بيروت – قنا
بعد الدمار الكبير الذي خلفته الحرب الإسرائيلية على لبنان، يترقب اللبنانيون على المستويين الرسمي والشعبي على حد سواء بدء مرحلة إعادة الإعمار. وقد قدر البنك الدولي احتياجات التعافي وإعادة الإعمار بنحو 11 مليار دولار أمريكي، وسط تساؤلات حول قدرة الدولة والمجتمع الدولي على الاستجابة لهذا التحدي الكبير.
وفي أحدث المستجدات، كشف الرئيس اللبناني العماد جوزاف عون عن انتظار موافقة مجلس النواب على قرض بقيمة 250 مليون دولار مخصص لإعادة الإعمار، فيما أعرب صندوق التنمية العربية عن استعداده للمساهمة بمبلغ يصل إلى 120 مليون دولار في الصندوق التأسيسي للبنك الدولي، الذي يبلغ سقفه نحو مليار دولار.
وفي هذا الإطار، شكلت رسالة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بارقة أمل، معلنا عن تنظيم مؤتمرين لدعم لبنان، الأول للجيش اللبناني، والثاني للنهوض بالبلاد وإعادة إعمارها، في إشارة إلى تزايد الاهتمام الدولي بملف إعادة البناء في لبنان.
ويشير مراقبون إلى أن مؤتمري الدعم يمثلان فرصة حقيقية للبنان لاستعادة الاستقرار، لكن نجاحهما مرتبط بقدرة الدولة على ضمان الشفافية، سرعة الموافقات الداخلية، والاستفادة الفعلية من التمويل. حيث تحمل هذه المبادرات دلالات سياسية رمزية، إذ يبرز دعم الجيش أولا كمفتاح لاستقرار البلاد، قبل الشروع في مشاريع الإعمار الكبرى.
وتعكس هذه الخطوة أيضا تزايد الاهتمام الدولي بملف لبنان، في ظل حاجة البلاد الماسة إلى إعادة البناء وتحقيق التنمية المستدامة بعد سنوات من الأزمات والصراعات.
ويرتبط تمويل إعادة الإعمار في لبنان بشكل وثيق بقضية حصر السلاح بيد الدولة، رغم تعهد الحكومة بالبدء في مشاريع إعادة البناء. وأكد رئيس الوزراء اللبناني نواف سلام أن العودة إلى المناطق المدمرة في جنوب لبنان والإعمار هما توأمان لا ينفصلان، مشددا على أن هذا التزام ثابت له وللحكومة.
وأوضح سلام أن ما كان ينتظر من مساعدات لإعادة الإعمار قد تأخر لأسباب لم تعد خافية على أحد، لكنه شدد على أن ذلك لن يثنيه عن الاستمرار في السعي الدؤوب مع الأشقاء والأصدقاء لعقد مؤتمر دولي يهدف إلى تأمين التمويل اللازم لإعادة الإعمار وضمان العودة الآمنة والمستدامة لأهالي القرى والبلدات الجنوبية المدمرة.
وأضاف: كونوا على ثقة أن الحكومة مصرة على التمسك بحق كل اللبنانيين، ولا سيما أبناء الجنوب والبقاع والضاحية، بالعودة الكريمة إلى بيوتهم ومنازلهم وإعادة إعمارها، وهي تعتبر أن حق العودة والإعمار هذا ليس منة من أحد، بل هو التزام وطني.
وفي هذا السياق، رأى الباحث الاقتصادي العميد الدكتور غازي محمود في تصريح خاص لوكالة الأنباء القطرية ” قنا” ، أن العائق الأساسي أمام انعقاد مؤتمر لإعادة الإعمار في لبنان هو التزام لبنان بالشروط التي وضعها المجتمع الدولي خاصة بعد وقف إطلاق النار في نوفمبر الماضي 2024، وهي الالتزام بالقرار الأممي 1701 وحصر السلاح بيد الدولة.
وأشار إلى أن مؤتمر سيدر الذي عقد في باريس عام 2018 لدعم الاقتصاد اللبناني المأزوم عبر تعهدات مالية وقروض ميسرة بقيمة 11 مليار دولار، بقي حبرا على ورق بسبب غياب الإصلاحات الجدية حيث كان يتطلب إجراء إصلاحات مالية للحد من العجز والدين العام، إلى جانب مكافحة الفساد وتحسين الحوكمة وتطوير البنية التحتية (كهرباء، مياه، طرقات…) إضافة إلى تفعيل الشراكة مع القطاع الخاص.
