13/5/2025–|آخر تحديث: 17:01 (توقيت مكة)
شكلت الدعوة، التي وجهها المؤرخ الإيطالي والأكاديمي البارز المختص بالتاريخ الإسلامي، ماركو دي برانكو، لتقديم رواية “الشوك والقرنفل” للقائد الفلسطيني الراحل يحيى السنوار في جامعة لا سابينزا الإيطالية، مفاجأة لجميع المراقبين في الساحة الثقافية الإيطالية، خصوصا أن الحدث الذي احتضنته الجامعة في الخامس من مايو/أيار الماضي، بحضور الناشر دافيدي بيكاردو، تناول عملا لم يتوقف عن إثارة الجدل منذ صدوره بالترجمة الإيطالية في ديسمبر/كانون الأول الجاري عن دار لا لوتشي بميلانو.
فالترجمة التي تعد الأولى لكتاب السنوار في دولة غربية أثارت لغطا واسعا، منذ أن حط الناشر ضيفا على البرنامج الإذاعي الأشهر في إيطاليا “لا زنزارا” (La zanzara) للإعلان عن صدورها حيث اتهمه في الحلقة الإعلامي ديفيد بارينزو بأنه “يروج للإرهاب”، في حين أكد بيكاردو أن “السنوار شخصية ملهمة لا تقل تأثيرا عن تشي غيفارا في الوجدان الإنساني المقاوم”، واعتبر أن “تجاهل النتاج الفكري والإبداعي للشهيد السنوار يعد خسارة لكل من يرغب في الاطلاع على تاريخ النضال الفلسطيني”.
لكن الزوبعة التي أثارها العمل ودفعه لتصدر عناوين كافة الصحف الإيطالية الكبرى كانت نهاية فبراير/شباط الماضي عندما أعلنت دار النشر عن تقديم الرواية في جامعة لا سابينزا بروما في حدث من تنظيم “الطلبة الفلسطينيين بإيطاليا”، لتشنّ مباشرة بعدها الصحافة اليمينية والجالية اليهودية في إيطاليا حملة على الناشر والجامعة لسماحهما ببرمجة اللقاء، وتخرج جامعة لا سابينزا بعدها بأيام وتعلن عن إلغاء الحدث بدعوى أنها لم تكن مطلعة على كافة حيثياته، وبالتزامن مع ذلك أوقفت منصة أمازون بيع الكتاب.
تداعيات الأزمة لم تتوقف عند هذا الحد، بل تفاقمت بعد أن أصر “الطلبة الفلسطينيون بإيطاليا” على انعقاد الحدث باليوم نفسه (5 مارس/آذار) ولكن في قاعة أخرى يسيّرها طلبة إيطاليون من تشكيلات يسارية، وذلك رغم منع الجامعة رسميا احتضان النشاط، وهو ما أثار جدلا واسعا على وسائل الإعلام حول التداعيات التي من شأنها أن تخلفها الندوة التي كان من المفترض أن يقدمها دافيدي بيكاردو، رفقة مايا عيسى ناشطة ممثلة لـ”الطلبة الفلسطينيين بإيطاليا”.
وعقب ذلك بأيام قليلة، شهدت الأحداث انعطافة غير متوقعة عندما أعلنت ممثلية عن التشكيلات اليسارية لطلبة الجامعة عن رفضها منح القاعة لإقامة الندوة. وقد خرجت بمنشور مطول على إنستغرام تبرر خطوتها المفاجئة، من بين ما أتى فيه أن ناشر كتاب السنوار الإيطالي لا يدعم الشواذ جنسيا وهو ما اعتبروه “خيانة لنضالات المضطهدين في العالم”.
ليخرج دافيدي بيكاردو بعدها بافتتاحية على صحيفة “لا لوتشي” اتهم فيها هذه التشكيلة اليسارية بتعريض كتاب السنوار لمنع ثلاثي بعد المنع الصهيوني واليميني، وأطلق عليهم اسم “الكولونياليين الذين يزعمون محاربة الكولونيالية”، وندد بممارستهم للاستعمار الثقافي وبازدرائهم لديانة الشعب الفلسطيني، ودعاهم للتخلص من أوهامهم الأيديولوجية وسعيهم المحموم لفرض توجهاتهم على بقية الشعوب.
وفي الوقت الذي بدا فيه أن الأحداث قد بلغت مداها، بفرض حصار تام وعزل كامل لرواية السنوار من جميع الأطراف في إيطاليا، خرج الأكاديمي والمؤرخ البارز ماركو دي برانكو، أستاذ التاريخ الإسلامي في جامعة لا سابينزا، ليعلن عن تنظيم تقديم لكتاب يحيى السنوار في الجامعة ضمن لقاء حضره الناشر دافيدي بيكاردو، وعدد من أساتذة القسم، بحضور طلابي كبير.
