يعيش القطاع الصحي في غزة ظروفا مأساوية نتيجة حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة على القطاع، والتي استهدفت المستشفيات والمراكز الصحية والكوادر الطبية، والحصار الذي يمنع وصول المستلزمات العلاجية للقطاع. وقبل أيام حذرت منظمة الصحة العالمية من التدهور الخطير في الأوضاع الصحية بقطاع غزة في ظل الحصار الخانق المفروض على القطاع منذ قرابة شهرين، ومنع دخول المساعدات الإنسانية والطبية. وأشارت المتحدثة باسم المنظمة مارغريت هاريس إلى أن الفلسطينيين يخافون حتى من الذهاب إلى المستشفيات بسبب استهداف العديد منها.
وللحديث حول ما يعيشه القطاع الصحي في غزة استضافت عيادة الجزيرة، الدكتور أنس حجاوي، اختصاصي جراحة العظام والمفاصل والذي عاد مؤخرا من غزة بعد أن أمضى أسبوعين ضمن وفد طبي.
-
كيف وصلتم إلى غزة؟ كيف كانت الرحلة إلى هناك؟
بداية اجتمع الوفد الطبي، كنا حوالي 22 شخصا في عمان، انتظرنا موافقة الجانب الإسرائيلي، جاءت الموافقة على 9 فقط من أصل 22 والبقية أتاهم رفض، وهذا قبل 7 ساعات من الرحلة. جاؤوا إلى عمان من بلدانهم ومكثوا حتى جاء الرفض.
انطلقنا من عمان إلى جسر الملك حسين ومن جسر الملك حسين بقافلة مكونة من جميع المؤسسات التي دخلت في ذلك اليوم إلى معبر كيسوفيم ومن معبر كيسوفيم عبرنا إلى غزة بعد أن جاءت الترتيبات والموافقات من الجانب الإسرائيلي، وفي غزة توزعنا، كان جزء منا موجودا في المستشفى الأوروبي وأنا كنت من الجزء الموجود في مستشفى ناصر، مكثت هناك طيلة الأسبوعين. الأوضاع في مستشفى ناصر كانت كارثية، ابتداء من قسم الطوارئ حتى أقسام المرضى مرورا بالعمليات، وحتى مبنى الإدارة ومبنى غسيل الكلى، كانت صدمة للجميع.
-
ما طبيعة الحالات التي عايشتموها في القطاع؟
بحكم تخصصي في جراحة العظام والمفاصل أغلب الحالات التي كانت تأتي لقسم جراحة العظام أو حتى كانت تأتي إلى الطوارئ هي حالات الإصابات جراء القصف سواء القصف الصاروخي أو القصف المدفعي، أغلب المرضى الذين كانوا يأتون إلى قسم الطوارئ كانت إصاباتهم كسورا معقدة، كسورا مفتوحة، كسورا في الحوض، كسور العمود الفقري، بترا لعدة أطراف. والمريض الواحد كان يحتاج إلى عدة عمليات فقط لإنقاذ حياته في البداية، ثم يحتاج لاحقا إلى عدة عمليات أخرى لتثبيت الكسور ومتابعة الجروح الموجودة، وأحيانا الحروق بالوجه والصدر، فكانت المعاناة شديدة بالنسبة للمريض الواحد، فما بالك بأن يأتي 4 و5 مرضى أو 10 أو 20 مريضا مرة واحدة في نفس الوقت.
الكسور المفتوحة هي فتح بالجلد مع وجود نقص في تغطية العظم، مع وجود فقدان لجزء كبير من العضلات والأنسجة وأحيانا الأعصاب والأوتار وصولا إلى العظم، فالعظم كان مكشوفا في أغلب المرضى الذين يأتون إلى المستشفى، كان العظم مكشوفا ومكسورا وأحيانا أخرى فقدان أجزاء كبيرة أيضا من العظم مما لا يترك لنا فرصة إلا وضع تثبيتات مبدئية باستخدام التثبيت الخارجي لحين تحسن وضع المريض الصحي، وإحضاره مرة أخرى إلى العمليات ومحاولة تثبيت الكسر بشكل أفضل، محاولة إيجاد طريقة لتغطية الجروح بمساعدة أطباء التجميل والترميم.
