانت هناك رؤى مشتركة؟
بالتأكيد نحن نسعى لإعادة الثقة بلبنان مستقل وقادر على التعاون مع الدول الشقيقة والصديقة بما في ذلك مصلحته ومصلحة الطرف الآخر، لذلك رحبت بسعادة الوزيرة لولوة الخاطر في بيروت وشكرتها على المساعدة التي قدمتها قطر في إعادة تأهيل المكتبة الوطنية مرتين، المرة الأولى عندما تسلمناها، والمرة الثانية عندما تدمرت جزئيا جراء انفجار مرفأ بيروت وفي الحالتين قامت قطر بتقديم المساعدة، وشكرت سعادة الوزيرة على ذلك، ودعوتها للتفكير في قضايا أخرى يمكن لقطر أن تساعد فيها في مرحلة إعادة البناء التي نباشرها الآن في لبنان، ولقد وجدتها منفتحة كما وجدت المسؤولين الذين قابلتهم في الدوحة على نفس المستوى من الاستعداد والتفكير في مساعدة لبنان.
هناك ترحيب قطري واستماع واهتمام شديدين لعدد من الأفكار التي طرحتها على الإخوة في قطر.
• المشاريع المقترحة
– هل يمكن أن نعرف ما هي أبرز هذه الأفكار؟
لبنان بحاجة إلى أمور كثيرة. لدينا أماكن أثرية مهمة دمرتها الحرب مؤخرا أعطي مثالا على ذلك سوق النبطية القديم وهناك مناطق بحاجة إلى إعادة ترميم سريعة بسبب حالة التصدع التي أصابت عدداً من الأماكن الأثرية القديمة في مدينة طرابلس وهناك متاحف بدأنا ترميمها قبل الحرب، وتوقفنا في منتصف الطريق بسبب الانهيار المالي الذي أصاب الدولة. هناك عدد كبير من المجالات التي يمكن لبلد شقيق أن يساعدنا على إتمامها.هناك مشاريع كبيرة تحتاج إلى سنوات وهناك مشاريع أصغر قد تحتاج إلى أشهر أو سنوات قليلة.
• الدور القطري في لبنان
– كيف تنظرون لدور قطر تجاه لبنان؟
نحن أمام عدد من التحديات المهمة والكبيرة والتي يصعب على لبنان أن يواجهها بمفرده. نحن أمام انهيار مالي يجعل خزينتنا ضعيفة، واقتصادنا متأثر عمليا ثلث ما كان عليه قبل الانهيار المالي، وهذا أمر يتطلب عودة السياحة وعودة الاستثمار الخارجي، ويتطلب مساعدات عاجلة قبل البدء بعمليات الاستثمار، ولدينا بسبب الانهيار المالي انزلاق شريحة واسعة من الطبقة الوسطى إلى ما دون خط الفقر، وقطر قادرة على مساعدتنا في هذا المجال.
لدينا في المجال الدبلوماسي مناطق ما زالت محتلة من قبل إسرائيل وعمليات تقوم بها إسرائيل بين الحين والآخر رغم وجود القرار 1701 وترتيبات نوفمبر الماضي ونحن بحاجة إلى دعم دبلوماسي في القواسم الكبرى كما في المنظمات الدولية من قبل الدول الشقيقة وقطر يمكن أن تساعدنا اقتصاديا وتنمويا واستثماريا، ويمكن لها أن تساعد سياسيا ودبلوماسيا ونحن نتوقع ذلك من الدول الشقيقة وبالذات من قطر.