حِسّ المؤرخ الرصين الذي لا يؤمن بحظر أي سردية من شأنها أن تساهم في تشكيل صورة كاملة عن أي حقبة تاريخية مهما كانت حدة الصراعات الأيديولوجية والسياسية التي تحفها، كان هو بطل الحدث الذي جرى ضمن أجواء علمية هادئة، ظهرت فيها المسؤولية الأخلاقية لدى دي برانكو حيال تاريخ الشعب الفلسطيني الذي يكتبه اليوم بدمائه:
“في هذه اللحظة المفصلية والمأساوية التي يعيشها العالم لا يمكن أن ندّعي بأن لا شيء يحدث من حولنا وذلك ليس من منظور سياسي فحسب بل من منظور يتعلق بكتابة التاريخ نفسه”.
وواصل المؤرخ الإيطالي تقديمه “للشوك والقرنفل” مؤكدا على أهمية رواية السنوار لناحية الظروف المحيطة بتلقيها في إيطاليا: “وعلى الرغم من أنني مختصّ بتاريخ القرون الوسطى إلا أن النص الذي نناقشه اليوم تنبع أهميته من كونه يعد من دون أدنى شك وثيقة تاريخية، تعرضت لنوع من أنواع الحظر الناعم”.
وندد الأكاديمي الإيطالي، الذي يعد من أبرز وجوه جامعة لا سابينزا التي تضم أكبر عدد من الطلبة في إيطاليا، بالمنع الذي أحاط بخلفيات تقديم كتاب السنوار قبل أسابيع: “هذا المنع مرفوض خصوصا أن إدارة الجامعة نفسها لا تزال تقيم علاقات مع الجامعات الإسرائيلية زاعمة بأن ذلك يصب في إطار دعم جهود السلام وأن الثقافة لا بد أن تعلو عن السياسة، لكن عندما تجري محاولة تقديم السردية المقابلة يتم حظرها بالشكل الذي رأيناه جميعا”.
ودعا المؤرخ لاحترام وجهات النظر جميعها من خلال اعتماد النهج العلمي ومحاولة فهم وجهات نظر جميع الأطراف: “لذلك أجدني اليوم أدعو دافيدي بيكاردو الذي قرر في هذه اللحظة المأساوية من التاريخ الفلسطيني نشر رواية يحيى السنوار، القائد السياسي لحركة حماس”.

ووصف دي برانكو نص السنوار بأنه: “نص شديد الأهمية لأنه يشكل تقريرا مفصلا عن حياة شباب فلسطيني يعيش تحت الاحتلال كتب نصه من داخل السجن”، وشدد دي برانكو على أننا أمام وثيقة تاريخية أساسية من شأنها أن تفيد المؤرخين في المستقبل لكتابة التاريخ الفلسطيني: “بعد 50 عاما أو 100 عام من اليوم سيخبرنا هذا النص ما الذي يعنيه الاحتلال الذي تعرضت له فلسطين”.
بعد 50 عاما أو 100 عام من اليوم سيخبرنا هذا النص ما الذي يعنيه الاحتلال الذي تعرضت له فلسطين
وفي سياق تقديم بيكاردو للنص شدد هذا الأخير على خلو الرواية من أي مشاعر للحقد أو الكراهية، بل العكس تماما حيث كانت تكتنف العمل مشاعر المؤمن المطمئن لقضاء الله. ليستطرد مباشرة دي برانكو في أن السنوار كان يواجه في روايته مفهوم “المكتوب” في الثقافة العربية، وأن عاطفة الكاتب الهادئة كما ظهرت في النص، من شأنها أن تثير استغراب القارئ الغربي لكونه لا يشف عن أي مشاعر كره لليهود أو ما يعرف بمعاداة السامية، وهو ما اعتبره المؤرخ الميزة الأبرز في العمل.
من جهته، عبر دافيدي بيكاردو عقب الندوة، في منشور تناقلته وسائل الإعلام، عن تقديره لشجاعة الدكتور ماركو دي برانكو في استقبال رواية السنوار “التي تعرضت للشيطنة والمنع”، وهي الخطوة التي مسحت بحسب بيان بيكاردو عار الجامعة الإيطالية. ليخرج بعدها، لوكا سبيزيكينو، رئيس “اتحاد الشبيبة اليهودية في إيطاليا” على صحيفة “إل فوليو” اليمينية، ويعتبر ما حصل في لا سابينزا على يدي دي برانكو “تجاوزا صارخا لكل الخطوط الحمر”.
يذكر أن ماركو دي برانكو (1966) هو أستاذ التاريخ الإسلامي في جامعة لا سابينزا، من بين إصداراته “قصص عربية عن الإغريق والرومان: اليونان وروما في القصص العربية في القرون الوسطى” (2004)، “ابن تيمية: رسالة إلى قائد صليبي. ترجمة وتعليق” (2004)، “الإسكندر الأكبر: بطل عربي في القرون الوسطى” (2011)، وترجمة النص الأندلسي “كتاب هروشيوش” (2024) الحائزة مؤخرا على جائزة الشيخ زايد للترجمة.