على مدار نصف قرن، قدمت «رسالة هارفارد الصحية» لقرائها معلومات صحية حديثة مبنية على الأدلة وقابلة للتطبيق -معلومات خضعت لتدقيق من أعضاء هيئة التدريس في كلية الطب بجامعة هارفارد والمستشفيات التابعة لها.
أول عدد صدر قبل 50 عاماً
افتُتح عددنا الأول، الذي صدر قبل 50 عاماً، بموضوع عنوانه: «ما يجب أن تعرفه عن النوبات القلبية قبل أن تموت بسببها». وبينما لا تزال أمراض القلب السبب الرئيسي للوفاة في الدول الصناعية، إلا أن التقدم المحرز منذ ذلك الحين كان ملحوظاً -من الاكتشاف المبكر للنوبات القلبية، إلى الإنجازات في علاج ضغط الدم والكوليسترول، إلى ابتكارات مثل أجهزة تنظيم ضربات القلب واستبدال الصمامات.
5 عقود من التقدم الطبي
وبمناسبة هذا الإنجاز، يستعرض رئيس التحرير المخضرم الدكتور توني كوماروف، الذي تخرج طبيباً في ستينات القرن الماضي، خمسة عقود من التقدم الطبي وكيف تطورت رسالة هارفارد الصحية بالتوازي معها. ومنذ ذلك الحين أحرز العلم تقدماً مذهلاً في الوقاية من الأمراض وتشخيصها وعلاجها، في المجالات التالية:
الجينات والخلايا الجذعية واللقاحات
* الجينات وعلم الوراثة: عندما بدأتُ دراستي الجامعية، كنا قد تعلمنا للتوّ أن الجينات مكونة من الحمض النووي «دي إن إيه». وأثار هذا تساؤلات بدهية: كم عدد الجينات لدينا؟ كيف تعمل الجينات؟ ما الذي يُنشّط الجينات ويُعطّلها؟ هل تجعلنا جينات معينة عرضة لأمراض معينة؟ هل يمكننا إصلاح الجينات المعيبة للوقاية من الأمراض أو علاجها؟ أخبرني أستاذ الأحياء في جامعتي أننا سنعرف الإجابات يوماً ما، ولكن ليس في حياتنا. كان مخطئاً: فالعلم اليوم قد قدّم إجابات -مع أنه لا يزال أمامنا الكثير لنتعلمه. والعلم يُنتج بالفعل علاجات.
* الخلايا الجذعية: في ستينات القرن الماضي، تحدّث العلماء نظرياً عن كيفية علاج الأمراض بالخلايا الجذعية من الأجنة. ولكن كانت هناك مشكلة كبيرة؛ إذ يجب استخدام خلايا جذعية من جنين شخص آخر، وعندها سيُهاجم جهاز المناعة تلك الخلايا الغريبة. وبدا الحل الأمثل -باستخدام خلاياك الجذعية الجنينية- مستحيلاً، لأنك كنت جنيناً منذ زمن بعيد، وليس بالإمكان إعادة عقارب الساعة إلى الوراء.
ثم في أوائل الألفية الثانية، توصل العلماء إلى اكتشاف مذهل حول البشر، مبنيٍّ بشكل مثير للدهشة على أبحاث أُجريت باستخدام بيض الضفادع: يمكنك تحويل خلاياك البالغة إلى خلايا مطابقة تقريباً لخلاياك الجذعية الجنينية -أي يمكنك إعادة عقارب الساعة إلى الوراء! والأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أنه يمكن بعد ذلك تحويل هذه الخلايا الجذعية إلى خلايا معادلة لخلايا قلبك أو دماغك لتحل محل الخلايا التي ماتت بسبب المرض. بالفعل، يتم اختبار هذه الخلايا لتحسين وظائف القلب المتضررة بسبب النوبات القلبية والأدمغة المتضررة بسبب مرض باركنسون، بنتائج واعدة.
اللقاحات والعلاجات المضادة للفيروسات
* اللقاحات: ربما تكون اللقاحات أهم تقنية طبية تم اختراعها على الإطلاق. خلال مسيرتي المهنية، أنقذت اللقاحات أكثر من 150 مليون حياة (معظمهم من الأطفال).
وبعد عام واحد فقط من تسبب فيروس جديد في جائحة كوفيد-19، أصبح لقاحه متاحاً بنسبة فاعلية تزيد على 90 في المائة في الوقاية من أمراض خطيرة. وفي الواقع، أظهرت أبحاثٌ رصينة أنها أنقذت حياة 20 مليون شخص في عامها الأول فقط.
* العلاجات المضادة للفيروسات: كانت المضادات الحيوية لعلاج الالتهابات البكتيرية المدمرة من أهم الاكتشافات الطبية. ولكن عندما أصبحتُ طبيباً، كانت الأدوية المستخدمة لعلاج الالتهابات الفيروسية قليلة. وقد تغيّر هذا الوضع بشكل كبير، فعلى سبيل المثال، أنقذت الأدوية المضادة للفيروسات ملايين الأرواح من الأشخاص الذين كانوا سيموتون بسبب فيروس نقص المناعة البشري (الإيدز) أو عدوى فيروس التهاب الكبد الوبائي (سي).
