صدرت حديثا ترجمة “اللعبة القاتلة” للمسرحي والروائي والناقد السويسري فردريش دورنمات، من ترجمة الصحفي والمترجم العراقي كريم حسين، وهي رواية تتناول ذنب الفرد، بأحداث متماسكة وحبكة مثيرة وأسلوب شائق، وشخصيات غريبة الأطوار.

وتعد الرواية إدانة للطموح الذي لا يرحم والذي هو نتاج تطور عالمنا الصناعي، وللدمار الذي يمكن أن ينتج عندما يلاحق الأشخاص الأنانيون مصلحتهم من دون أي اعتبار لكيفية تأثير ذلك في الآخرين، فلا أحد يحمل سجلا نظيفا وخاليا من الآثام، كما يقول أحد شخصيات الرواية.

و”اللعبة القاتلة” بحدّ ذاتها حكاية أخلاقية صغيرة وبسيطة، ونظرة ثاقبة إلى القيم الشخصية، ولكنها على مستوى أكثر ثباتا، وهي تعليق على أعراف المجتمع الرأسمالي وأخلاقياته في القرن العشرين، ومن اقتباسات الرواية المهمة “جمال الجريمة أمر ضروري جدا لجمال العدالة.. (فـ) ليس ثمة عدالة بلا جريمة”.

ويستهلّ دورنمات قصته ببعض الأفكار المروية عن دور سرد القصص في عالم أوروبا ما بعد الحرب، ويخلص إلى أنه “في عالمنا الحديث، لا يزال من الممكن رؤية الطبيعة الأساسية للإنسان حيث تؤثر بعض المحن التافهة تأثيرا عرضيا على العالم وتظهر فيها الإنسانية بمظهر مبتذل، وحتى الحق والعدالة والفضيلة ربما تعبر عن نفسها متلبسة في منظار رجل عجوز مخمور”.

حسين: الترجمة استغرقت أكثر من عامين لطبيعة عملي الصحفي ونقلت بأمانة أفكارا للكاتب أراد توصيلها للقارئ (الجزيرة)

قصة الرواية

موضوع الرواية بسيط لكنه متعدد الدلالات عن ترابس مندوب مبيعات مصانع النسيج المتنقل الذي حصل للتو على ترقية وسيارة جديدة تتعطل في بلدة بعيدة، ويفترض أن يكون في سويسرا على الرغم من أنه قد يكون في ألمانيا أو النمسا أو في أي مكان آخر.

ويحصل ترابس على إقامة ليلية مجانية في منزل خاص فخم ومريح يملكه قاض سابق، ودعوة إلى عشاء فخم في تلك الليلة. ويتبين أن الضيوف الآخرين هم محامي دفاع ومدعٍ عام وجلاد سابق! وعلى العشاء، يدخلون بقوة في لعبة يتعرض فيها ترابس للاستجواب في محاكمة صورية.

والحبكة حول ترابس الغافل والمتغطرس الذي حوصر وسط مجموعة الرجال تبدو مثيرة، وسرعان ما ينقشع الغموض رويدا رويدا، ليترك القارئ يتساءل عما إذا كانت الاعترافات مجرد شعور متأخر بالذنب.

ويقول المترجم -الذي صدرت له أيضا مجموعات قصصية منها “لا تقتل من أجل الحب، وعندما يستيقظ الشر” إن هذه الرواية صادفته “كإدانة للطموح الذي لا يرحم والذي هو نتاج لعالمنا الصناعي والمُنظم، وللدمار الذي يمكن أن ينتج عندما يلاحق الأشخاص الأنانيون مصلحتهم دون أي اعتبار لكيفية تأثيره”.

وعن اختياره للرواية، يقول كريم حسين إنه يعتمد على الإحساس والتأثر بمضمون هذه الأعمال الأدبية “لذلك وقع اختياري على هذه الرواية من بين مجموعة من الروايات التي كانت بين يدي عند بدء الترجمة بسبب حبكتها البسيطة والمثيرة وأسلوبها الشائق ودلالاتها العميقة ونهايتها الدرامية”.

