“مشاعر تصنع تاريخا.. تأثير العواطف الجمعية من هتلر إلى أوباما” الصادر عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة، كتاب يصفه النقاد بأنه ملهم ومهم، لمؤلفيه لوك شومبي وإلكة إندرت، وهما اختصاصيان في الدراسات النفسية والاجتماعية في سويسرا.
استغرق إنجاز الكتاب سنوات طوالا عبر مناقشات بين اختصاصيين في مجالات معرفية متنوعة منها: التاريخ، علم النفس، علم الاجتماع، الأديان، وتحليل الخطاب وغيرها، والكتاب من ترجمة دكتورة علا عادل.
ولدت فكرة الكتاب من مشاهد سميت “ذكاء السرب”، ورصدت في أعلى جبال الألب على ارتفاع 1720 مترا تقريبا، حيث شوهدت أسراب هائلة من الغربان تقوم بحركات بهلوانية تدهش متسلقي الجبال، بما تمثله من نظام فائق، فالسرب يضم حراسا تتنبأ بأي مخاطر من خلال وجودها على قمم الأشجار، كما يضم أفرادا من الكشافة على أطرافه للبحث عن المزيد من الطعام.
وداخل السرب تنافس شديد، وهناك أيضا تعاون أشد، كما يتحكم “ذكاء السرب” في استهلاك الموارد، ما يردنا إلى فكرة الانسجام المعقول بين الإدراك والمشاعر الموجودة في جميع الأحياء، فالمشاعر والعقل لا يمكن فصلهما سواء في أسراب الطيور أو غيرها، ومن الممكن تحقيق ذلك عند الإنسان.
كفى غرورا
يقول المؤلفان “نحن كبشر بحاجة ماسة إلى تعلم المزيد في زمن يتهافت فيه الجميع على الاستهلاك، والمزيد من التقدم يقودنا إلى المزيد من التوتر والصراع، نحن في مرحلة تاريخية تفرض علينا نوعا من التواضع تجاه الكون والطبيعة، فكل هذا التقدم المذهل يقف عاجزا أما فيروس ضئيل الحجم (كورونا) يودي بحياة الآلاف يوميا”.
وتدور فصول الكتاب حول تأثير العواطف الجمعية على التفكير سلبا أو إيجابا، مع التمثيل بنماذج بشرية متنوعة تكشف عن ذلك التأثير، ويعرّف المؤلفان ما المقصود بالموقف الوجداني، من خلال التفرقة بين كل من العاطفة والشعور والوجدان، وصولا إلى التفرقة المهمة بين الوظائف الوجدانية والوظائف المعرفية، بل وإلى الطاقات الكامنة التي تبزغ من الخوف الجمعي أو الغضب أو الحزن أو السعادة في مواقف الحياة اليومية المتنوعة، أو خلال فترات تاريخية محددة استوقفت المؤلفين لتأملها وتحليلها.
لكن الأهم من كل هذا، هو الكشف عن التأثير الاجتماعي الانفجاري لمشاعر الخزي والذنب والذل الجماعية، لأنه التأثير الذي يقف وراء حالات خاصة جدا في تاريخ البشرية كحالة هتلر والنازية ومعسكرات التعذيب، وحالة قيام دولة إسرائيل، وحالة ممارساتها القمعية ضد الشعب الفلسطيني، وصولا إلى تفسير ما قد يكون قابعا وراء الحركات الإرهابية المتطرفة في العقود الأخيرة.
وفي فصل يغلب عليه الطابع الأدبي والحس اللغوي العالي، يتعرض الكتاب، إلى “هتلر، والاشتراكية القومية، النازية” من خلال تاريخ النازية في ألمانيا، وتاريخ هتلر من مولده إلى وفاته بالاعتماد على العديد من المصادر التاريخية، وكذلك الدراسات النفسية التي حللت شخصية هتلر ومشكلاته النفسية، بل وكذلك ما كتبه هتلر شخصيا عن نفسه في سيرته الذاتية الشهيرة “كفاحي”.
ويتعرض المؤلفان للصراع الفلسطيني الإسرائيلي من خلال عنوان فرعي دال “اشتباك تراجيدي بين اثنين من العوالم الذاتية المتناحرة” وهما يقفان موقفا مساندا للقضية الفلسطينية، وضرورة إنهاء معاناة الفلسطينيين، ويطالبان بضرورة التوصل إلى حل عادل يسمح للشعب الفلسطيني بإنشاء دولته المستقلة ويكون له السيادة الكاملة عليها، وينتهي المؤلفان إلى أن التفكير الخالي من المشاعر الوجدانية ليس ممكنا من الأساس، ونحن هنا بصدد الصراع الإسرائيلي الفلسطيني المشحون بالمشاعر لأبعد حد.
تأطير الصور وتأثير المشاعر
ومن ناحية أخرى، ربط المؤلفان الصراع العربي الإسرائيلي بصراع أكبر حدداه بأنه صراع الإسلام والغرب، وأشارا إلى أن الإسلام كعقيدة يقف في مواجهة الغرب ككيان، ردا على محاولة سحب صفة الإسلام على العرب فقط، ومن ثم تنحصر دائرة الصراع في الشرق وحده على العرب دون بقية الدول الإسلامية في بقاع أخرى من العالم.
وينطلق المؤلفان من فكرة أساسية أن العالم الغربي يؤطر العالم الإسلامي في صورة معينة، ولا يراه إلا من خلالها، وكذلك يفعل معه العالم الإسلامي. بل إن المؤلفين نفسيهما نظرا إلى العالم الإسلامي من منظور هذه الصورة، ولم يبحثا عن مصادر أصيلة وأساسية لفهم الإسلام والمسلمين، وبمنطق الاستسهال عادا إلى كتابات سطحية لم تساعدهما في شيء.
أما عن تأثير المشاعر الجماعية في تكوين الجماعات، فيعرض الكتاب لنماذج من تأثير المشاعر السلبية على هوية الجماعة، ويذهب المؤلفان لتقديم نموذج لدور المشاعر الإيجابية كالسعادة والود والحب في خلق روابط واستعداد للتعاون والتكاتف الاجتماعي البناء، والمثال الذي يعرضه المؤلفان هنا لشخصية كاريزمية أيضا هو الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، الذي وصفوه بأنه “باعث الأمل في هذا العالم”.
وفي نهاية الكتاب نقف أمام النتائج العملية التي أمكن للمؤلفين استنباطها من تأمل المنطق الوجداني الجمعي الذي كان مدار بحثهما، ومن ثم كيف تتاح الإفادة المجدية من تأثير المشاعر الجمعية على الفكر والسلوك الجمعيين أيضا في تسوية الصراعات والنزاعات بين الأطراف المتناحرة في العالم.