الكسور المعقدة كانت أغلبها في منطقة الحوض، الكسر المعقد هو كسر متفتت داخل إلى سطوح المفاصل بحاجة إلى تثبيت باستخدام أدوات دقيقة وباستخدام صفائح خاصة، وهذا للأسف لا يتوفر عادة في مستشفيات قطاع غزة وإن توفر فلا يكون بالكمية الكافية ولا يكون بالأحجام والتفاصيل المطلوبة. هناك عدد كبير من الضحايا، إضافة للنقص الشديد في المعدات والنقص الشديد في المواد الاستهلاكية ومن ضمنها مواد جراحة العظام بصفتها الأكثر استهلاكا في هذه الفترة.
-
ما أبرز المواد المتعلقة بجراحة العظام التي لاحظتم نقصها؟
المواد الناقصة تشمل التعقيم في غرف العمليات، والأغطية الجراحية التي تستخدم أثناء العمليات، كنا نضطر إلى استخدام الألبسة الجراحية المخصصة للجراحين لتغطية الجروح، هناك أدوات خاصة بأشكال خاصة ومناطق لاصقة حتى تمنع حدوث الالتهابات، في غزة الالتهابات نسبتها كبيرة جدا بسبب نقص هذه الأدوات، هذا يعرض المريض للخطر، يعرض الجراحين أيضا للخطر، يعرض العملية كلها للفشل.
-
إذن دكتور هناك نقص في كل شيء؟
نعم يوجد نقص شديد، وإذا استخدم شيء معين فهو يعاد استخدامه مرة ومرتين و3 مرات على الرغم من أنه مصمم للاستخدام لمرة واحدة فقط. مثال على ذلك كنا نستخدم التثبيتات الخارجية (أدوات خاصة بجراحة العظام، تثبيت من الخارج بواسطة براغي وأطر خاصة حول الكسور المفتوحة ليسهل تنظيفها ويسهل إعادتها إلى العمليات) للكسور المفتوحة والكسور المعقدة لحين تحسن حالة المريض وإحضاره مرة أخرى إلى غرفة العمليات وتثبيت الكسر بشكل ملائم. التثبيتات الخارجية بالعادة يتم استبدالها بتثبيتات داخلية أو بتثبيت بشكل أفضل ونهائي، الكثير من المرضى بعد أن يخرج من غرفة العمليات يذهب إلى غرف المرضى يأتينا خبر وفاته بعد يوم أو يومين، نقوم بفك التثبيتات الخارجية عن المريض نقوم بفك هذه الأدوات عن الشخص المتوفى وإعادة تعقيمها لاستخدامها لشخص آخر للأسف.
-
دكتور هل كان هناك نسبة كبيرة من الضحايا يستشهدون نتيجة المضاعفات؟
نعم أحيانا يأتي المريض وتسمع خبر استشهاده، أحيانا يتم إرسال المريض إلى المنزل بعد تحسين حالته الصحية ويأتينا متوفى بقصف آخر أو إصابة أخرى، وأحيانا كثيرا يذهب المريض إلى المنزل، ويعود بالتهاب بسبب سوء ظروف التعقيم وبسبب سوء ظروف المعيشية، وإضافة إلى قلة الغذاء وقلة الدواء المتوفر فإن الكسور تحتاج وقتا أطول بشكل كبير لحين التئامها، وتحتاج لضعف أو ضعفين المدة.
-
كيف وجدت الناس في غزة؟
هذا شعور كان لدي قبل أن أذهب إلى غزة، كأي شخص يعيش خارج غزة ولم يجرب حياة الحروب كان لديه شعور بالخوف من الدخول في منطقة ربما لا تأمن فيها على حياتك، ربما تخاف من الأشخاص الآخرين كيف ينظرون إليك هل أنت متخاذل؟ لماذا أتيتنا في هذه المحنة وأنت لا تحمل لا غذاء ولا دواء ولا معدات طبية؟ هذا كان هاجسي الأكبر، في بداية الدخول إلى غزة وأول لقاء مع المرضى والكادر الطبي تلاحظ الترحيب الشديد، هنا ينتهي شعور الخوف لأن الشعب الغزي نفسه لا يوجد لديه أي أحد خائف لا امرأة ولا طفل ولا شيخ كبير. يشعرون بالخذلان للأسف منا نحن أبناء جلدتهم، ولكنهم يسلمون قدرهم وأرواحهم لله، الحياة والموت عندهم هي لعبة يومية. وجميع أفراد الطاقم الطبي الذين تعرفت عليهم كلهم لديهم على الأقل شخص واحد من الدرجة الأولى استشهد في هذه الحرب؛ فموضوع الحياة والموت عندهم هو موضوع وقت، وهو قادم لا محالة، ولم يعودوا يخافون منه. كل شخص فيهم يودع أمه وأبيه، يودع أطفاله قبل أن يأتي إلى العمل، فهذا الموضوع لديهم هو موضوع روتيني، وتغلبوا على شعور الخوف. ولكن أجسامهم أنهكت من قلة الطعام، وقلة الشراب، وللعمل لساعات طويلة بسبب الأعداد الهائلة من الإصابات، وبسبب نقص المعدات والمستهلكات، فأنت بحاجة إلى عدد كبير من الكادر الطبي لتغطية هذ النقص.