• قطر تدعم فلسطين بكل طاقتها
– كيف تنظرون لدور قطر فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية وموقفها الثابت تجاه هذه القضية المحورية؟
هو دور إيجابي بمعنى أن قطر سعت قدر وسعها كما سعت دول أخرى للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة، وبوقف الانتهاكات اليومية في الضفة لكن موضوع الصراع الإسرائيلي الفلسطيني موضوع كبير جدا، ومن سوء طالعنا ومن سوء طالع الفلسطينيين أننا أمام حكومة إسرائيلية صعبة المراس، حكومة يمينية متطرفة تضم عددا من الوزراء الذين يجاهرون بالرغبة في ضم الضفة وغزة وفي تهجير السكان الأصليين من البلاد ولذلك هناك تحد كبير أمام من يريد أن يتوسط لأن هذه التركيبة صعبة في التعامل معها. أعتقد أن قطر لم تترك وسيلة لمحاولة تطويق هذه الظاهرة المرعبة في تطرفها قدر الإمكان أو التوصل إلى اتفاقات جزئية لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرار وتوصيل المساعدات. لقد طرقت قطر كل هذه الأبواب وأعتقد أنها فعلت ما استطاعت لكن الواقعية تفرض علينا أن نعترف بأن القضية صعبة وأن إمكانيات التوصل إلى اتفاقيات ثابتة فيما يخص هذا النزاع لا تبدو لي ناضجة.
• عجز المجتمع الدولي
– هذا يقودنا إلى الحديث عن العجز الذي أصاب المجتمع الدولي خصوصا وأنتم لديكم تجربة عريقة مع المنظمة الأممية… ألا تعتقدون أن دور قطر جاء ليغطي جزءا من العجز الدولي، على الأقل أن يكون هناك مبعوث أممي لحل الأزمة؟
هناك مبعوث أممي لكن لا تسمع عنه ولا تعرف اسمه. يجب أن تخرج من المنطقة وتنظر إلى النظام العالمي بأسره. النظام العالمي في حالة شلل، وقد تكون حرب أوكرانيا أحد أسباب هذا الشلل الكبرى وربما أكبر من قضية الشرق الأوسط لأنها وضعت القوى الكبرى في مواجهة بعضها، وقد يكون اعتبار أمريكا أن الصين هي خصمها الأول في الساحة الدولية عنصر آخر يعطل عمل المنظمات الدولية، لذلك لديك مجلس أمن دولي مشلول عمليا بسبب الصراعات بين الدول الكبرى. ولديك منظمات دولية أضعف. مثلا منظمة الصحة العالمية قرر ترامب الخروج منها وهي منظمة كلنا بحاجة لها، وهناك خطر أن تخرج الولايات المتحدة الأمريكية من اليونسكو، وأمريكا لا تعترف بالمحكمة الجنائية الدولية، وإدارة ترامب فرضت مؤخرا عقوبات على العاملين في المحكمة الجنائية الدولية. أنا أعطيتك بعض الأمثلة لكن يمكن أن أستمر ساعة كاملة وأنا أقدم لك الأمثلة التي تشير إلى أشكال العطب الذي أصاب المنظمات الدولية.
• الدول الصغرى تدفع الثمن
– كيف السبيل للخروج من هذا المأزق الدولي؟
هذا الخروج لا يمكن أن يتم إلا من خلال علاقات مختلفة بين الدول الكبرى. مع احترامي للدول الأخرى لكن إذا بقيت العلاقة على ما هي عليه من انعدام الثقة، ومن التصادم، ومن الاختلاف المتكرر داخل مجلس الأمن وداخل المنظمات الأخرى بين الدول الكبرى فنحن ندفع الثمن أقصد الدول الصغرى ستدفع الثمن، ثم أعطيك مثلا آخر على ترهل النظام الدولي.
الموضوع لا يخص فقط الأمم المتحدة، فمثلا المساعدات الخارجية بسبب حرب أوكرانيا نحن رأينا أن عددا كبيرا من الدول العربية التي كانت تقدم مساعدات لأفريقيا وغيرها من الدول قد خفضت بصورة دراماتيكية من ميزانية العمل الخارجي وأزاحته بصناعتها العسكرية بسبب ما تعتبره خطرا عليها. مثلا بريطانيا خفضت مساعدتها الخارجية هذا العام بنسبة 40 %، وفرنسا خفضتها بنسبة 37 % وكل الدول الأوروبية خفضت مساعدتها باستثناء دولة واحدة هي النرويج التي أبقت عليها.
