وسط تنوع خيارات القهوة الصباحية، من حليب اللوز والشوفان إلى الصويا والبازلاء، قد يبدو الحليب النباتي وكأنه صيحة حديثة ارتبطت بأنماط الحياة العصرية. لكن الواقع أن بدائل الحليب ليست جديدة، بل تعود جذورها إلى آلاف السنين، حيث عرفتها حضارات متعددة وانتشرت عبر القارات بدوافع مختلفة، شملت الحاجة والتقاليد الدينية، وصولا إلى الاهتمام بالاستدامة البيئية وتقليل الأثر البيئي لإنتاج الحليب الحيواني.
البدائل النباتية تفرض حضورها
رغم أن العديد من بدائل الحليب النباتي تُعرف باسم “حليب”، فإنها تختلف بشكل كبير عن الحليب الحيواني من حيث القيم الغذائية. وتصنع هذه البدائل من مصادر نباتية متنوعة، تشمل الحبوب مثل الشوفان والكينوا، والبقوليات كفول الصويا والبازلاء، إضافة إلى المكسرات مثل اللوز وجوز الهند. هذا التنوع جعلها بديلا مناسبا لمن يعانون من حساسية تجاه الحليب، أو لمن يختارون الابتعاد عن الألبان لأسباب صحية أو أخلاقية.
ومع تزايد الطلب على “الحليب النباتي”، شهدت الصناعة نموا ملحوظا. فقد قدرت شركة “فورتشن بيزنس إنسايتس” للأبحاث السوقية العالمية حجم سوق بدائل الألبان بنحو 32.38 مليار دولار أميركي في عام 2024، مع توقعات ببلوغه نحو 37 مليار دولار في عام 2025، ليصل إلى 91.15 مليار دولار بحلول عام 2032.
الصويا.. أول حليب نباتي
تبرز منطقة آسيا والمحيط الهادئ كلاعب رئيسي في هذا السوق، حيث استحوذت على نحو 53% من الحصة السوقية في عام 2024، مما يجعلها الأكبر عالميا في هذا المجال. وهو أمر ليس غريبا، خاصة مع معرفة أن أصل حليب الصويا يعود إلى الصين عقب اختراع طاحونة الحجر اليدوية. وتشير أقدم السجلات المكتوبة إلى ظهوره عام 1365، وتم توثيقه لأول مرة تحت اسم “دوفوجيانغ”، وفقا لموقع “تودايز دايتيشين” المختص بالتغذية.
في القرن الـ17، كان يقدم حليب الصويا ساخنا على الإفطار أو يستخدم كأساس للحساء.
ومع أن حليب الصويا انتشر سريعا في مناطق شرق آسيا، حيث دخل في عادات الطبخ، فإن الثقافات الغربية لم تعرفه إلا بعد قرون.
ذكر تقرير على موقع منظمة “ڤيڤا” المهتمة بالترويج للنظام النباتي، أن فول الصويا انتقل إلى أوروبا وأميركا في القرن الـ19، وظهر مصطلح “حليب الصويا” لأول مرة في أميركا عام 1897.
في عام 1910، أسس عالم الأحياء الصيني لي يو-ينغ أول مصنع قرب باريس، وحصل على براءة اختراع لأول “حليب نباتي”، بعده أطلق رجل الأعمال الأميركي بوب ريتش “المنتج” في عام 1945.
مع انتقال الصناعة إلى أميركا واجهت صراعا قضائيا من شركات الألبان، لكن ريتش أثبت أن منتجه بديل وليس تقليدا.
وفي السبعينيات، تعرض المنتج لضغوط من لوبي الألبان لمنع تسميته بـ”حليب”، فسمي بـ”غذاء سائل من أصل نباتي”، لاحقا، أصبح اسمه “حليب الصويا النباتي”. وازدادت شعبيته في ثمانينيات القرن الماضي في آسيا وأوروبا وأستراليا والولايات المتحدة، وأسهم تطور التغليف في انتشاره، ليصبح اليوم من أكثر بدائل الحليب شعبية.

“جوز الهند”.. بديلا عن “البقر”
مثل حليب الصويا، كانت آسيا رائدة، أيضا، في اكتشاف حليب جوز الهند. ويرجع أصل حليب جوز الهند إلى الهند وجنوب شرق آسيا، وفقا لتقرير على موقع مؤسسة “نافيك ميلز” المختصة بإنتاج منتجات جوز الهند العضوية.
ارتبط حليب جوز الهند، وهو سائل يستخرج من لب جوز الهند المبشور، بأطباق ومشروبات محلية هناك، وفي بعض الثقافات استخدم أيضا في الطقوس والقرابين الاحتفالية.
وحسب موقع “ڤيڤا” يعتبر حليب جوز الهند من أقدم أنواع الحليب النباتي استخداما، خاصة في المناطق التي لا يستهلك سكانها حليب البقر، مما جعله الحليب الأساسي في حياتهم اليومية.
حليب اللوز والصوم الكبير
تعتبر أشجار اللوز من أقدم الأشجار الموجودة منذ نحو 5 آلاف عام، وانتشرت على طول شواطئ البحر الأبيض المتوسط القديم وصولا إلى جنوب أوروبا وشمال أفريقيا والهند.
أما حليب اللوز نفسه، وفقا لتقرير على موقع “سكند هيستوري” فليس له جذور في المطبخ القديم، بل يعتقد أنه ابتكر في أوروبا خلال العصور الوسطى، وكان يحضر بنقع اللوز المطحون في الماء ثم تصفيته.

نال إعجاب الأوروبيين، وبدأ يظهر كمكون أساسي في كتب الطهي آنذاك، حتى أصبح من أهم المكونات في الطبخ أواخر العصور الوسطى، وفاق حليب البقر في الانتشار، لأن الأخير كان سريع الفساد.
ارتبط انتشار حليب اللوز في أوروبا بالعقيدة المسيحية خلال فترة الصوم الكبير، حيث يحظر تناول منتجات الألبان.
ومع تزايد الاهتمام بالتغذية النباتية ونمط الحياة الصحي، بدأ حليب اللوز يحظى بشعبية متزايدة خارج الأوساط الدينية ليصبح أحد أكثر بدائل الحليب رواجا، وتجاوزت مبيعاته حليب الصويا بحلول عام 2013 في الولايات المتحدة وفقا لموقع “ڤيڤا”.
الشوفان.. حديث العهد
رغم أن حليب الشوفان يعد حديث العهد مقارنة بحليب اللوز أو الصويا، فإنه حقق انتشارا لافتا في فترة قصيرة.
وحسب تقرير على موقع “بي بي سي” تعود بداياته إلى أوائل التسعينيات، حين كان عالم الأغذية السويدي ريكارد أوستي يجري أبحاثا عن حساسية اللاكتوز، مما دفعه للتفكير في ابتكار نوع جديد من الحليب النباتي.

اعتمد أوستي على الشوفان، وهو محصول وفير في السويد، وقام باستخدام إنزيمات لتحويله إلى مشروب غني يشبه في قوامه وطعمه حليب البقر. ولتحقيق ملمس أكثر دهنية، أضاف زيوتا نباتية، مما جعل المنتج أقرب إلى الحليب التقليدي في خصائصه.
أسس أوستي لاحقا شركة “أوتلي”، التي أصبحت واحدة من أبرز الشركات المصنعة لحليب الشوفان على مستوى العالم، ورغم أن هذا النوع من الحليب لم يتجاوز عمره 30 عاما، فإنه نجح في التفوق على حليب اللوز في المملكة المتحدة، ليصبح أكثر أنواع الحليب النباتي شعبية هناك.