لا يبدو 2025 في روزنامة المملكة المتحدة الثقافية مجرد محطة اعتيادية لطي صفحة عام وفتح أخرى. ففيه، تتواطأ التواريخ لتجمع في سلة واحدة حصاد قرون متباعدة: حكمة القرن السابع عشر التأسيسية، ورومانسية القرن الثامن عشر الاجتماعية، وانفجار الحداثة في الربع الأول من القرن العشرين، وصولاً إلى أسئلة الذكاء الاصطناعي في راهننا المعاصر.
الجزيرة البريطانية كانت أقرب ما يكون إلى مختبر مفتوح، يعيد قراءة هوية الغرب الثقافية عبر رموزها الأكثر رسوخاً. هنا، نحاول رسم خريطة بانورامية لهذا المشهد، حيث يتجاور «فرانسيس بيكون» مع «جين أوستن»، وتتصالح ضبابية لندن «فيرجينيا وولف» مع صخب برادفورد عاصمة الثقافة الجديدة في الشمال.
ربع ألفية جين أوستن… أيقونة متجددة
الحدث الذي يُلقي بظلاله الرقيقة والساخرة على المشهد الأدبي مع نهاية العام، هو الاحتفال بمرور ربع ألفية على ميلاد الروائية الإنجليزية الأشهر، جين أوستن (1775-1817) التي تحولت عبر العقود إلى «ظاهرة ثقافية» عابرة للأزمنة، أو ما يصطلح عليه مؤرخو الفكر بـ«هوس أوستن».
مقاطعة هامبشاير، حيث يقع منزلها في قرية «تشوتون»، صارت قبلة للحجيج الأدبي، وتجاوزت الاحتفالات حيز الجغرافيا لتستعيد «اللحظة الأوستينية» في التاريخ. فقد دفعت دور النشر البريطانية العريقة مثل «بنغوين» و«فينتج» بطبعات خاصة من الروايات الستة الخالدة، ونشرت عدة دراسات نقدية جديدة تفكك سر بقاء هذه النصوص طازجة في زمان «التيك توك». وأصدرت دار «فيرسو» سيرة غرافيكية مميزة رسمتها كيت إيفانز.
مدينة «باث» التاريخية، التي خلدتها أوستن في «دير نورثانجر» و«إقناع»، تحولت شوارعها الحجرية إلى متحف حي، وغداً المهرجان السنوي للاحتفاء بها أكبر من مجرد كرنفال للأزياء التاريخية من فترة ما قبل العصر الفيكتوري، ليكون منصة لإعادة الاعتبار للروائية بوصفها «النسوية الصامتة» و«الناقدة الاقتصادية» التي وظفت أدوات الأدب لرصد حركة المال والزواج في مجتمع متغير. إنه وقت لاستعادة الحبكة المحكمة والسخرية المهذبة التي تضمر تحتها نقداً حاداً للطبقية.
4 قرون على «مقالات» فرانسيس بيكون
إذا كانت أوستن تمثل تيار الشعور ودقة الملاحظة الاجتماعية، فإن 2025 يحمل ذكرى تمتاز بالرصانة والصرامة الفكرية. إنه العام الذي وافق مرور أربعة قرون كاملة على نشر الطبعة الثالثة والمكتملة من «المقالات-1625» للفيلسوف ورجل الدولة فرانسيس بيكون.
نشر بيكون تلك الطبعة قبل عام واحد من وفاته، مودعاً فيها خلاصة تجربته في السياسة والحياة. المؤسسات الأكاديمية، من كامبريدج إلى أروقة المكتبة البريطانية في «سانت بانكراس»، نظمت ندوات أعادت قراءة مقالاته الشهيرة مثل «في الحقيقة»، «في الموت»، و«في الفتن والقلاقل».
تكمن أهمية هذه المئوية الرابعة في استعادة اللغة البيكونية؛ تلك اللغة المكثفة، المتماسكة، التي أسست للنثر الإنجليزي الحديث. ويتمّ تسليط الضوء على أعماله بصفته أباً للمنهج التجريبي العلمي، ومهندساً للسياسة الواقعية، ومفكراً استشرف مبكراً علاقة «المعرفة» بـ«القوة». الاحتفاء ببيكون اليوم احتفاء بالعقل المجرد في مواجهة فوضى العواطف السياسية وحروب الشعبويات.
مئوية الحداثة: «السيدة دالواي» تشتري الزهور
بالانتقال من القرن السابع عشر إلى العشرين، يواجهنا تاريخ مفصلي: 1925، الذي يُعرف في النقد الأدبي بعام «المعجزة الحداثية»، وفيه، نشرت فيرجينيا وولف روايتها التي غيرت مسار السرد الروائي: «السيدة دالواي».
«قالت السيدة دالواي إنها ستشتري الزهور بنفسها». هذه الجملة الافتتاحية الشهيرة ترددت أصداؤها في أرجاء لندن طوال 2025، ونظمت المؤسسات الثقافية، بالتعاون مع «الصندوق الوطني»، مسارات أدبية تقتفي أثر «كلاريسا دالواي» في شوارع وستمنستر وبوند ستريت.