ماذا يعني ذلك؟ يعني أن محاربة الملاريا في أفريقيا، ومحاربة الإيدز، والجوع، والفقر في حالة خطرة. هناك منظمات مثل منظمة الغذاء الدولية أو برنامج الأغذية العالمي يحتاج إلى حوالي ثلاثة أضعاف ما تقدمه له الدول لأنها خفضت إسهاماتها في المنظمات الإنسانية. نحن في حالة صعبة للغاية على مستوى النظام الدولي. هي عملية عطل في التواصل والتفاعل والتفاعل بين الدول الكبرى ينسحب على الدول الأصغر كما ينسحب على المنظمات الدولية لكن العطب في علاقات زعماء الدول الكبرى.
• أزمة ازدواجية المعايير
شهدنا أزمة ازدواجية المعايير في التعامل مع الحرب على غزة… هل تعتقد أننا أمام أزمة مجتمع دولي في معايير التعامل مع النزاعات؟
ما قبل غزة غير ما بعد غزة، ففي هذه الحرب سمح لإسرائيل ما لم يسمح لأحد غيرها فهي تقتل، تدمر، تهجر، تشرد الناس، تستبيح كل شيء. وهذا لا نسميه ازدواج المعايير، هذا انعدام المعايير. نحن نشهد إزالة المعايير التي كانت سائدة في العالم لعقود، لا بل لقرون، وبذلك وضعت القوانين الدولية والأعراف الدولية في الثلاجة. ولكن توخيا للدقة نقول إننا لم نجد من الدول العربية والشعوب الشقيقة للشعب الفلسطيني ما كان يمكن أن نتوقعه من تضامن لكي نعوض هذا التساهل الغربي مع إسرائيل. ربما التساهل الغربي مع إسرائيل ليس جديدا لكن في السابق كنا نرى تضامنا عربيا وإسلاميا يعوض بعض الشيء هذا التساهل الغربي. وهذا مؤسف أننا لم نلمس هذا التضامن خلال الحرب المستمرة على غزة.
• التضامن الغربي مع فلسطين
– على الرغم من القصور العربي لكننا وجدنا تضامنا واسعا من الشعوب والطلبة في أمريكا وأوروبا.. فما رأيك بتأثير هذا التضامن؟
أنا عشت مدة طويلة من حياتي في الغرب أكثر من نصف عمري. وأنا فرح أن أرى بعض تلامذتتي في باريس ونيويورك يتظاهرون في الشوارع والجامعات ويقمعون ويطردون. ولكن هذا لا يكفي لنصرة فلسطين وغزة ولكنه مؤشر مهم على أن الضمير العالمي لم يمت خصوصا لدى فئة الشباب. وهذا الأمر على أهميته لم يشكل الضغط المطلوب على الحكومات الغربية لتغيير سياساتها. نحن نفرح بهذا التضامن الإنساني اللاديني وعرقي وطائفي. ونذكر أن الدولة الوحيدة التي وقفت بوجه إسرائيل هي جنوب أفريقيا التي لم تحركها وحدة البشرة ولا وحدة الدين ولا وحدة القومية. حركها فقط مشاعر رد الجميل للفلسطينيين من قبل شعب نيلسون مانديلا. وهذا يعني أنه ما زال في العالم ضمير حي يتحرك ويتفاعل ويعبر لكنه لم يتحول إلى قوة ضغط تؤثر في القرارات.
