أحمد يوسف عقيلة قاصٌّ ومدوِّن ليبي، وباحث في التراث الشعبي، وأحد المهتمين بالبيئة، تُرجمت بعض أعماله إلى اللغات الفارسية والتركية والإنجليزية والفرنسية والإيطالية، وُلد عام 1956 في الجبل الأخضر شرقي ليبيا، حيث درس حتى المرحلة الثانوية ليلتحق بقسم الآداب في جامعة بنغازي العريقة عام 1979، قبل أن يقض قرابة 8 أعوام (1981-1988) في الخدمة الإلزامية بالجيش في عهد العقيد الراحل معمر القذافي.

يمثل عقيلة حالة إبداعية خاصة ومميزة في ليبيا، وتجربة ممتلئة بالتفاصيل، تعتمد على اللغة والمكان كحيّزين أساسيين، تنهل من بيئتها الغنية، وتناقش أعقد القضايا عبر رؤيتها الخاصة وشجَنها القريب، تجربة تتعامل مع الحياة والكتابة بإخلاص شديد، كانت وستظل القصة القصيرة هي محور حياته، يلتقط ويتأمل ويكتب وينشر بفكر مؤسسة كاملة قادرة على إيصال صوته إلى أصقاع الأرض البعيدة، ممسكا بخيط السرد الذي لا يُفلته إلا ليلتقطه من جديد كأنه يطبق مقولة الناقد الفرنسي تود وروف “السرد يعادل الحياة، وغياب القصص يساوي الموت”.

الجزيرة نت التقت أحمد يوسف عقيلة، فكان هذا الحوار:

  • بداية وقبل كل شيء، لماذا لا نستطيع الكف عن رواية القصص؟

الكف عن رواية القصص هو الكف عن الحياة، هو الكف عن الحلم وعن الوهم أيضا، فنحن لا نستطيع العيش من دون وهم، ثم إن القصة هي محاولتي لإعادة صياغة هذا العالم بطريقة أخرى، لا أدّعي أنها الأفضل، لكنها نظرتي للحياة، القصة أيضا وسيلتي لانتقاده، وأحيانا للانتقام منه! أنا أيضا أعاقب الناس في قصصي، وأقتلهم أحيانا، وأشعر براحة لذلك! فالموت جزء من الحياة، لا يمكنها الاستمرار من دونه، غير أن موت شخص في القصة أبعد دلالةً من موته البيولوجي.

الأشياء المختزلة تبقى في الذاكرة مدة أطول، وأنا بطبعي لا أميل إلى كثرة الكلام، لذلك أجد القصة تعبّر عمّا أريد قوله باختصار

  • كيف للقصص القصيرة أن تُحدث تأثيرًا يفوق مطولات الكتب أحيانا، فمن أين امتلكت كل هذا التأثير؟

ومضة البرق في الظلام أكثر إدهاشا من نهار ساطع، النظر إلى السماء من خلال نافذة صغيرة يحرّك المخيّلة، الأشياء المختزلة تبقى في الذاكرة مدة أطول، وأنا بطبعي لا أميل إلى كثرة الكلام، لذلك أجد القصة تعبّر عمّا أريد قوله باختصار، كثير من أصدقائي طلبوا مني كتابة الرواية، وهذا أمر مخيف بالنسبة لي، مساحة الرواية تُخيفني، من أين لي بالبذار الذي يغطّي كل هذا الحقل الواسع؟

  • مع الانقلابات الأسلوبية التي تفرضها الكتابة الإبداعية، ماذا عن تقنيات السرد التراثي في إبداعات أحمد يوسف عقيلة القصصية؟

إنني مدين للأدب الشعبي، فقد تعلمت من أساليب السرد الشعبي الكثير في كتابة القصة، ففي قصة بعنوان “عصافير”: (في السفح غابة، في الغابة شجرة بلوط، في البلوطة عُشّ، في العُشّ طائر، تحت الطائر بيض، في البيض عصافير) إلى آخر القصة، فعندما بدأْتُ كتابة هذه القصة كنت أنسج على منوال الحكاية الشعبية المعروفة “أم بسيسى”، التي تعتمد على هذا الأسلوب في التوالي والتراتبية، (يا بَيْت عطيني نار، والنار للحَدّاد، والحَدّاد يسنّ لي المناجل، والمناجل للحَصّادة، والحَصّادة يعطوني غمْر، والغمْر للفرَس..)، فالكلمة التي تنتهي بها الجملة الأولى تبتدئ بها الجملة الثانية، وهذا التكرار الظاهري يخلق نوعا من الإيقاع، و”التكّات” المتصاعدة، هو في انتظامه أقرب إلى خبب الخيل.

