أثارت إدانة مارين لوبن، زعيمة رئيسة حزب «التجمّع الوطني» اليميني المتطرف، في قضية الوظائف الوهمية، اضطراباً كبيراً في المشهد السياسي الفرنسي بين مؤيد لقرار العدالة الفرنسية ومعارض لها. وأيضاً فتحت باب النقاش حول مستقبل أقوى قوى اليمين المتطرف وزعيمته التاريخية التي ستمنع – ما لم تتمكن من إلغائه بقرار قضائي جديد – من تقديم ترشّحها لأي منصب سياسي لمدة خمس سنوات؛ وهو ما يعني القضاء على طموحها في خلافة الرئيس إيمانويل ماكرون في 2027. أضف إلى ذلك أن هذا الإبعاد قد يعني أيضاً إضعاف هيمنة «آل لوبن»، الذين سيطروا على المناصب الريادية في ثاني أهم تشكيل سياسي فرنسي منذ أسسه جان ماري لوبن (والد مارين) عام 1972، والاحتمال الآخر هو أن تتحول المتاعب القضائية حجّة مثالية للعب دور «الشهيد السياسي» وحشد التأييد والفوز بالانتخابات. وللعلم، بيّنت دراسة أخيرة لاستطلاع الرأي من معهد «إيلاب» أن لوبن تبقى الأوفر حظاً في الفوز بالجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية المقبلة.
في مقال بعنوان «مارين لوبن تُدان في قضية البرلمانيين الأوروبيين، بماذا يتهمها القضاء الفرنسي؟» وصفت صحيفة «لوموند» القضية التي تهدّد بالقضاء على المستقبل السياسي لزعيمة حزب «التجمّع الوطني» اليميني المتطرف بأنها من أهم قضايا الفساد المالي التي تورّط فيها سياسيون فرنسيون على الإطلاق. فالقضية امتدت لأكثر من 20 سنة (بين 2004 و2016)، وبدأت مع زعيم الحزب السابق (المتوفى) جان ماري لوبن الذي لجأ إلى التحايل المالي، واستمرت مع ابنته مارين إثر تسلمها زعامة الحزب عام 2011.
ولقد أفضت تحقيقات القضاء الفرنسي إلى الكشف عن شبكة معقَّدة من التوظيف الوهمي للمساعدين البرلمانيين، كما وصل فيها مقدار الأموال المُختلسة إلى أربعة ملايين ونصف المليون يورو، وعدد المتورطين إلى 12 شخصاً كانوا يتقاضون رواتبهم من البرلمان الأوروبي بينما كانوا يعملون لصالح الحزب اليميني المتطرف؛ وهو ما يعدّ جناية يعاقب عليها القانون الفرنسي.
القضاء الفرنسي عدَّ أن دور مارين لوبن في هذه القضية كان مركزياً؛ لأنها شجَّعت هذه الممارسات، بل أجبرت بعض مساعديها على تبنّيها بحجّة التصّدي للعجز المالي الذي كان يعاني منه الحزب. حيث نقرأ مثلاً في تقرير «المكتب الأوروبي لمكافحة التحايل» الذي تولى التحقيقات أن لوبن كانت توظّف رسمياً حارسها الشخصي ومديرة أعمالها على أساس أنهما مساعدان برلمانيان بينما كانا يعملان فعلياً في مقر الحزب بضاحية نانتير قرب باريس.
المساعدة، بالذات، لم تُمضِ داخل البرلمان الأوروبي، حسب تحقيقات «المكتب»، سوى 12 ساعة… وكان كل عملها في مقر الحزب. كذلك، كشفت المراسلات التي قدمها المدعي العام في جلسات المرافعة عن أن لوبن كانت على دراية تامة بأن هذه الممارسات غير قانونية، لكنها تجاهلت تحذيرات مسؤولي المحاسبة والمالية.
