في عام 2019، افتتحت جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (كاوست) مركزاً للبحوث في حرم الجامعة في ثول، يهدف لدعم البحوث المتعلقة بالزراعة المحلية والإقليمية، وترجمتها إلى حلول حقيقية تعود بالنفع لمنطقة دول مجلس التعاون الخليجي وما بعدها.
زراعة صحراوية
ويدعم مركز الزراعة الصحراوية (CDA) البحوث التي تعنى بوضع حلول للمشكلات العالمية المتعلقة بتوفير الغذاء، والذي يعتبر أحد مجالات بحوث الجامعة الاستراتيجية الأربعة، والتي منها الماء والطاقة والبيئة.
ويمثل المركز المرحلة التالية في تطوير «كاوست» لقوة بحثية طويلة الأمد؛ خصوصاً في هذا التوقيت الذي يتطلب وضع حلول لكثير من التحديات الرئيسية التي تواجه المجتمعات، كتوفير الأمن الغذائي. كما يعد امتداداً لتراث الجامعة من البحوث الرائدة والمؤثرة في مجموعة من المجالات ذات الصلة بالزراعة الصحراوية، وبيولوجيا النباتات، وجينوم النباتات، وبحوث الميكروبات، ومكافحة الآفات، والاستزراع المائي وغيرها.
ويضم المركز نخبة من العلماء اللامعين، من ضمنهم البروفسور سليم البابلي، أستاذ علوم النبات في الجامعة الذي تكمن اهتماماته البحثية في إنتاج محاصيل ذات قيمة غذائية عالية، باستخدام تقنية الجينات. وذلك عبر منهج مشترك مستمد من علم الإنزيمات والعلم الوراثي الجيني، لتحديد جزيئات التنبيه الجديدة للنبتة والمرتبطة بالإجهاد غير الحيوي والنمو.
يقول البابلي: «حاولت طوال مسيرتي المزاوجة بين البحوث الأساسية والعلوم التطبيقية؛ حيث عملت على تحسين القيمة الغذائية للمحاصيل لسنوات عديدة، لا سيما في مجال التحصين الحيوي للأرز ببروفيتامين (أيه)، ثم انتقلت نحو مسارات التمثيل الغذائي (الأيضية) المتعلقة بالتخليق الحيوي للهرمونات في النباتات».
وثمة موضوع مشترك يجمع بين بحوث البابلي طوال الوقت، إذ يولي الباحث اهتماماً فائقاً بإنتاج محاصيل ذات أداء زراعي محسّن، وقيمة غذائية معززة. وتتركز مهام البابلي حالياً على مسارين متوازيين: أحدهما ينصب على متابعة الاكتشافات الأساسية حول علم الوراثة والإشارات الهرمونية لنبات «الدخن اللؤلؤي» في المختبر، أما المسار الآخر، فهو معني بتطبيق هذه الاكتشافات على أرض الواقع في حقول المزارعين.
وفي عام 2018، تلقى البابلي وفريقه البحثي، وعدد من الشركاء الدوليين، منحة قدرها 5 ملايين دولار أميركي، من مؤسسة بيل وميليندا جيتس؛ خصصت المنحة لتطوير استراتيجيات تعتمد على الهرمونات؛ لمكافحة غزو نبات العدار (Striga hermonthica)، وهو نبات طفيلي يصيب محاصيل الحبوب في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، ويتسبب في خسائر سنوية تربو على 7 مليارات دولار أميركي، ويهدد حياة نحو 300 مليون شخص، بتعريض الإمدادات الغذائية التي تصلهم للخطر.
تحسين «الدخن اللؤلؤي»منذ تلقي المنحة، اهتم البابلي بالبنية التحتية الجزيئية؛ لتحسين أداء نبات «الدخن اللؤلؤي» pearl millet وتوسيع الطرق لحمايته من غزو نبات العدار، و«الدخن اللؤلؤي» يعرف باسم «الباجرا» أيضاً، وهو نبات مرن يُزرع في المناطق الجافة الدافئة، ويُعدّ محصولاً استراتيجياً للمملكة العربية السعودية.