كتاب أحمد يوسف عقيلة عن “غناوة العلم” الليبية (الجزيرة)

كذلك كان في ذهني إيقاع “المجرودة”، وهي شكل معروف من أشكال الشعر الشعبي، التي تعتمد على هذا التكنيك في التوالي والتراتبية أيضا، فالكلمة التي ينتهي بها المقطع الأول يبتدئ بها المقطع الثاني، فلماذا نذهب بعيدا في البحث عن أسلوب وإيقاع؟

  • ألا ترى أن الشخصيات القادمة من ذاكرة المكان يصعب على المبدع الانتصار لها على حساب الأحداث؟ وهل في تقديرك أن كل أبطال قصصك نالت حظها في تحليل الشخصية؟

أنا أستقي قصصي من اليومي والمعتاد، وذاكرة المكان الذي أعيش فيه غنية بالشخصيات، فأنا أعيش خارج المدن وحتى القرى، وشخصيات قصصي في معظمها من كائنات الطبيعة، حتى العنكبوت من الممكن أن يكون شخصية رئيسية في قصصي، فهو يصنع الحدث بامتياز، فشخصية البطل المألوفة أصبحت نمطية، شخصيات الطبيعة أكثر ثراء، ومحمولها الدلالي أغنى، الكائنات المهمّشة التي لا يلتفت إليها العابرون هي التي تستهويني، تتملّكني، فالهامش في كثير من الأحيان أكثر ثراء من المتن.

  • التراث الشعبي مروياته غالبا غير مكتملة وأحيانا قصيرة جدا بحجم “غناوة العَلَم”، بوصفك باحثا في هذا المجال، ما أكثر ما راعك وما أكثر ما هدأ من روعك في رحلة الغوص في هذا البحر العميق؟

مرويات التراث الشعبي غنيّة بالأساطير والخرافات وأساليب السرد المتنوعة، ومنها تعلّمت الاختزال، تعلمت من “غنّاوة العَلَم” كيف ألملم الفكرة في أقل كلمات ممكنة، الاختزال وقاية من الثرثرة، ما يُعبَّر عنه في صفحة واحدة لماذا نكتبه في عدة صفحات؟ وكأن السرد مقصود لذاته، فأنا لا أريد أن أقع تحت طائلة إغراء الكتابة، فأسترسل دون أن أقول شيئا.

  • لديك موقفك الخاص من البيئة والمحافظة عليها، ولذلك تأثير واضح في كتاباتك وعناوينها، كيف يستطيع القاص استبدال العزلة بين الغابات والجبال بالمجتمع والناس -أصل الحكايات- ليروي حكاياته أحيانا على لسان حيوان أو حشرة كما في “حكايات ضفدزاد”؟

الحيوانات والحشرات تُشكِّل نوعا من المجتمع الموازي، فيه كل ما في المجتمع البشري من علاقات وصراعات، واستحضارها غني بالدلالات، بالإضافة إلى عوالمها الخاصة الأكثر تشويقا من عوالم الناس، وأنا لا أتجول في الغابة كسائح، بل أكون جزءا منها، أنحني على مسارب النمل، أتأمّل، وأنصت، أحيانا آخذ معي عدسة مُكبِّرة لأرى الكثير من التفاصيل، بالطبع وجود الحمار في القصة ينبغي أن يختلف عن وجوده في الحقل، كما يقول ليونتير ويسل “وجود الصرصار في القصة ينبغي أن يختلف عن وجوده في المطبخ”.

نحن في زمن تداخلت فيه السلطات.. جنرال الجيش يُصدر الفتاوى، ورجل الدين فتاواه أشبه بأخبار سياسية عاجلة، بل رجل الدين أقرب إلى رجل الأمن، فهو يُخبرك دائما أن مجرد انتقاد الحاكم يُعد خروجا عن الدين

  • تُرجمَت كتاباتك إلى عدة لغات أجنبية منها الفرنسية، واحتُفي بمجموعتك “الخيول البيض” في جامعة تولوز بفرنسا، هل من معايير محددة لما يُختار للترجمة إلى لغات أخرى ليصل إلى قراء آخرين؟

حين أكتب لا تكون مسألة الترجمة في ذهني، ولا أكتب وفق معايير محددة، حتى إنني كتبت القصة القصيرة دون دراية بتعريفها، فيما بعد اطلعت على التعريفات والمعايير، وأحمد الله أنني كتبت القصة دون الاطلاع على تعريفها! لأن التعريف تحديد وتأطير، ومن الصعب وضع الإبداع في إطار محدد، فالإبداع من طبيعته التجاوز. وقد سألت السيد إدغار ويبير مترجم قصص “الخيول البِيض” إلى الفرنسية، إلى جانب الدكتورة رشا نجم، عن سبب اختياره لهذه المجموعة بالذات، فقال لي إنه اطلع على المجموعة وأعجبه احتفاؤها بالطبيعة، وعوالمها الأقرب إلى الميثولوجيا.

