يرى البروفيسور البريطاني تيموثي ميتشل أن مفهوم الحداثة الغربية ليس حكرا على الغرب، بل نتاج تفاعل مع الشرق، وأن الخبراء الدوليين الذين تستعين بهم دول نامية ليسوا محايدين، بل أدوات لتطبيق أجندات محددة.

 

وفي حلقة جديدة من برنامج “المقابلة” فند ميتشل أستاذ دراسات الشرق الأوسط بجامعة كولومبيا أطروحات مركزية الحداثة الغربية، معتبرا أن التاريخ الاستعماري الغربي أنتج مجموعة من الأفكار التي لم تخضع للنقد الكافي، وأن دراسة مناطق خارج الغرب يمكن أن تساعد في إعادة التفكير بتلك الأفكار.

وانتقد ميتشل النظرة التقليدية للحداثة بوصفها منتجا غربيا يعمم على العالم، مشيرا إلى أن الحداثة نشأت في سياق تفاعلي بين الغرب وبقية العالم، وأنها ليست مرحلة عالمية حتمية من التاريخ، بل طريقة خاصة لتنظيم العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر.

وولد ميتشل في جنوب لندن مطلع الخمسينيات، وتلقى تعليمه في كامبردج وبرينستون، قبل أن ينتقل إلى جامعة كولومبيا، ويعد اليوم من أبرز الباحثين في تاريخ الشرق الأوسط، وهو متزوج من الأكاديمية الفلسطينية الأميركية ليلى أبو لغد، وينشط في دعم القضية الفلسطينية ومقاطعة إسرائيل.

وعن سبب اختياره مصر ميدانا لدراساته، قال ميتشل إن مصر هي التي اختارته بعد زيارته الأولى للقاهرة لتعلم اللغة العربية، إذ أقام علاقات مع علماء مصريين، ووجدها المكان الأنسب لمواصلة أبحاثه عن تاريخ وسياسة العالم العربي، وقلب الحياة الفكرية في المنطقة.

ويرى ميتشل أن كتابه “استعمار مصر” لم يتناول فترة الاحتلال البريطاني المباشر فحسب، بل المواجهة الأوسع بين مصر وتجربة الحداثة الغربية منذ عهد محمد علي باشا، مشيرا إلى أن الاستعمار ليس مجرد احتلال أجنبي، بل هو تفاعل شامل بين منطقة عربية وتجربة الغرب.

ويوضح أن كتابه يفتتح بملاحظات علماء مصريين زاروا أوروبا في القرن الـ19، وتفاجؤوا بتنظيم الأوروبيين حياتهم وتقديمهم المعرفة بطريقة تجعلها تبدو أكثر واقعية، وهو ما سماه “العالم كمعرض”، إذ يسعى الغرب إلى تكوين صور للعالم تبدو نسخا دقيقة للواقع.

مواجهة مع الحداثة

ويشير ميتشل إلى أن الاستعمار في مصر لم يكن احتلالا مباشرا حتى ثمانينيات القرن الـ19، لكنه كان مواجهة شاملة مع الحداثة الغربية، وأن المصريين لم يتقبلوا المصطلحات والمفاهيم التي جاء بها الأوروبيون، والتي لم تتناسب مع طرق عيشهم وترتيب حياتهم.

وبشأن تقييمه حقبة محمد علي باشا، يرى ميتشل أنها مثلت نوعا جديدا من الحكم القائم على القوة العسكرية، ومحاولة لتحويل البلاد زراعيا وعسكريا، لكنها واجهت حدودا بسبب طبيعة القوة العسكرية المفرطة التي مورست على السكان.

وفي سياق حديثه عن الأثر الاقتصادي لتلك الحقبة، أوضح ميتشل أن التحول الاقتصادي في مصر ارتبط بإنتاج وتصدير القطن إلى أوروبا، واندماج مصر في اقتصاد عالمي تهيمن عليه أوروبا، لكنه يرى أن بعض جوانب هذه القصة أسيء فهمها من منظور بريطاني.

