يتفنن العدوان الإسرائيلي في حرب الإبادة التي يشنها على غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وهو لا يستخدم مسيّرات كواد كابتر لإطلاق الرصاص على الغزيين فقط بل يستخدمها لإطلاق أصوات تستدرجهم إلى الموت.
ووفقا لتقارير، تستخدم إسرائيل طائرات كواد كابتر لإصدار أصوات بكاء الأطفال لدفع الفلسطينيين إلى الخروج من المخيمات لإنقاذهم.
وقد استخدمت المسيرات وكواد كابتر في إصدار أصوات مسجلة مختلفة لخداع ضحاياها: رضيع يبكي، وطفل يصرخ طلبا للمساعدة، لقد استغلوا تعاطف الفلسطينيين وتضامنهم، والذين صمدوا رغم معاناة الحرب التي لا تطاق.
ونشرت القوات الإسرائيلية في غزة طائرات كواد كابتر تشغّل أصوات بكاء الأطفال والنساء المنكوبات، وذلك لجذب الفلسطينيين إلى خارج منازلهم في المناطق المفتوحة حيث يمكن استهدافهم.
وفي تصريحات سابقة أدلت بها مها الحسيني من المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، فإن طائرات كواد كابتر إسرائيلية تصدر أصواتا غريبة، بما في ذلك أصوات أطفال أو صراخ نساء.
وأضافت “ذهبت بنفسي إلى مخيم النصيرات وقابلت فلسطينيين عدة على انفراد، وكانت الشهادات متطابقة تقريبا”.
أصوات صراخ
وقالت مها الحسيني إن كواد كابتر كانت تصدر أصوات صراخ نساء لجذب المواطنين من منازلهم وإيجاد من يطلق النار عليهم، وقد أكدت تقارير المستشفى ذلك.
وأضافت “كانت كواد كابتر تصدر أصوات أطفال وأصوات صراخ نساء”.
وقالت أيضا “هناك حالات أصيب فيها أشخاص بعد خروجهم لمعرفة مصدر الصوت لمحاولة المساعدة”.
ويتذكر محمد نبهان -وهو أحد سكان النصيرات- سماعه امرأة تصرخ “النجدة” إلى جانب صراخ طفل رضيع، وعندما أدرك أن الصوت صادر عن كواد كابتر حذر ابن عمه قائلا “لا تصدق هذا، إنه نظام صوت”.
وسمع أبو أنس الشحرور -وهو أحد الجيران- صرخات الاستغاثة فخرج للمساعدة لكنه أصيب برصاصة في رأسه.
وشملت حوادث أخرى في أنحاء غزة وخان يونس والضفة الغربية المحتلة تسجيلات لطفل يبكي قائلا “أريد أمي” وتهديدات تحذر الفلسطينيين من “الموت” إذا قاوموا.
وقد استخدمت القوات الإسرائيلية كواد كابتر -وهي مسيرات يتم التحكم فيها عن بعد- على نطاق واسع في عدوانها، وقد استخدمت لأغراض المراقبة واستهداف الأفراد وتفريق الحشود.
وفي يناير/كانون الثاني 2024، أفاد شهود عيان بإطلاق مروحيات رباعية النار على مئات المدنيين الذين تجمعوا للحصول على الطعام في شارع الرشيد بمدينة غزة.
كما بثت أنظمة الصوت في الطائرات المسيرة أغاني بالعبرية والعربية وأصوات تحركات الدبابات، وحتى نداءات الباعة المحليين المألوفة.
وقد أثار هذا الأسلوب من الحرب النفسية انتقادات حادة من جماعات حقوق الإنسان.
أثر نفسي عميق
وتقول الأخصائية النفسية الدكتورة سنابل عاكف الأخرس -في تصريحات خاصة إلى “الجزيرة صحة”- إن سماع أصوات التعذيب يمكن أن يترك أثرًا نفسيًا عميقًا، حتى إن لم تكن أنت الضحية. فالصوت أو سماع أحد يتعذب قد يجرح ويُرهق ويؤلم، ويضع الشخص في زاوية العجز وانعدام الأمل.