-
ما الصعوبات التي تواجه القطاع الصحي حاليا؟
كنتُ أعمل في أقسام العمليات، كنت أسعف المرضى في الطوارئ من أبسط أمور التعقيم وإبر الخياطة، وأدوات التبنيج، والأدوية المخدرة هي ناقصة أو غير موجودة، نتيجة الحصار الإسرائيلي وعدم السماح حتى للوفود الطبية بحمل الأدوات التي سوف يستخدمونها على الأقل أثناء فترة مكوثهم في غزة. أنا شخصيا تركت عدة أدوات في الأردن لم أستطع إدخالها.
-
ماذا عن الكادر الصحي العامل هناك في هذا القطاع؟
الكادر الصحي في غزة أصابهم التعب والإعياء لطول ساعات العمل، ولكثرة الإصابات ولقلة المستهلكات والمستلزمات فيضطرون لاختراع عدة طرق تستخدم فيها أشياء كثيرة في غير مكانها، ما تستخدم للفخذ أو للساق يستخدم لليد وما يستخدم لليد يستخدم للفخذ أو للساق بسبب قلة الأدوات الموجودة، فهذا يلقي عليهم بأعباء كبيرة وهذا هو السيناريو بشكل يومي منذ بداية العدوان. الوفود الطبية التي تأتي تحاول التخفيف، ولكن التعب بادٍ على وجوههم، الكثير منهم فقد أحباءه وما زالوا على رأس عملهم.
-
دكتور أريد أن تحدثنا عن موقف إنساني أثر بكم
في كل ليلة نسمع أصوات القصف بشكل مستمر تخرج سيارات الإسعاف إلى أماكن القصف تحضر الشهداء والجرحى، نستقبلهم في غرفة الطوارئ. في ليلة من الليالي جاءت سيارة إسعاف بها 3 أطفال جثث أحد هؤلاء الأطفال كان يلفظ نفسه الأخير، وضعوهم بجانب بعضهم وأخذوهم باتجاه المشرحة، ثم بعد ذلك بحوالي 10 دقائق جاء عدة أشخاص يبحثون عن ذويهم، أحد هؤلاء الأشخاص لمحته يبحث عن أطفاله الثلاثة؛ لا أنا ولا أحد من قسم الطوارئ امتلك الشجاعة الكافية ليخبر هذا الأب بأن أطفاله الثلاثة في المشرحة.
وكلما “أجول بخيالي” أشاهد نفسي أجلس في طوارئ مستشفى ناصر وهذا الأب يدخل باحثا عن أطفاله.
-
دكتور ماذا يحتاج القطاع الصحي حتى يعود كما كان قبل العدوان؟
القطاع الصحي بحاجة إلى كل شيء، القطاع الصحي بحاجة لكل شيء، يحتاج إعادة بناء للمستشفيات، بحاجة إلى تزويد بالأجهزة، بحاجة إلى ضخ العنصر البشري، بحاجة إلى دعم لوجيستي، ودعم نفسي، ودعم مادي للكوادر الطبية، بحاجة إلى تضافر الجهود سواء الفردية أو الدولية. الأطباء في غزة على قدر عال جدا من الكفاءة والعلم والمثابرة وعدم الاستسلام، ولكن زاد عليهم الأمر، وتعبوا في مسيرهم وبحاجة إلى الدعم الخارجي، وهذا هو واجبنا سواء في القطاع الطبي أو في شتى القطاعات المساندة للقطاع الطبي، لدعمهم صمودهم فهم محور صمود الشعب في غزة، القطاع الطبي هو آخر عمود في أعمدة صمود الشعب في الغزة. هذا خط الدفاع الأخير.