• غياب المثقفين النخب العربية
– في ظل هذا الواقع لابد من السؤال عن غياب النخب العربية والمثقفين العرب عن المشهد السياسي؟
كلمة المثقف فكرة جديدة وليست قديمة جاءت مع القرن العشرين لاسيما في أوروبا مع عصر الانوار جاء من يقول من له قدر من العلم والمعرفة أن لا يكتفي بكتابة الشعر والقصص ولكن أن يعبر عن رأيه في السياسة والنموذج الكبير الذي يعطى هو نموذج اميل ذولا الذي كان يكتب روايات ثم كتب كتابه الشهير وبدأت فكرة المثقف تنتشر وانتشرت في بلداننا أيضا ويمكن أن تعتبرني مثقفا ولكن شتان بين ما يسميه غرامشي المثقف العضوي الذي حاز بعض علم وبعض معرفة المثقف العضوي هاجسه الأول الالتصاق بالفئات الأكثر ضعفا أو تهميشا بينما رأينا أن جزءا من المثقفين كان هاجسهم التمايز عن عموم الناس. ولذلك فإن تحديد فكرة المثقف أصابها نوع من العطب لأن المثقف العضوي أصبح أقلية بينما أصبح لكل الناس رأي في كل شيء. وبذلك جاءت ثورة الاتصالات لتلغي الدور الذي كان يعتبر مميزا للمثقف لأن كل شخص بات يقول رأيه في كل شيء. ولم يعد لشريحة المثقفين تلك الميزة التي كانت موجودة قبل ثورة الاتصالات.
• الهجرة ليست سبباً للغياب
– لماذا لم يحافظ المثقفون العرب على هذا الدور؟ هل لأنهم هاجروا خارج أوطانهم ونأوا بأنفسهم عن المشهد والقضية العربية؟
ربما نعكس السؤال ونتساءل لماذا من بقي من المثقفين ولم يهاجر نأوا بأنفسهم؟ أما بالنسبة للذين هاجروا فلديهم أسباب موضوعية، على سبيل المثال أمين معلوف ومعه مليون ونصف المليون لبناني هاجروا بسبب الحرب الأهلية ولم يكن أمين معلوف آنذاك روائيا، كان صحفيا. ولذلك فإن الهجرة بحد ذاتها ليست سببا للنأي بالنفس لأن هناك كثيراً من المثقفين ما زالوا في أوطانهم لكننا لم نسمع صوتهم. بينما يمكنني أن أعطي أمثلة بالعشرات عن مثقفين هاجروا وازداد تعلقهم بقضايا أوطانهم، وأبدأ بإدوارد سعيد ومحمود درويش وغيرهما. أنا لا أعتقد أن البقاء في البلد هو معيار أساسي للالتزام بالقضايا الوطنية. لا، بل إن الهجرة قد تزيد من التعلق بالبلد والالتزام الوطني والقومي، فالهجرة ليست هجرة بالضرورة عن قضايا الوطن.
• المدخل الإلزامي للعمل السياسي
– في مرحلة السبعينيات والثمانينيات كانت الثقافة معبرا إلزاميا للعمل السياسي لكن الزمن تحول وأصبحنا نرى أن الميديا الحديثة أو السوشيال ميديا أصبحت معبرا رئيسيا للعمل السياسي؟
لقد غيَّرت ثورة الاتصالات والثورة داخل الثورة، أقصد الذكاء الاصطناعي، غيرت الكثير من الأمور. وقبل أسابيع أطلقت أسبوع المطالعة في لبنان فجاءني من يسأل عما إذا أجرينا استطلاعا حول نسبة الذين يطالعون ويقرأون في هذا الزمن. في حقيقة الأمر أكاد لا أجرؤ على إجراء هذا الاستفتاء لأني أعرف النتيجة مسبقا. أعتقد أن الكتاب بالذات هو منتج مهدد. وعلى الرغم من استمرار معارض الكتب وازدهارها لكني قلق من كثرة الإنتاج حيث أصبح كل شيء قابلا للطباعة والنشر بدون مراعاة للمعايير الفكرية للمحتوى. وأصبحنا أمام إنتاج غزير متدني المحتوى مع تدني نسبة المطالعة لدى جيل الشباب. وعلى سبيل المثال لديَّ تحدٍّ دائم لإقناع أحفادي بالقراءة ولو لمدة ربع ساعة في اليوم. بينما أبناء جيلي والأجيال السابقة كنا نلتهم الكتب التهاما من عمر السابعة. ثورة الاتصالات حولت الهاتف والجهاز اللوحي إلى مغناطيس فيه الإبهار البصري والسمعي وتمكنت من جذب الجميع في مختلف الأعمار. حتى أصبحت أفضل المطالعة السمعية على التصفح المباشر فأنا مشترك في إحدى المجلات العالمية منذ خمسين عاما لكن في السنوات الأخيرة أصبحت أسمعها ولا أقرأها.