وأكد على أن الشروط كانت إصلاحات سياسية وإدارية آنذاك وهو ما لم يلتزم به لبنان وأدى إلى ضياع الفرصة في الحصول على الأموال بعد مؤتمر سيدر، في حين نحن اليوم أمام شروط إضافية في ملف إعادة الإعمار حاليا، لها طابع أمني وعسكري مع دخول المنطقة مناخ جديد مع قمة شرم الشيخ وفي مقدمة هذه الشروط حصر السلاح بيد الدولة.
كما لفت إلى أهمية الإصلاح الإداري في لبنان بعيدا عن الفساد والمحسوبيات من أجل إدارة ملف إعادة الإعمار بنزاهة وشفافية.
بدوره، رأى الدكتور محمد فحيلي الباحث الاقتصادي وخبير المخاطر المصرفية في تصريح مماثل لوكالة الأنباء القطرية /قنا/، أن تمويل إعادة الإعمار يتطلب مقاربة واضحة من قبل السلطة السياسية ترتكز على إدراج الأولوية لإعادة الإعمار كالمستشفيات وأبنية الدولة والبنية التحتية والأماكن الزراعية والمصانع.
وأعرب عن اعتقاده أن أي دولة صديقة للبنان ستساهم دون شروط في إعادة إعمار المرافق الطبية والصحية والأراضي الزراعية والمصانع، ولكن تكمن المشكلة في سياق إعادة إعمار الأملاك الخاصة.
وأشار إلى أن تمويل إعادة الإعمار في لبنان له علاقة بالملف السياسي وتحديدا في ضرورة حصر السلاح بيد الدولة وهو شرط بارز لدى الأسرة الدولية.. مؤكدا على أن المقاربة ترتكز على الأولوية بالتمويل للبنى المؤسساتية والخدماتية أي لما هو لمصلحة لبنان كدولة قانون ومؤسسات وليس لأجل فريق سياسي محدد.
وأشار إلى التعثر المالي والائتماني في لبنان حيث تم وضعه على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي وعلى اللائحة السوداء للاتحاد الأوروبي، مؤكدا على ضرورة حل لبنان لأزماته المالية والاقتصادية التي تقف عائقا إضافيا في سياق إعادة الإعمار.
ورأى أن المؤتمرات الدولية تندرج في سياق الدبلوماسية اللبقة، منوها بأن ذلك لا يخرج عن إطار التعامل الفرنسي تاريخيا مع لبنان، مشيدا بوقوف الأسرة الدولية إلى جانب لبنان لدعمه إنسانيا.
وقدر البنك الدولي في تقرير له صدر مؤخرا احتياجات إعادة الإعمار والتعافي في أعقاب الصراع الذي شهده لبنان بنحو 11 مليار دولار أمريكي، موضحا أن “هناك حاجة إلى تمويل بنحو 3 إلى 5 مليارات دولار أمريكي من قبل القطاع العام، منها مليار دولار أمريكي لقطاعات البنية التحتية (الطاقة، والخدمات البلدية والعامة، والنقل، والمياه والصرف الصحي والري). في حين سيكون هناك حاجة إلى تمويل من القطاع الخاص بنحو 6 إلى 8 مليارات دولار أمريكي، يكون معظمه موجها إلى قطاعات الإسكان، والتجارة، والصناعة، والسياحة”.
وتقدر التكلفة الاقتصادية للصراع في لبنان بنحو 14 مليار دولار أمريكي، حيث بلغت الأضرار التي لحقت بالمقومات المادية نحو 6.8 مليار دولار أمريكي، فيما بلغت الخسائر الاقتصادية الناجمة عن انخفاض الإنتاجية، والإيرادات الضائعة، وتكاليف التشغيل نحو 7.2 مليار دولار أمريكي”.
ولفت التقرير إلى أن قطاع الإسكان هو الأكثر تضررا، حيث تقدر الأضرار فيه بنحو 4.6 مليار دولار أمريكي. كما تأثرت قطاعات التجارة، والصناعة، والسياحة بشكل كبير، وقدرت الخسائر فيها بنحو 3.4 مليار دولار أمريكي في جميع أنحاء البلاد.
ومن ناحية الاقتصاد الكلي، أوضح البنك الدولي أن “الصراع أدى إلى انكماش إجمالي الناتج المحلي الحقيقي للبنان بنسبة 7.1% في عام 2024، وهي انتكاسة كبيرة مقارنة بنسبة النمو المقدرة بنحو 0.9 % في حال عدم حصول الصراع. ومع نهاية عام 2024، لامس الانخفاض التراكمي في إجمالي الناتج المحلي للبنان منذ عام 2019 الـ 40%، مما يؤدي إلى تفاقم آثار الركود الاقتصادي متعدد الجوانب، ناهيك عن الآثار السلبية على آفاق النمو الاقتصادي في البلاد”.