وأضافت: يُعد سماع أصوات تعذيب أشخاص آخرين أو تألمهم أو صراخهم -حتى دون حضور المشهد- تجربة صادمة بشدة تؤثر على الصحة النفسية والعصبية. ويُصنَّف هذا النوع من التعرض كصدمة غير مباشرة أو إجهاد ثانوي ناتج عن الصدمة، وله آثار قصيرة وطويلة الأمد.
وتشرح الدكتورة سنابل -وهي خريجة طب وايل كورنيل الأميركية وتحمل البورد العربي بالطب النفسي، والتخصص الدقيق في أمراض الذاكرة والنسيان- إنه على المدى القصير تشمل هذه الآثار:
- الإصابة بالاكتئاب نتيجة العجز وعدم القدرة على المساعدة في حال استمرار سماع هذه الأصوات حتى في حال معرفة الشخص أنها أصوات مسجلة فقد كانت حقيقية في يوم من الأيام.
- اضطرابات القلق المعمم ونوبات الهلع، والأكثر هو مرض ما بعد الصدمة والذي يتميز بالكوابيس.
- استرجاع الحدث أثناء اليقظة (ذكريات اقتحامية).
- الانفعالات السريعة.
- الشعور وانتظار الخطر دائما.
- صعوبة في النوم.
- تسارع نبض القلب.
- تسارع التنفس.
- دخول الجسم في حالة “الكرّ أو الفرّ”.
أما على المدى الاجتماعي، فتقول الدكتور سنابل إن هذا التعرض لأصوات التعذيب قد يجعل الشخص منعزلا بعيدا وفاقد الثقة بالأشخاص والمؤسسات.
كما تشمل آثار سماع أصوات تعذيب أشخاص آخرين أو تألمهم أو صراخهم:
- الهيجان الزائد.
- أفكار سوداوية.
- العدوانية.
- في حالات متقدمة، قد يتطور إلى حالة ذهان وهلوسات وانفصال تام عن الواقع أو الهذيان.
وأما على المدى البعيد فإن هذا النوع من الصدمات يؤثر على الدماغ بشكل مباشر:
- فرط تنشيط اللوزة الدماغية (Amygdala) المسؤولة عن الخوف وقراءة التهديد والدفاع عن النفس، مما يؤدي إلى ردود فعل خوف مفرطة ومستمرة.
- تثبيط قشرة الفص الجبهي الأمامي (Prefrontal Cortex) مما يؤدي لضعف القدرة على التفكير المنطقي واتخاذ القرار تحت الضغط، بالإضافة إلى تأثر الذاكرة قصيرة المدى والقدرة على التركيز.
- تأثر الحُصين (Hippocampus) وهي منطقة مسؤولة عن الذاكرة طويلة المدى، مما يسبب تشويشًا في الذاكرة والقدرة على التوجه الزمني والمكاني ويعرض الشخص للإصابة بأمراض النسيان مثل الخرف.
أما بالنسبة للأطفال فقد يؤدي إلى:
- سلوك عدواني وانسحابي.
- تبول لا إرادي.
- خوف مستمر.
- تأخر في النطق.
- قد يؤثر بشكل مباشر على نمو الطفل وقدرته على التعلم والتذكر والتركيز وقدرته على التحكم بمشاعره.
- وعلى المدى البعيد من المحتمل جدا أن يخلف جيلا عدوانيا كل ما يحركه هو الألم الداخلي والغضب.
تأثير دائم
عندما تنتهي الحرب، من المرجح أن يكون لأصوات كواد كابتر تأثير دائم على السكان، وقد أظهرت دراسات من أفغانستان أن المجتمعات يمكن أن تعاني من صدمة جماعية ردا على الطائرات المسيرة والغارات الجوية.
ويقول جيمس كافالارو المؤلف المشارك بدراسة عن هذا الموضوع في أفغانستان وباكستان “صوت طنين الطائرات المسيرة تذكير مسموع بأنك قد تُقتل في أي لحظة، وهذا له عواقب وخيمة على الصحة النفسية، ومستويات عالية من التوتر، وتسارع في ضربات القلب، وارتفاع ضغط الدم، واضطراب ما بعد الصدمة، ونوبات نفسية حادة، وكل هذه العواقب سمعنا عنها”.