معركة آيديولوجية وهجوم على القضاة…
ولكن، في الولايات المتحدة وإيطاليا ورومانيا، وفّرت قرارات إدانة سياسيين تورّطوا في قضايا فساد مالي فرصة ذهبية لعكس الأوضاع وتقمُّص الجاني دور الضحية. وحصل هذا عبر الهجوم على القضاة باعتبارهم امتداداً «للنظام الفاسد»، وطرفاً في «المؤامرة» التي تحاك ضدّهم. وهذا، بالضبط، ما حاول معسكر لوبن فعله بعد صدور قرار الإدانة. إذ فتح معركة «آراء» لمحاولة إقناع الفرنسيين بأن الحكم الذي صدر في حق زعيمتهم «ضربة للمبادئ الديمقراطية» و«استهداف» لأحد أكثر التشكيلات السياسية شعبية في فرنسا.
وحقاً دعا معسكر لوبن إلى تجمّع في 6 من أبريل (نيسان) الحالي للتنديد بقرار العدالة الفرنسية، لم يحضره، حسب أرقام الصحافة الفرنسية، سوى 5000 شخص. وفي الخطاب الذي ألقته خلال هذا التجمع قالت الزعيمة المتطرفة إن «حزبها لا يطالب بأن يكون فوق القانون، لكنه لا يريد أن يكون تحت القانون أيضاً». واعتبرت أن الحكم القضائي الذي صدر ضدها كان «مُسيساً» ويستهدفها بشكل خاص، مضيفة: «الهدف الوحيد للقضاء هو منعي من تمثيل حزبي في الرئاسيات… على المرء أن يكون أعمى وأصّم حتى لا يفهم ذلك».
الإعلام لم يقتنع بموقف لوبن
استراتيجية الهجوم على القضاء الفرنسي وتقمّص دور الضحية لم يثمرا أمام وسائل الإعلام الفرنسي التي هاجمت لوبن واتهمتها «بالنفاق» والتهرب من المسؤولية، وبالأخص بعدما كُشف عن تسجيلات ولقاءات صحافية قديمة تبدو فيها وهي تدعو إلى التعامل «بحزم» و«صرامة» مع السياسيين المخالفين للقانون «ليس فقط بالإبعاد السياسي لبضع سنوات، بل بالإبعاد السياسي نهائياً».
ففي لقاء تلفزيوني من عام 2013 علّقت على قضية الفساد المالي التي تورط فيها جيروم كازوياك، الوزير الاشتراكي السابق، قائلة: «سمعت رئيس الحكومة وهو يصرّح بأنه يجب تطبيق الإبعاد السياسي على كل من أُدين في قضية التهرب الضريبي حقاً؟ ولِمَ لا الوظائف الوهمية؟ نعم… ولِمَ لا؟ كل الأحزاب السياسية متورّطة في قضايا اختلاس ما عدا حزب الجبهة الشعبية (الاسم القديم للتجمّع الوطني). الفرنسيون سئموا من هذه الممارسات والمطلوب المعاقبة بحزم».
تعليقات منتقدة
التعليقات التي أعقبت ظهور هذا الأرشيف شملت هجوماً على لوبن التي تنادي بتطبيق القانون، لكنها ترفضه حين يتعلق الأمر بها وبحزبها السياسي. إذ وصف الوزير اليميني السابق كازفي برتران موقف مارين لوبن «بمسرحية النفاق الكبيرة»، مردفاً: «لتكفّ عن تقمُّص دور الضحية، وكأن التجمع الوطني لا يملك سوى مرشح واحد؟ عندهم مرشح ثانٍ اسمه جوردان بارديلا وهو ينتظر الترشح منذ مدة».
وركّز آخرون على علاقة اليمين المتطرف بـ«المجموعة الأوروبية»، مذكّرين بأن زعماء هذا التيار كانوا أكثر من هاجم الاتحاد الأوروبي ومؤسساته، لكنهم لم يترددوا في التحايل عليه لاستغلال دعمه المالي. ونشرت صحيفة «ليبراسيون» ما يلي: «المرأة التي لطالما بصقت على الاتحاد الأوروبي، كانت تستغله بشكل واسع لخدمة أغراضها الشخصية. إنه نفاق واستهزاء وتعّدٍ على القانون في آن واحد».