تخطى الاحتفال بوولف فضاء السياحة الأدبية ليكون تكريساً لمرور قرن كامل على تقنية «تيار الوعي». وشهدت الجامعات والملاحق الثقافية مراجعات نقدية لإرث «مجموعة بلومزبري» – حلقة غير رسمية من الأصدقاء والأقارب (كتاب، فنانين، فلاسفة) عاشوا وعملوا وتجادلوا بالقرب من منطقة «بلومزبري» بوسط لندن جوار المتحف البريطاني خلال النصف الأول من القرن العشرين – وتأثيرها في تحطيم القالب التقليدي للرواية الفيكتورية الكلاسيكية. كما فتح هذا اليوبيل الباب واسعاً لمناقشة قضايا الصحة النفسية، والعزلة داخل المدينة الكبيرة، وهي ثيمات سبقت وولف إلى تشريحها وتظل شديدة الراهنية للإنسان المعاصر.
وفي سياق متصل بـ«المعجزة الحداثية»، يجدر ذكر مئوية قصيدة «الرجال الجوف» لـ ت. إس. إليوت، ورواية «غاتسبي العظيم»، لفرنسيس سكوت فيتزغيرالد – التي تعد عند كثير من النقاد الرواية الأميركية الأهم -، ما جعل من العام الحالي فترة لاستعادة «القلق الجميل» الذي ميز فترة ما بين الحربين في مجمل العالم الأنجلوسكسوني.
برادفورد 2025: الشمال يكتب سرديته
بعيداً عن مركزية لندن العاصمة، اتجهت البوصلة الثقافية شمالاً نحو «يوركشاير»، وتحديداً إلى مدينة برادفورد، التي توجت بلقب «مدينة الثقافة في المملكة المتحدة 2025». هذا اللقب، الذي تتنافس عليه المدن البريطانية بشراسة، وضع برادفورد تحت المجهر طوال اثني عشر شهراً.
برادفورد، تلك المدينة الصناعية العريقة، تمثل، بريطانياً، بوتقة انصهار اجتماعي وتاريخي. وبكونها أول مدينة لليونسكو في مجال السينما، وبقربها من «هاوورث» (موطن الأخوات الروائيات برونتي)، تمتلك إرثاً ثقافياً ثقيلاً.
وتضمنت الأنشطة المرافقة للتتويج أكثر من ألف فعالية فنية، تراوحت بين المعارض البصرية المعاصرة في «كارترايت هول»، وعروض المسرح التجريبي في المصانع القديمة المعاد تأهيلها وغيرها، كرهان على قدرة الثقافة على قيادة التغيير الاقتصادي والاجتماعي، وتقديم برادفورد أنموذجاً للمدينة البريطانية الحديثة المتعددة الأعراق والهويات، التي تصنع الفن من قلب التنوع.
معرض لندن للكتاب: سؤال الورق والرقائق الإلكترونية
في ربيع 2025، وكعادتها منذ 1971، كانت قاعة «أوليمبيا» بغرب لندن مسرحاً للحدث الأهم في صناعة النشر العالمية: معرض لندن للكتاب. واكتسبت دورة 2025 أهمية خاصة في ظل التحولات التكنولوجية العاصفة.
تجاوز الحديث في الأروقة صفقات حقوق الترجمة والبيع، ليشتبك مع هواجس الناشرين ومنتجي المحتوى تجاه تغّول الذكاء الاصطناعي، ونظمت ندوات ساخنة حول مستقبل الكتابة الإبداعية: إمكانية كتابة الآلة للرواية، وسبل حماية القوانين لحقوق المؤلفين من «تغذية» النماذج اللغوية بأعمالهم.
الجوائز الأدبية والفنون التشكيلية
في الخلفية، تظل الجوائز الأدبية البريطانية الكبرى هي الضابط لإيقاع نبض الحياة الثقافية في المملكة. وذهبت جائزة بوكر الأدبية المرموقة لديفيد زالاي عن «لحم» (Flesh) التي وصفت بأنها عمل محفوف بالمخاطر حول الضعف البشري، بينما توجت الهولندية يائيل فان دير بودن بجائزة أدب المرأة للرواية عن عملها الأول المذهل «مستودع آمن» (The Safekeeper) الذي استعاد أجواء ما بعد الحرب العالمية الثانية، وحصد ستيفن ويت لقب كتاب العام من جريدة «فاينانشال تايمز» عن «الآلة المفكرة» (The Thinking Machine) الذي أرخ لرحلة صعود شركة «إنفيديا» والذكاء الاصطناعي، ونال الآيرلندي دونال رايان جائزة أورويل للرواية السياسية عن «فليسكن قلبك في سلام» (Heart, Be at Peace)، وأخيراً، توجت المؤرخة هانا دوركين بجائزة ولفسون للتاريخ عن كتابها التوثيقي «الناجون» (Survivors) الذي تتبع بدقة قصص آخر أسرى سفن تجارة الرقيق عبر الأطلسي.
وفي الفنون التشكيلية فتح «تيت مودرن» والمتحف البريطاني أبوابهما لمعارض استعادية ضخمة، تسعى للخروج من عباءة المركزية الأوروبية، وتسليط الضوء على فنون الجنوب العالمي، لتصفية الحسابات مع الماضي الاستعماري عبر الفن والجمال. لقد قدمت بريطانيا نفسها في 2025، عبر هذه الفعاليات، حارسةً للذاكرة الأدبية، ومختبراً للمستقبل الثقافي الغربي في آن واحد. إنه عام ثري، ذكرنا، وسط ضجيج التكنولوجيا، بأن الكلمة المكتوبة تظل هي الأداة الأقوى لصياغة وعي البشر، وأن دواء الحروب الثقافية في البحث عن الهم الإنساني المشترك.