ويضيف للجزيرة نت “استغرق العمل في ترجمة هذه الرواية أكثر من عامين لعدم تفرغي للترجمة بسبب طبيعة عملي الصحفي، حيث أترجم في أوقات فراغي، وقد أخذت مني الترجمة جهدا كبيرا ومضنيا بسبب حرصي على أن تخرج كل جملة وعبارة فيها بأروع صورة ممكنة، وأن تكون دقيقة ومهنية وأن تنقل بأمانة الأفكار الرئيسية التي كان الكاتب يريد توصيلها للقارئ”.

الكوميديا والتراجيديا

واستطاع دورنمات من خلال القصة أن يمزج بين أسلوبه الكوميدي الممتع والتراجيديا المفعمة بالأسى، مقدما لنا نماذج غريبة ومتناقضة تعبر عن حيرته واضطرابه إزاء العلل الظاهرية والأزمات التي ابتليت بها حياتنا المعاصرة.

UNITED STATES - CIRCA 1980: Friedrich Durrrematt around 1980 in United States in 1980 - The writer, playwright and painter Swiss. (Photo by Monique JACOT/Gamma-Rapho via Getty Images)
دورنمات في الولايات المتحدة عام 1980 تقريبا (غيتي)

كان دورنمات بارعاً في توظيف السخرية والتهكم في أعماله الأدبية، وقد أجاد في ذلك إجادة تامة حتى أننا يمكن أن نضعه ضمن الصفوة المختارة من عباقرة هذا الفن في العالم.

وكان يرى أن العالم غير معقول، بيد أن ذلك لم يقده إلى اليأس لأنه كان يلمح في الأفق لإشراقة الأمل حتى في أشد اللحظات قسوة.

وأثرت دراسته الفلسفة والأدب تأثيرا كبيرا في أعماله الفنية من ناحية الشكل والمضمون. ويجدر الإشارة إلى أن دورنمات اشتغل في جزء مهم من حياته بالرسم. ووظف هذه الخبرة أكثر من مرة في أعماله الأدبية، ومنها على سبيل المثال شخصية الرسام في “زيارة السيدة العجوز” وشخصية “شفيتر” وشخصية “نيفنشفاندر” في مسرحية “النيزك”.

واتسم أسلوب الروائي السويسري أيضا بطابع الاستفزاز. وثمة فئات معينة كان يحب أن يستفزها كفئة رجال الدين والسياسة والطبقة البرجوازية التي كانت تنعم بالمال بيد أنها كانت تشكو خواء فكريا.

وابتكر دورنمات نوعه الخاص من الملهاة المأساوية، وهو شكل مختلط من المأساة والكوميديا، ويعتقد أنه “الشكل الدرامي الوحيد الممكن اليوم للتعبير عن المأساة”.

ويشير في نص له بعنوان “مشاكل مسرحية” إلى أن المأساة تفترض مسبقا “الشعور بالذنب والضيق والاعتدال والنظرة العامة والمسؤولية” من أجل تحقيق هدفها، وهو تنقية الفرد. ولكن في ظل تعقيد العالم الحديث يكون الشعور بالذنب غير واضح ويُدفع جانبا.

ولا ريب في أن دورنمات يتعرض في معظم أعماله للفلسفة والأخلاق، ويرى أن الحياة فظيعة وعمياء وفانية وتقوم على المصادفة. والعالم في نظره ليس سوى عالم مضطرب إلى حد الفظاعة، وعلى نحو لا يعرف الإنسان فيه أن يتلمس طريقه في الحياة ويبصر الواقع الذي أمامه.

كما أن سلوكه يقوم على المصادفة أو على حتمية لا قبل له على فهمها. ولهذا فإن دورنمات يسعى من خلال أعماله أن ينقل للناس فكرة أن العالم يحتاج إلى الوقائع الصلبة التي يقف عليها ولا يحتاج إلى الأوهام والأساطير. وعلى الأديب أن يفهم هذه الحقيقة ويصنع للناس أدبا واقعيا ملتزما.

شاركها.
Exit mobile version