دعم الشعبويين المحافظين
ولئن كانت أحزاب اليسار واليمين قد اتفقت على احترام استقلالية السلطة القضائية وتجنب انتقاد قرارتها، فإن تشكيلات اليمين المتطرف الأخرى ساندت لوبن بمهاجمة قرار القضاء، منهم زعيم حركة «روكونكيت» إيريك زمّور، الذي كتب على منصة «إكس» ما يلي: «ليس من مهام القضاة إقرار مَن هو أهل للترشح في الانتخابات ومن ليس أهلاً»، مندّداً بما وصفه بـ«السلطة المُفرطة للقضاة».
أما خارج فرنسا، فكان لافتاً الدعم الذي حظيت به لوبن من قيادات أجنبية قريبة من التيارات الشعبوية المحافظة كالرئيس الأميركي دونالد ترمب الذي صرّح في منصّته الخاصة «تروث سوشيال» بما يلي: «أطلقوا سراح مارين لوبن… لقد تكبّدت الكثير من الهزائم، والآن وقد اقتربت من الفوز يحاولون النيل منها بسبب تهمة بسيطة… إنها مطاردة الساحرات…». وكذلك فعل نائبه جي دي فانس الذي اعتبر أن ما حدث للوبن في فرنسا «لا يتوافق مع أعراف الديمقراطية». وأيضاً رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان الذي كتب: «أنا مارين» على منصة «إكس» تضامناً معها. أما الكرملين، فقد استنكر قرار المحكمة وعدّه «انتهاكاً للمعايير الديمقراطية».
المستقبل مع لوبن… أم في غيابها؟
بنسب نوايا تصويت تتراوح ما بين 32 و49 في المائة في الرئاسيات المقبلة تبدو حظوظ حزب «التجمّع الوطني» في الترشح للدور الثاني، بل والفوز بالرئاسيات قوية. ولذا؛ فإن المحيط المقرَّب لمارين لوبن لا يزال متشبثاً بتقديم ترشحها للرئاسيات رغم المصاعب القضائية. فهي الزعيمة التاريخية التي تعلمت السياسة منذ الصغر على يد والدها مؤسّس الحزب وأول من قاد اليمين المتطرف إلى الدور الثاني في الانتخابات الرئاسية عام 2002.
ثم منذ تسلُّم مارين زعامة الحزب عام 2011، حرصت على تلميع صورة الحزب، مستغلة تراجع اليسار وفشله باستقطاب الطبقات العاملة وسكان الأرياف، كما تقرّبت مع يهود فرنسا لكسب أصواتهم، ولم تتردد في إقصاء والدها من المكتب السياسي للحزب عام 2015 بسبب تصريحاته «المعادية للسامية» وشخصيته المثيرة للجدل.
وفعلاً، دراسات عديدة سجّلت تحسُّناً لصورة «التجمّع الوطني» منذ انتقال الزعامة من جان ماري لوبن إلى ابنته. أيضاً أحكمت الابنة قبضتها على كل أجهزة الحزب بعدما وضعت أفراد عائلتها وأصدقاءها في المناصب الاستراتيجية. ولقد كتب لوك روبون، الباحث في معهد «سيانس بو» للعلوم السياسية، على صفحات جريدة «لوبنيون» في موضوع بعنوان «تابوه خطّة بارديلا للسباق الرئاسي» ما يلي: «لو كان حزب التجمع حزباً عادياً، لانسحبت مارين لوبن فوراً ليجري تنظيم الانتخابات حول جوردان بارديلا، لكنه حزب «تراثي» ورثته البنت عن والدها، وكل أعضائه يدينون بالولاء الشخصي لمارين لوبن، وكل محاولات الابتعاد أو التمرد تنتهي بالإقصاء. وأكبر مثال المصير الذي لقّيه برونو ميغريه، النائب السابق لجان ماري لوبن، الذي حاول الاستحواذ على زعامة الحزب عام 1999 فأقصي منه نهائياً وانتهى باعتزال النشاط السياسي، أو فلوريان فيليبو أحد أقرب المقربّين لمارين لوبن، لكنه أيضاً أقصي من «التجمّع» عام 2017 بعدما حاول الترشح لزعامة الحزب.
