هذا المقال بقلم بشار جرار، متحدث ومدرب غير متفرغ مع برنامج الدبلوماسية العامة – الخارجية الأمريكية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
ما من حدث يجمع أصحاب القرار على تغطيته المباشرة والمتواصلة فيما يعرف تلفزيونيا بتغطية “وول تو وول”، كالأحداث والمناسبات الملكية، وبخاصة في أعرق ملكيات العالم وديمقراطياتها، بريطانيا العظمى، المملكة المتحدة (وتضم إيرلندا الشمالية إضافة إلى المقاطعات البريطانية الثلاثة إنجلترا، سكوتلاندا وويلز).
ليس سرا، أن الإعلام خاصة غير الرسمي وبالأخص التجاري منه، يتعامل مع هذه الأحداث والمناسبات كفرص لتحقيق هدفين يعززان بعضهما بعضا: تسجيل أعلى نسبة مشاهدة، واستقطاب أكبر عدد من الإعلانات.
وقد تطرقت الصحافة البريطانية والعالمية إلى سر حب وتعلّق، وليس مجرد رضى البريطانيين عن نظامهم الملكي، بصرف النظر عن تفاعلهم مع ما تنشره ما تعرف بالصحافة الصفراء “التابلويد”، وأشرسها صحافة المشاهير “باباراتزي”.
السر يكمن في رمزية العراقة وفخامة العظمة التي تقوم على رسالة “الخدمة”. تحمل ظروف المعاملات الرسمية في المملكة المتحدة عبارة “في خدمة صاحب الجلالة”، وهو بحسب العرف وجميع تلك التفاصيل التي تابعناها على الهواء مباشرة قبل أيام، والعام الماضي يوم وداع الراحلة إليزابيث الثانية، جميعها تشير إلى القاعدة الذهبية، إلى العقد الاجتماعي بأن “الملك يسود ولا يحكم”.
في العالم العربي، ومعظم بلاده كانت تحت الانتداب البريطاني والفرنسي حتى عقود متباينة من القرن الماضي، اختارت معظمها شعبيا النظام الملكي، سواء على شكل ممالك أو إمارات. وقد كان من تبعات الحرب الباردة تنفيذ انقلابات عسكرية لا اندلاع ثورات بالمعنى الأكاديمي الصرف، لم تكن كالثورة الفرنسية أو البلشفية مثلا. لم يستطع منظرو الأحزاب أو الحركات التي امتطتها تلك الانقلابات الادعاء بأن ما جرى ثورة شعبية أرادت بإرادتها الحرة والواعية استبدال النظام الملكي بنظام جمهوري. وبفعل شرائح اللا أباليين أو الذين آثروا الانتظار اتقاء لملاحقة البوليس السياسي في تلك الدول، تراكمت تجارب يراها كثيرون خطايا لا مجرد أخطاء أدت إلى تدهور شمل جميع قطاعات الحياة، وليس الحياة السياسية وحدها.
“الجملكيات”، كما وصفها يوما الحسن بن طلال ولي العهد الأردني الأسبق، صارت جلية للعيان في أكثر من دولة عربية، خاصة بعد الهزة الثانية التي عصفت بالمسرح الإقليمي جراء الحرب الباردة وظهور الإسلام السياسي والعسكري، سيما بعد وصول خميني على متن طائرة إير فرانس من باريس إلى طهران، لتأسيس جمهورية “ولاية الفقيه” بكل تبعاتها وتداعياتها الماثلة للعيان، على الأقل في أربع ساحات عربية.
ورغم تضارب المدارس الإعلامية والثقافية في الشرق الأوسط، إلا أن جميعها كما في الحالة البريطانية، أبدت وعلى نحو متزايد حنينا شعبيا للملكية سواء في إطارها التاريخي العربي أو العالمي، وبخاصة البريطاني.
هذا الحنين، بالإمكان رصده بمئات الأفلام والمسلسلات العربية، لم يقتصر على مصر وإيران بل شمل العراق وليبيا بعد مآسي الربيع العربي، والسودان بعد الكارثة التي حلت به منذ أواخر رمضان الفضيل، يوم انقلب شريكا الحكم الانتقالي على بعضهما البعض، وفقا لاتهامات البرهان ودقلو “حميدتي”!! ترحّم مصريون وسودانيون الذي صار “سودانين”، ويخشى البعض لحاق دارفور على الأقل بقطار “الاستقلال-الانفصال”، ترحّموا على الملك فاروق بصفته ملكا لـ “مصر والسودان وكردفان ودارفور”.
لا تقارن الناس والمختصون بالحريات السياسية في جميع الدول الملكية السابقة في العالم العربي، وإنما فيما يخص أمن المواطن والمقيم والوافد والزائر، وحرياته وأمواله وممتلكاته. وما كان بحسب مفردات الحرب الباردة “تقدميا” يهاجم “النظم الرجعية”، صار يقارن اليوم شعبيا وليس فقط على مستوى المنظمات المعنية بمؤشرات التنمية، بين بلاد النور وبلاد الظلام، حيث صارت العتمة وانقطاع -لا بل وغياب الخدمات الحيوية- من ماء وكهرباء، مرافقة لأغاني ومشاهد الحنين إلى الملكية التي تشتعل بها مواقع التواصل الاجتماعي، في عقد تلك المقارنة بين ما كان، وما صار في خبر كان! لم تعد مقولات “العادل المستبد” التي تم الترويج لها في عدد من النظم “الجمهورية” أو “الجملكيات” مستساغة. وليس خافيا على المراقب، حنين مواطني تلك البلاد إلى ملك لا يسود فقط، بل ويحكم أيضا، لحين التعافي مما لحق المجتمع والدولة من خراب.