أمراض القلب والسرطان
* تقنيات التصوير: تُمكّن تقنيات التصوير الحديثة من رؤية أعماق جسمك دون أن تلمسه. عندما كنت طالباً في كلية الطب، لم تكن هناك طريقةٌ جيدةٌ لمعرفة ما إذا كان الصداع المفاجئ والشديد لشخصٍ ما ناتجاً عن نزيفٍ في الدماغ. أما اليوم، فقد اخترع العلم أجهزةً تُنتج صوراً واضحةً داخل جميع أجزاء الجسم، وصوراً تُساعد على تحديد المشكلات ومعالجتها بسرعة، وأحياناً تُنقذ حياةً.
* الكشف عن أمراض القلب وعلاجها: لا تزال أمراض القلب السببَ الأول للوفاة في الدول الصناعية، لكن الوفيات انخفضت بشكلٍ ملحوظ خلال مسيرتي المهنية. ويعود ذلك جزئياً إلى تغييرات نمط الحياة، ولكن أيضاً إلى التقدم العلمي، مثل الأدوية الجديدة الفعّالة لخفض ضغط الدم والكوليسترول، والتقنيات الجديدة لعلاج انسداد شرايين القلب (مثل الدعامات وجراحة المجازة القلبية)، وأجهزة تنظيم ضربات القلب، واستبدال صمامات القلب.
* الكشف عن السرطان وعلاجه: لا يزال السرطان ثاني أكثر الأمراض فتكاً في الدول الصناعية. عندما بدأتُ دراستي في كلية الطب، لم نكن نعرف سبب تحول الخلية إلى سرطانية، أو كيفية اكتشاف السرطان في مراحله المبكرة، أو سبب انتشار بعض أنواع السرطان في جميع أنحاء الجسم، أو سبب عدم مهاجمة الجهاز المناعي للخلايا السرطانية والقضاء عليها. أما اليوم، فقد قدّم العلم إجابات فعّالة أدت إلى العديد من العلاجات المعجزة.
* نمط حياة صحي: على مدار الأعوام الخمسين الماضية، كشفت دراساتٌ واسعة النطاق شملت مئات الآلاف من الأشخاص عن مدى تأثير نمط حياتنا على صحتنا. في الواقع، نعلم الآن أنه يمكنك فعل المزيد لحماية صحتك من خلال تغييرات في نمط حياتك، مثل ممارسة مزيد من التمارين الرياضية وتناول أطعمة صحية، مقارنةً بتناول أي دواءٍ تم اختراعه حتى الآن.

الذكاء الاصطناعي وزراعة الأعضاء
* الذكاء الاصطناعي: كان الإنجاز الأبرز من اندماج الذكاء الاصطناعي والعلوم الطبية حتى الآن، هو التنبؤ ببنية البروتينات. وتعتمد علاجات عديد من الأمراض على معرفة أشكال بروتينات معينة.
وقد أمضى آلاف العلماء قرناً من الزمن لتحديد أشكال 30 في المائة فقط من البروتينات البشرية. وفي عام2021، بين عشية وضحاها، حدّد الذكاء الاصطناعي بدقة أشكال الـ70 في المائة المتبقية. وقد سرّع هذا بالفعل تطوير أدوية جديدة بشكل كبير، وحاز جائزة نوبل.
* زراعة الأعضاء: عندما كنتُ أبدأ دراستي في كلية الطب، بدأتْ زراعة الأعضاء أخيراً تؤتي ثمارها. كان هناك عقد من الفشل: فالأشخاص الذين مُنحوا فرصة أخيرة للحياة ماتوا في سن مبكرة على أي حال. لكن العلم وجد أخيراً الحلول لإنجاح زراعة الأعضاء، مانحاً حياة كاملة لملايين البشر.
وعلى سبيل المثال، تُقام ألعاب زراعة الأعضاء كل عامين: يحمل كلٌّ من آلاف المتنافسين، في رياضات متعددة، عضواً من إنسان آخر. لم تسمح هذه الهبة للرياضيين بالبقاء على قيد الحياة فحسب، بل أتاحت لهم أيضاً تحقيق أحلامهم.
الشفاء يأتي من العلم
يقلقني أن بعض الناس يشككون في قيمة العلوم الطبية، وفي الأدوات التي وفرتها للإنسان.
ربما أكون متحيزاً من تجربتي الشخصية. مات معظم أسلافي بسبب نوبات قلبية في الأربعينات والخمسينات من عمرهم. كان لديهم بعض الجينات المعيبة التي لم تُكتشف بعد، جينات ورثوها عن أسلافهم. لكنني عشتُ وعملتُ حتى منتصف الثمانينات من عمري، لأن العلم اكتشف تلك الجينات المعيبة وطوّر علاجاتٍ لمواجهة آثارها الضارة.
وقد وُلدتُ، وعلى عكس والدي وعائلته، في الوقت المناسب للاستفادة من تقدم العلوم الطبية.
* رئيس تحرير رسالة «هارفارد» الصحية، خدمات «تريبيون ميديا».