  • مع كل التغيرات التي حدثت في المنطقة منذ 2011، وكل هذا الانفتاح الذي أتاحته شبكات التواصل الاجتماعي، هل ما زال الحديث عن “التابوهات” واردا؟

التحقت بالمدرسة الداخلية منذ السنة الأولى الابتدائية، وهناك كان صدامي مع السلطة، سلطة أخرى لم آلفها في النجع، سُلطة الناظر والمعلم والمشرف الليلي للقسم الداخلي، وحتى رئيس الفصل، وغالبا كانت العصا في يد كل منهم.

هاجس السُّلطة يكاد هو الثيمة الأساس في قصصي.. ليست السُّلطة بمعناها التقليدي فقط.. بل مُطلق سُلطة.. فأنا أرى أن معظم شؤون الحياة يقوم على السّلطة، سلطة الغرائز، الجوع والعطش والخوف سُلطات يومية، الحُبّ سلطة، الزمن سُلطة.

بعض أعمال أحمد يوسف عقيلة
كتابات أحمد يوسف عقيلة تمثل تجربة ممتلئة بالتفاصيل تعتمد على اللغة والمكان (الجزيرة)

قبل 2011 كانت السلطة السياسية مركزية، كان هناك خط أحمر واحد، واضح ومحدد، ونعرف كيف نتحايل في الكتابة عنه، بعد 2011 تشظّت السلطة وأصبحت أفقية، وكثرت الخطوط الحمر، واستولت جماعات إرهابية على مدن ومناطق بكاملها.. ما أصعب أن تكون قاصا في زمن الإرهاب.. زمن استعراض السكاكين على الشاشات في أيدي أناس بلا وجوه.. زمن البوّابات والحواجز الأمنية.. في إحدى البوّابات استوقفَنا ملثمون.. وحين عرفوا أننا كُتّاب قالوا “نحن الآن نقوم بتصفية أفراد الجيش والشرطة.. الكُتّاب دورهم لم يأتِ بعد”.. وأطلقوا سراحنا.. بعد أن وصفوا لباسنا الإفرنجي بأنه “لباس الصليبيين”!

حتى المؤسسة الدينية، إذا صح أنها مؤسسة، تشظّت وطالها الاصطفاف، وأصبح حتى الإعلان عن هلال العيد نوعا من السبق الصحفي! ورجل الدين ولا أقول الفقيه في كل جمعة يخشخش لنا بمفاتيح الجنة من فوق المنبر.. ونصّب نفسه بقرار حكومي حارسا للفضيلة، وهذه قضايا مُثبتة في المحاكم.. والسؤال: كيف يكونون حُرّاسا للفضيلة وهم جزء من حكومة فاسدة ويتلقّون ميزانيتهم منها؟ ثم إن “حرّاس الفضيلة” تسمية من مخلّفات العصور الوسطى المسيحية، جاءت بها الأوقاف لا أدري عن دراية أو جهل، فالتطرف الديني واحد في كل الديانات.

نحن في زمن تداخلت فيه السلطات.. جنرال الجيش يُصدر الفتاوى، ورجل الدين فتاواه أشبه بأخبار سياسية عاجلة، بل رجل الدين أقرب إلى رجل الأمن، فهو يُخبرك دائما أن مجرد انتقاد الحاكم يُعدّ خروجا عن الدين.

أنا خائف جدا، ليس من السلطة وإن كانت مخيفة على كل حال، بل مرعوب من المباشرة، فذلك ينزع عني صفة القاص، ثم إنني أريد أن أكتب شيئا يبقى، ولا أرهن كتاباتي لشيء مؤقت

لكن مع كل هذا، ينبغي على القاص ألّا ينجر إلى الحديث عن السلطة بشكل مباشر، يجب ألّا ينسى أنه يمارس فنا، والمباشَرة لا علاقة لها بالفن، يمكن لأي أحد أن يكتب منشورا على صفحته ليسبّ السلطة، لكن هذا ليس عمل القاص.

قال لي أحدهم “أراك في كتاباتك ترمز، وتتجنب الحديث المباشر، فلماذا تخاف السلطة إلى هذا الحد؟”، فقلت له بالفعل أنا خائف جدا، ليس من السلطة وإن كانت مخيفة على كل حال، بل مرعوب من المباشرة، فذلك ينزع عني صفة القاص، ثم إنني أريد أن أكتب شيئا يبقى، ولا أرهن كتاباتي لشيء مؤقت، تزول الكتابة بزواله.

شاركها.
Exit mobile version