ويقول بهزاد الأخرس (طبيب نفسي في أحد مخيمات النازحين بغزة) -في تصريحات سابقة لصحيفة غارديان- إن الجميع أصبحوا أكثر وعيا بضجيج “الآلات العسكرية” ويظهرون علامات فرط اليقظة، وهي حالة من الحذر الدائم، وغالبا ما ترتبط باضطراب ما بعد الصدمة.
ويضيف الأخرس “أصبح هذا سلوكا طبيعيا، تتوقع حدوث الشر، من غير الطبيعي أن تعيش بهذه الطريقة، إن العيش في حالة من النجاة ومحاولة الهرب الدائمة يؤثر على شعورنا بالأمان، وهذه الأصوات تُسمع باستمرار في آذاننا، ونعيشها مرارا وتكرارا، ويتعلم الشباب أن لا شيء آمنا ولا شيء مستقرا، لقد تعلموا الهروب -باستمرار- ألا يثقوا بالآخرين، وألا يثقوا بالحياة نفسها”.
ويتابع “هذا هو الأمر الأكثر تأثيرا: أصوات القنابل، وأصوات الطائرات الحربية، وأصوات طائرات “إف-16″ نستطيع تمييز الصواريخ من أصواتها”.
ويقول الأخرس “في البداية، لم نكن نستطيع النوم، لكننا الآن ننعم بما يمكن تسميته نوما يقظا، فننام ظاهريا، لكننا لا نستطيع الوصول إلى مرحلة النوم العميق بسبب هذه الأصوات”.
ووفقا لتقرير صادر عن فريق المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان في أبريل/نيسان 2024، فإن صوت صراخ النساء وبكاء الأطفال قد سمع في وقت متأخر من الليل على مدار يومين، وعندما خرج بعض السكان للتحقق وحاولوا المساعدة تم إطلاق النار عليهم من قبل طائرات مسيرة إسرائيلية.
ويضيف المرصد “كانت الأصوات التي سمعوها في الواقع تسجيلات أصدرتها تلك الطائرات بقصد إجبار سكان المخيم على الخروج إلى الشوارع، حيث يمكن استهدافهم بسهولة من قبل القناصة والأسلحة الأخرى”.
الأغاني بالعبرية والعربية
ووفقا للشهادات، تضمّن هذا التكتيك أيضا أصوات إطلاق النار على الطرق والانفجارات وتحركات المركبات العسكرية، وأحيانا الأغاني بالعبرية والعربية من أجل ترهيب المدنيين الذين يعيشون وسط ظلام دامس في الليل وانقطاع تام عن العالم الخارجي.
وأفاد أحد سكان المخيم والبالغ 20 عاما -لفريق يوروميد مونيتور- طالبا عدم الكشف عن هويته بسبب مخاوف تتعلق بالسلامة “كنا نجلس في الليل عندما سمعنا أصوات فتيات ونساء يصرخن: تعالوا، ساعدوني، أنا مصاب. فخرجنا لمعرفة ما كان يحدث، ولكن لم يتم العثور على أي نساء، واستهدفنا بشكل مباشر بواسطة طائرة مسيرة رباعية المراوح”.
وأضاف أحد سكان المخيم “هربت إلى الداخل، وأصيب شخصان أمامي مباشرة بجروح خطيرة، وبسبب إطلاق النار المستمر لم نتمكن من علاجهما، لذلك اتصلنا بسيارة إسعاف ووصلت لنقلهما، وسمع العديد من السكان هذه الأصوات واستجابوا لتقديم المساعدة”.
وأفادت امرأة تبلغ من العمر 60 عاما بأنها سمعت إطلاق نار كثيف، ثم سمعت صرخات استغاثة من النساء يبلغن السكان بأن أطفالهن مصابون ويتوسلن للمساعدة.
وأضافت “استمر هذا الصوت لمدة تتراوح بين 10 و15 دقيقة، لكن لم يخرج أي منا لأن الوقت كان متأخرا جدا، وكنت أعرف أن هذه تسجيلات تصدرها طائرات”.