• تراجع الثقافة والفنون
– يبدو أن التراجع لم يتوقف عند مطالعة الكتب بل وجدنا أن كل الأدوات الثقافية تراجعت الفنون والمسرح والنقد… فهل تخشى من هذا التراجع؟
أظن أن الذين هم أبناء جيلي يظنون أن أيامنا كانت أفضل. أنا لا أظن ذلك وأعطي مثالا عندما تركت الوزارة في الفترة السابقة قبل سنوات قررت الابتعاد عن السياسة والاهتمام بالثقافة لكني وجدت أن كل الأدوات الفنية والثقافية بحاجة إلى دعم وقررت مع مجموعة من الأصدقاء تأسيس صندوق خاص لدعم الفنون وأطلقناه عام 2007 وعملنا جاهدين وحصلنا على دعم جيد مما مكننا من حوالي 80 منحة للشباب المبدعين ويسعدني أنني لمست إنجازا باهرا لبعضهم حيث فازوا بجوائز عالمية في الأفلام الوثائقية وهناك سينمائيون أيضا حصلوا على جوائز من مهرجان كان وهناك آخرون حصلوا على جوائز في مهرجان أمستردام. وهذا دليل على أن الأرض ما زالت صالحة لإنبات المبدعين متى توفرت لهم البيئة المناسبة. في لبنان تعلمت شيئاً وهو لو نظرنا إلى واقع المجال الثقافي مقارنة مع المجالات الأخرى مثل المصارف والصناعة والزراعة وغيرها لوجدنا أن الثقافة بوضع أفضل. لأن الثقافة لا تتكل على الدولة وعلى سبيل المثال فيروز لم تصدر بمرسوم جمهوري أو حكومي والأخوان رحباني لم يعينا من قبل الدولة وكذلك وديع الصافي بوصفه ظاهرة فنية. وأيضا المهرجانات الفنية الكبرى والتاريخية في لبنان لم تأت بمراسيم حكومية إنما كانت مبادرات فردية أو من المجتمع المدني. بينما هناك قطاعات واسعة في لبنان انهارت مع الدولة بينما الثقافة لم تنْهَر ربما ينقصنا الكثير نحن بحاجة إلى أوبرا، بحاجة إلى ترميم المسرح الكبير في لبنان لا يوجد مسرح وطني ولا يوجد دار نشر للدولة. وأجزم أن الثقافة لو كانت مرتبطة مباشرة بالدولة لانهارت معها. ولذلك أعتقد أن التجربة اللبنانية تشكل أمثولة قد يستفاد منها.
• القواسم المشتركة بين الناس
– أود التطرق إلى نقطة تتعلق بالبرامج والمبادرات التي تهدف إلى خلق بيئة ثقافية تستوعب الناس وتجمعهم على القواسم المشتركة… فهل لديكم مثل هذه المبادرات؟
من المؤكد أننا بحاجة إلى مبادرات لأنني أؤمن بدور الثقافة بجمع الناس على المشترك من القيم الإنسانية، هناك بلدان كثيرة بحاجة إلى إعادة بناء الهوية الوطنية عبر الساحة الثقافية مثل لبنان وسوريا والعراق والسودان وغيرها لأن الحروب والنزاعات مزقت الهوية الوطنية وبالتالي يجب إعادة بنائها.