ويضيف أن البريطانيين عندما وصلوا إلى مصر في ثمانينيات القرن الـ19 اعتبروا نظام الري المصري فاشلا، وغيّروه جذريا ببناء السد المنخفض في أسوان، وهو ما صوره البريطانيون على أنه تحول في إمكانيات البلاد، في حين يراه ميتشل تدميرا لنهر النيل.

ويشير ميتشل إلى أن الهيمنة الغربية على مصر لم تقتصر على الاحتلال العسكري، بل شملت الجانب المالي بوصول المصرفيين الذين أغرقوا الحكومة المصرية بالديون لتمويل مشروعات التنمية، وهو ما أدى لاحقا إلى الاحتلال البريطاني.

ويرى ميتشل أن مصر كانت لديها فرصة لاتباع مسار مختلف في بناء دولتها واقتصادها، مشيرا إلى أن نظام الزراعة الذي تطور في القرن الـ19 كان يعتمد على التنوع الزراعي والمحاصيل الغذائية بدلا من مجرد القطن للتصدير، لكن قوة التمويل الأوروبي حالت دون ذلك.

خبراء غير موضوعيين

ويؤكد ميتشل أن الخبراء الدوليين ليسوا موضوعيين، وأن كل خطة علمية يقدمونها ليست إلا تطبيقا لأجندة سياسية اقتصادية معينة، مشيرا إلى أن خطاب الخبراء يقوم على انتقاد الدول النامية ووصفها بالرجعية، وتحميل ثقافتها أسباب الفشل الاقتصادي والسياسي.

وينتقد ميتشل التعالي الذي مارسه البريطانيون والأميركيون في تعاملهم مع مصر وكأنهم يمتلكون المعرفة الكاملة، في حين فشلوا في كثير من المجالات، ويرى أن هذا الفشل لم يكن دائما بسبب عدم امتلاك المعرفة، بل بسبب عدم الجدية في نقل المعرفة الحقيقية.

ويشير ميتشل إلى مفهوم “جغرافيا الحداثة”، ويرى أن الحداثة ليست منتجا غربيا خالصا، بل هي نتاج مشترك، وأن النظرة المعيارية التي تحصر الحداثة في الغرب خاطئة، مؤكدا أن الحداثة تبدو مختلفة تماما عند قراءة تجارب أولئك الذين كانوا في طرف المتلقي لها.

وينتقد ميتشل التفسير الثقافي والاقتصادي لمشكلة الديمقراطية في العالم العربي، ويرى أن الديمقراطية تنبع من القدرة على قول “لا”، وأن النفط يصعّب هذه القدرة مقارنة بالفحم الذي مكن العمال في القرن الـ19 من رفض السلطة والمطالبة بحقوقهم.

ويوضح أن النفط يختلف عن الفحم في كونه سائلا يسهل نقله وشحنه، مما يصعب على العمال استخدامه سلاحا سياسيا، مشيرا إلى أن مشاكل النفط للديمقراطية لا تقتصر على العالم العربي، بل تمتد إلى الغرب، إذ أدى توفر النفط إلى إضعاف قوى الديمقراطية.

وبشأن التحديات التي تواجه الديمقراطية اليوم، يرى ميتشل أن صعود أشكال السياسة الشعبوية هو أحد التهديدات، مشيرا إلى تراجع حرية الصحافة في بريطانيا وتآكل الجانب الديمقراطي في المؤسسات، بما في ذلك الجامعات.

ويختتم ميتشل حديثه بالتمييز بين النموذجين الاستعماريين الأوروبي والأميركي، موضحا أن أميركا لم تضطر إلى تطوير قوتها الإمبريالية عبر الاحتلال الاستعماري المباشر، بل اعتمدت على أساليب أخرى، مثل القوة العسكرية والاقتصادية والثقافية.

شاركها.
Exit mobile version