في ظل الأزمات العالمية المتشابكة التي تطبع المشهد السياسي والاجتماعي اليوم، يتزايد الاهتمام بتفسير الأنماط التاريخية التي تحكم صعود الحضارات وانهيارها، ودراسة العوامل الكامنة وراء تفكك المجتمعات المعاصرة.
كتاب “زمن النهاية: النخب، والنخب المضادة، والمسار المفضي إلى التفكك” للمفكر الأميركي ذي الأصل الروسي بيتر تيرشن، الذي صدر مؤخرا عن الهيئة العامة السورية للكتاب، ضمن مشروعها الوطني للترجمة، بترجمة الدكتور نايف الياسين، يقدم نموذجا تحليليا فريدا يمزج بين أدوات التاريخ الكمي والنمذجة الرياضية لتفسير الأزمات السياسية والاجتماعية.
ويمثل المؤلَف، الذي يقع في 350 صفحة، تتويجا لجهود معرفية امتدت لأكثر من ربع قرن، ويهدف لفهم الشروط التي تفضي إلى تماسك المجتمعات من جهة، وتلك التي تؤدي إلى تفككها وانحدارها من جهة أخرى، مع التركيز على الحالة الأميركية بوصفها نموذجا معاصرا لأزمة مركبة في طور التبلور.
ومترجم الكتاب حاصل على درجة الدكتوراه في الأدب الإنجليزي جامعة شرق أنجليا بالمملكة المتحدة، ويدرس في جامعة دمشق، وله عدد من المنشورات والكتب المترجمة.
أما المؤلف فهو أستاذ في جامعة كونيتيكت ورئيس مركز العلوم المعقدة في فيينا، وعالم أحياء تحول في العقدين الأخيرين إلى الاشتغال بالعلاقة بين التاريخ الكمي وعلم الاجتماع السياسي.
وقد كرس تيرشن أبحاثه لتطوير منهج تحليلي جديد يعرف باسم “الكليو دايناميكس” (Cliodynamics) وهو مجال بحثي عابر للاختصاصات يدمج “التطور الثقافي” و”تاريخ الاقتصاد” و”علم الاجتماع الكلي” و”النمذجة الرياضية” للعمليات التاريخية على المدى الطويل، بالإضافة إلى بنائه قواعد بيانات تاريخية وتحليلها.
ويسعى المؤلف من خلال هذا المنهج إلى دراسة الأنماط المتكررة لصعود النظم السياسية وانهيارها، اعتمادا على بيانات كمية طويلة الأمد وأدوات النمذجة المستمدة من العلوم الطبيعية.
قراءة في مسار التفكك الاجتماعي والسياسي
في كتابه يقدم ترشن تحليلا تنبؤيا مبنيا على قواعد بيانات واسعة ونماذج إحصائية معقدة، مفاده أن الولايات المتحدة تمر بمرحلة متقدمة من التفكك الاجتماعي، قد تفضي إلى انهيار النظام السياسي.
وقد بدأ المؤلف مشروعا بحثيا ضخما عام 2011 بمشاركة علماء من تخصصات متعددة، هدف من خلاله إلى جمع وتحليل بيانات تاريخية عن صعود الحضارات منذ العصور القديمة وانهيارها، وقد انتقل من اهتماماته في علم الأحياء إلى العلوم الاجتماعية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ليبحث في أنماط التدهور الاجتماعي عبر الزمن.
وينطلق تيرشن من فرضية أساسية مفادها أن
الأنظمة السياسية، بما فيها الديمقراطيات الليبرالية، لا تتمتع بمناعة تاريخية ضد الانهيار، بل تسير وفق دورات زمنية يمكن التنبؤ بها.
ووفقا لنموذجه، هناك 4 قوى بنيوية متداخلة تسهم مجتمعة في دفع المجتمعات نحو التفكك، وتشكل أعمدة أطروحته:
- أولها: الإفراط في إنتاج النخب، ويقصد به تزايد عدد الأفراد المؤهلين والمتطلعين لشغل مواقع النخبة، مقابل محدودية هذه المواقع. وهذا ما ينتج حالة من التنافس الحاد والانقسام داخل النخب ذاتها، ويرى أن الصراع بين فصائل النخبة العسكرية والمالية، والبيروقراطية والأيديولوجية يؤدي تدريجيا إلى تفكك داخلي يصعب إصلاحه.
- وثانيها: إفقار العامة حيث يؤدي اتساع الفجوة بين النخبة الحاكمة والجماهير إلى تآكل العدالة الاقتصادية، وتزايد مشاعر السخط والغضب الشعبي.
- وثالثها: ضعف الدولة، وهو ما يتمثل في تراجع قدرة الدولة على فرض الاستقرار وضبط التوازنات الداخلية، مما يفضي إلى اهتزاز شرعيتها.
- ورابعها: صعود النخب المضادة، وهم أولئك الطامحون الذين لم يجدوا موقعا في بنية السلطة القائمة، فلذلك يسعون إلى تقويضها عبر توظيف الاستياء الجماهيري واستغلاله للخروج عليها وانهيار حكمها.