– لماذا لا يكون هناك مبادرات ثقافية تجمع النخب والمثقفين من مختلف الأحزاب للتحاور ومناقشة القضايا المطروحة؟
أول قرار اتخذته بعد تسلُّمِي الوزارة بتحويل المكتبة الوطنية في بيروت إلى مركز ثقافي يحتضن جلسات حوارية مفتوحة بين المثقفين. لكن لا يمكننا المبالغة بدور الثقافة، فالثقافة وحدها لا تصنع حلا للمشاكل والأزمات السياسية والاقتصادية وعلى سبيل المثال المشكلة بين المصارف والمودعين هذه لا تحل بحوار ثقافي بل بتشريع يصدر عن مجلس النواب ويأخذ بعين الاعتبار حقوق المودعين وتوزيع الخسائر بطريقة عادلة. لكن الثقافة تصنع حلا لبناء الأفكار المشتركة والقيم المشتركة بما يحول دون انزلاق الناس إلى التطرف.
– من خلال خبرتك في العمل الدبلوماسي لحل الأزمات ألا تعتقد أن بوصلة الأولويات في لبنان تخضع لأجندة كل طرف؟
ربما تكون هذه هي المرة الأولى التي تمتلك فيها الحكومة أولويات واضحة وهي ثلاثة أولها تطبيق القرار الدولي 1701 على كامل الأراضي اللبنانية وهذا يقتضي عملا يوميا مع الأشقاء والأصدقاء وثانيها الخروج بقطاع مصرفي متعافٍ أما الأولوية الثالثة فهي إعادة الإعمار لأن الحرب على لبنان أحدثت دمارا واسعا يتطلب ما يقارب 14 مليار دولار لإعادة الإعمار. هذه هي أولويات، أما ما يطرح عبر السوشيال ميديا فهو للاستهلاك السياسي. ورغم اعتذاري عن عدم المشاركة في كثير من الحكومات السابقة فقد وافقت على انضمامي لهذه الحكومة بسبب وضوح الأولويات.
• اهتمام الشيخة المياسة
– هل هذه الأفكار تمت مناقشتها مع سعادة الشيخة المياسة بنت حمد آل ثاني، رئيس مجلس أمناء متاحف قطر، خلال لقائكم بها في الدوحة؟
صحيح، لقد عقدنا اجتماعا مطولا مع سعادة الشيخة المياسة بحضور سعادة مريم بنت علي بن ناصر المسند، وزيرة الدولة للتعاون الدولي، وسعادة السيدة لولوة بنت راشد بن محمد الخاطر وزيرة التربية والتعليم والتعليم العالي، وكان نقاشا واسعا، ووجدت من قبل سعادة الشيخة المياسة والوزيرات الموجودات اهتماما حقيقيا بمعرفة ما لدينا من مشاكل وما يمكن لقطر أن تساعد في حلها.
• مخاطر الحروب والنزاعات
– هل معنى ذلك أن الأفق محدود؟
الرئيس الأمريكي ترامب يقول إنه يريد بناء علاقات طيبة مع روسيا، وأن التعريفات الجمركية الهائلة التي فرضها على المنتجات الصينية مستعد لإعادة النظر فيها لكننا لم نرَ شيئا.
في هذا الوقت هناك مخاطر حروب ونزاعات لا تتوقف بل تزداد بسبب تعطل النظام الدولي، هناك خطر حرب إسرائيلية ضد إيران، وهناك حرب جارية حاليا بين رواندا والكونجو.
أنا أعطيك أمثلة أنه عندما يتعطل قلب النظام الدولي وهو مجلس الأمن الدولي ونادي الدول الكبرى فإن تداعياته تراها في كل مكان حتى في قرية كونجولية نائية.