التعلّق بأمل الترشح…
في أي حال، تبقى آمال ترشح لوبن معلقة على نتائج الطعن الذي قدمته للعدالة، والذي قد يفضي إذا نجح إلى التبرئة أو تقليص مدة الابعاد السياسي إلى سنتين؛ ما سيسمح لها بخوض الانتخابات قبل ستة أشهر من تنظيمها. وهنا يستشهد مناصرو لوبن بوضع رئيس الوزراء الحالي فرنسوا بايرو، الذي كان قد اتهم أيضاً بقضية وظائف وهمية لمساعدين برلمانيين أوروبيين بين 2005 و2017، لكنه حصّل على البراءة في جلسة الطعن على أساس قاعدة «تفسير الشّك لمصلحة المتهم» وهو الآن يشغل منصب رئيس الوزراء وكأن شيئاً لم يكن.
إبعاد لوبن… إضعاف للحزب أم هبة من السماء؟
> على الرغم من شعبية مارين لوبن، ثمة أصوات كثيرة داخل حزب «التجمّع الوطني» بدأت تعبر عن قلقها من استراتيجية «إنكار الواقع» التي تتبعها الزعيمة التاريخية على مستقبل الحزب اليميني المتطرف، خاصةً أن «سيناريو» ترشحها للسّباق الرئاسي عام 2027 بات مستبعداً بسبب صلابة الأدلة التي تدينها، والتي لا تدع مجالاً للأمل في نتائج الطعن. وأيضاً هناك التداعيات السلبية لقضية التحايل المالي، فمنذ خبر إدانتها اهتزت صورة الزعيمة اليمينية المتطرفة لدى الرأي العام. ولقد نشرت صحيفة «ويست فرانس» استطلاعاً للرأي تبّين من خلاله بأن 64 في المائة من الفرنسيين (أي أكثر من النصف) موافقون على تطبيق عقوبة الإبعاد السياسي على السياسيين المتورطين في قضايا فساد، و53 في المائة منهم يعتبر أن القضاء الفرنسي عامل لوبن كأي شخصية أخرى دون أي نوع من أنواع الإجحاف أو الظلم. والأهم أن الاستطلاع نفسه كشف عن أن 66 في المائة من الفرنسيين يرون أن إقصاء لوبن عن تمثيل «التجمّع الوطني» في الانتخابات الرئاسية المنتظر تنظيمها في 2027 لن يشكل عائقاً… «بل قد يكون إيجابياً على مستقبل وصورة الحزب». للتذكير، القضاء الفرنسي كان قد أصدر بحق لوبن أواخر مارس (آذار) الماضي حكماً بالسجن لأربعة سنوات، منها سنتان نافذتان، والإبعاد السياسي لمدة خمس سنوات، وغرامة مالية تقدر بـ100 ألف يورو في قضية تتعلق بالاحتيال المالي والتلاعب في توظيف مساعدين برلمانين مع تزوير أوراق رسمية. هذه الأجواء خلقت انقسامات داخل «التجمّع» بين فريق مصرّ على ولائه للوبن، وآخر يطالب بالإسراع في تحضير جوردان بارديلا للانتخابات، والاستثمار في التعاطف الذي قد يثيره إقصاء الزعيمة اليمينية من الترشح، فالفرصة قد تكون «ذهبية» شرط استغلالها بسرعة قبل أن تضعف موجة التعاطف. وهذا أيضاً ما رأته مجلة «دير شبيغل» الألمانية التي اعتبرت أن أسوأ طريقة للتخلص من خطر اليمين المتطرف هو منع زعيمته من الترشح، وذهبت أبعد لتقول إن ما حدث للوبن في فرنسا «هبة من السماء» لليمين المتطرف سيستغلها معسكرها للتنديد بـ«المؤامرة السياسية القضائية» وحشد التعاطف.
“);
googletag.cmd.push(function() { googletag.display(‘div-gpt-ad-3341368-4’); });
}