ويقوم منهج تيرشن في كتابه على تفكيك الظواهر السياسية والاجتماعية من خلال نموذج كمي مركب، يستند إلى أمثلة تاريخية مستخلصة من الإمبراطورية الرومانية والثورة الفرنسية والحرب الأهلية الأميركية، فضلا عن تحليله التطورات الراهنة في الولايات المتحدة. ويظهر من خلال هذه النماذج الطريقة التي من خلالها تحدد الديناميات الداخلية في بنية المجتمعات مآلاتها، فتلك المآلات التي تحدث -على وجه الحقيقة- نتيجة لتلك العوامل الداخلية الفاعلة لا نتيجة للأحداث العرضية السطحية فحسب.
تضخم النخبة وأزمات متعددة الأبعاد
ومن أبرز ما يناقشه الكتاب ظاهرة “التضخم النخبوي” ومنها تلك الناتجة عن التوسع الكبير في التعليم العالي دون توفر منافذ موازية في المناصب العليا، الأمر الذي أدى إلى إيجاد طبقة من “النخب غير المشغلة” التي تمثل مصدر توتر دائم في المشهد السياسي، بحسب رأي الكاتب.
ويحلل تيرشن أيضا مفهوم “الأزمات متعددة الأبعاد” مشيرا إلى التفاعل المعقد بين الأزمات الاقتصادية والسياسية، ودور ذلك في توليد نمط من الفوضى التراكمية، يشبه من حيث بنيته “التفاعل المتسلسل” المعروف في الفيزياء.
ورغم عنوانه الذي قد يقرأ من منظور تشاؤمي “زمن النهاية” فإن تيرشن لا يتنبأ برؤية كارثية للعالم، بل يميز بين “نهاية النظام” و”نهاية التاريخ”. فهو لا يرى أن الليبرالية قد بلغت ذروتها النهائية، بل إن النظام السياسي والاجتماعي الراهن دخل في طور التفكك الذي يمكن تجاوزه -كما يظن- إن توفرت إرادة الإصلاح في اللحظات المبكرة من الدورة الانحدارية.
ويمتاز كتاب “زمن النهاية” بقدرته على الجمع بين الرصد التاريخي العميق والنمذجة العلمية الدقيقة، حيث يبتعد المؤلف عن التوصيفات الإنشائية السائدة في كثير من الكتابات السياسية، ليتبنى بدلا من ذلك أدوات تحليلية تقيس التحولات الكبرى بمعايير كمية، مستندا في ذلك إلى قاعدة بيانات ضخمة تتضمن قرونا من الوقائع والإحصاءات المرتبطة بالحروب والثورات والانهيارات الاقتصادية والتفاوتات الاجتماعية. وهذا التحليل ذو المستويات المتعددة يضع القارئ أمام مشهد متكامل لانهيارات متكررة يبدو أنها تخضع لمنطق داخلي صارم لا لفوضى عشوائية.
وما يميز طرح تيرشن هو رفضه لمركزية فكرة “النوايا السياسية” وأثر القرارات السلطوية السيئة بصفتها عنصرا تفسيريا وحيدا للانهيار السياسي، إذ يرى أن النظام السياسي حتى في لحظات القوة يمكن أن يقاد إلى التفكك بفعل عوامل بنيوية صامتة، مثل تراكم النخب الزائدة أو تآكل البنى الضابطة في الدولة.
إن من شأن هذه الرؤية أن تقوض السرديات السطحية التي تفسر الانهيارات بالفساد الفردي أو غياب القيادة، لتبرز بديلا علميا قائما على دورات زمنية يمكن ملاحظتها وقياسها والتنبؤ بها والحذر منها.

النقطة الحرجة
ومن النقاط المهمة التي تحسب لتيرشن في هذا الكتاب أنه يقدم مساهمة نظرية إضافية من خلال توضيح التفاعل المتبادل بين القوى الاجتماعية والاقتصادية والنفسية في تكوين لحظة الانفجار، حيث تتحول الضغوط المتراكمة تدريجيا إلى حالة أشبه ما تكون بما تسمى “النقطة الحرجة” التي تفجر النظام من داخله وتقوض أركانه، وهو ما يجعل من هذا الكتاب مرجعا مهما لفهم تعقيدات الحاضر عبر أدوات تحليلية تنبؤية تقيس على النماذج الماضية.
ويرى صاحب الكتاب أن الحل لتجنب الانهيار السياسي يكمن في معالجة اختلال التوازن بين النخب الحاكمة وعامة الشعب، ويدعو تيرشن إلى إعادة توزيع الثروة والتوزيع العادل للفرص، وتقييد الإنتاج المفرط للنخب، وتقليل الفجوة بين النخب والمجتمع من خلال إصلاحات اقتصادية واجتماعية تهدف إلى تعزيز الاستقرار وتجنب الانهيار السياسي.
ويمثل كتب “زمن النهاية” نموذجا رائدا في المزاوجة بين المنهج الكمي والتحليل التاريخي، ويعيد الأهمية لفكرة أن التاريخ ليس عشوائيا، بل تحكمه في كثير من الأحيان أنماط يمكن رصدها وتفسيرها، وفي حين قد لا يخلو الكتاب من مواضع للنقد، لا سيما في تعميم بعض النماذج على سياقات قد تكون مختلفة، فإنه يبقى مرجعا مهما يعين في فهم آليات التفكك المجتمعي في الأزمنة المعاصرة.