تشغل عمليات البحث والتطوير في المشروع مساحات متنوعة، تبدأ من العمل في المختبر، انطلاقاً إلى البيوت الزجاجية المحدودة، ثم الحقول الصغيرة، وصولاً إلى التجارب الأوسع نطاقاً في حقول المزارعين، أصحاب الحيازات الزراعية الصغيرة.
لكن ما الذي يعزز غزو نبات العدار؟ تطلق نباتات الحبوب المضيفة -مثل «الدخن اللؤلؤي»- هرمونات نباتية في التربة تُسمى «ستريغالاكتون» strigalactones، وتستشعر بذور العدار هذا الهرمون، مما يحفز إنباتها، وتعيش عشبة العدار من طريق سحب المياه والمغذيات من المحصول المضيف. وقد قادت جهود البابلي البحثية على التخليق الحيوي لهرمون «ستريغالاكتون» إلى الوصول لعدد من الاستراتيجيات، من شأنها الحد من بذور العدار في التربة.
غزو نبات العدارفي الوقت الذي يمثِّل فيه نبات العدار مشكلة متفاقمة في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى على وجه الخصوص، انتشرت هذه العشبة الغازية في مناطق أخرى، منها المملكة العربية السعودية. تشكل الأنواع الأخرى من النباتات الطفيلية الغازية التي تصيب المحاصيل الأخرى، مثل الطماطم والفاصوليا وعباد الشمس، تهديداً خطيراً للزراعة في الشرق الأوسط، وجنوب أوروبا، وكثير من المناطق في آسيا.
يقول البابلي إنه وفريقه البحثي يعكفون على محاولة تحسين الأمن الغذائي، من خلال إنتاج المعرفة عبر أحدث التقنيات في المختبر، وتطوير هذه المعرفة الجديدة بسرعة إلى أدوات عملية، يمكن استخدامها من قبل المزارعين أصحاب الحيازات الصغيرة، معتبراً أن جهدهم البحثي يعد بمثابة «جسر بين الاكتشافات في المختبر والتطبيقات الميدانية في أرض الواقع».
وما يقوم به البابلي حالياً، هو واحد من فروع بحوثه المهمة، والمعنية بتحسين الأمن الغذائي؛ إذ عمل قبل عشرين عاماً مع فريق دولي على هندسة «الأرز الذهبي» وراثياً، وهو من سلالات الأرز الآسيوي المنتجة من خلال الهندسة الوراثية للتركيب الحيوي لمادة «بيتا- كاروتين»، وهي مادة أولية لفيتامين «أيه»، مما يعزز قدرة هذا النوع من الأرز على مكافحة نقص فيتامين «أيه».
ويرى البابلي أنّ تطوير الحلول العلمية لمشكلات العالم، يتطلب بحثاً مكثفاً في العلوم الأساسية، يقول: «عندما تمسك بين يديك بشيء قابل للترجمة العملية على أرض الواقع إلى أرض الواقع، فإن ثمة حاجة إلى المخاطرة، وبالطبع تحتاج إلى وجود متعاونين ذوي خبرة لاستكمال الجهود».
ويرى أنّ حلمه –كغيره من العلماء– يتمثل في رؤية ما يفعله في المختبر يفيد البشرية بحق، معتقداً أنّ العلم لديه مسؤولية في حل المشكلات المجتمعية.
ويقول: «بمجرد أن تتخذ قرار الشروع في العمل، فأنت بحاجة إلى الطاقة والصبر لترجمة نتائجك إلى أرض الواقع؛ إذ إنّ الرضا الذي يغمرك عندما تصل إلى حل في المختبر لتحدٍّ عالمي كبير، هو أمر استثنائي للغاية».