طه عبدالرحمن
واصل موسم الندوات، في نسخته الرابعة، والذي تنظمه وزارة الثقافة، فعالياته أمس ، حيث أقيمت ندوة بعنوان “الخليج وذاكرته التاريخية”، في المبنى الثقافي بمقر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، حضرها كوكبة من المثقفين والأكاديميين والمهتمين، والذين أثروا الندوة بمداخلات نوعية.
وشارك في الندوة كل من سعادة السيد خالد بن غانم العلي عضو مجلس الشورى، والذي تناول “الذاكرة التاريخية والهوية في الخليج العربي”، ود.العنود آل خليفة، باحثة في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، والتي ناقشت “الهوية الجماعية بين الماضي والمستقبل مع التركيز على المتاحف كنموذج”، فيما عرجت د.آمنة صادق أستاذة مساعدة في مركز دراسات الخليج في جامعة قطر، على “الخليج في ذاكرة المكان”.
وجاءت الندوة في إطار فعاليات موسم الندوات، الذي تقيمه وزارة الثقافة، انطلاقاً من إثارة الحوار الثقافي، حيث سلطت الندوة التي أدارتها السيدة إيمان الكعبي مدير المركز الإعلامي القطري، الضوء على أبعاد الذاكرة التاريخية في منطقة الخليج العربي ودورها في تشكيل الهوية الثقافية والاجتماعية.
ذاكرة التاريخ
ومن جانبه، اعتمد سعادة السيد خالد بن غانم العلي، في مداخلته على ثلاثة محاور رئيسية وهي: الذاكرة كمصدر تاريخي، وتشكيل الذاكرة التاريخية، وكيفية الوصول إلى ذاكرة تاريخية موثوقة، مشدداً على ضرورة إعطاء قيمة أكبر للذاكرة المحلية التي دونت من خلال الفاعلين فيها، مثل ديوان المؤسس الشيخ جاسم بن محمد بن ثاني، طيب الله ثراه، والذي يجب أن يأتي في مقدمة المصادر التي نستقي منها الذاكرة التاريخية القطرية.
وقال: إنه هنا سيتحقق هدفان الأول إما تصحيح الذاكرة المستعادة أو تصحيح الذاكرة المستعادة للذاكرة المحلية، وهذا سيؤدي إلى أهلنة أي “خلجنة الكتابة التاريخية” في سياقنا الخليجي، داعياً إلى ضرورة ألا يقبل المؤرخ الكتابة التاريخية من أي مصدر من دون نقد، لأنها عرضة للتشويه، والإسقاطات، وعليه الاجتهاد في مقارعة النصوص بعضها البعض، ونقدها حتى يتمكن من تصحيحها.
وأشار سعادته إلى ضرورة تجاوز الكتابة السردية والوصفية للتاريخ التقليدي، والوصول إلى مرحلة الفهم، وتطبيق النظريات والمنهجيات العلمية في العلوم الاجتماعية والإنسانية الأخرى كالفلسفة وعلم الاجتماع، للوصول إلى مرحلة المقارنة والتحليل، أو ما يعرف بـ”أهلنة التاريخ”.
المتاحف الخليجية
أما د.العنود آل خليفة، فأشارت إلى تطور الهوية الخليجية عبر التاريخ نتيجة المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأنها لم تكن ثابتة أو منغلقة، مؤكدة أن “التاريخ لا يُنظر إليه كواقع جامد، بل كمصدر مرن يعاد من خلاله إنتاج الهوية الجماعية”.
وقالت: إن المتاحف الخليجية تقدم نموذجاً يعكس هذا التطور، إذ لا تقتصر وظيفتها على حفظ الماضي، بل تعد فضاءات حية تبرز التحولات المستمرة في الهوية عبر الأجيال، مشيرة إلى أن المتاحف كانت في البداية أداة لتعزيز شرعية المجتمع، ثم أصبحت وسيلة لدعم شرعية الدولة، وأصبحت تشمل اليوم أدواراً أوسع تتعلق بحداثة الدولة وحضورها العالمي وعلاقاتها الدبلوماسية.
وأضافت: أن الهوية الخليجية كانت نتاج مسارات تاريخية متشابكة من التفاعلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي شكّلت ملامح الانتماء عبر الأزمنة، لافتة إلى أن الذاكرة الجماعية ليست مجرد استرجاع للماضي، بل هي عملية ديناميكية تعيد تشكيل الهوية باستمرار وفقاً للتحولات التي تشهدها المنطقة.
وتوقفت د.العنود آل خليفة عند مراحل الهوية الجماعية في الخليج، مؤكدة أنها مرت بمراحل رئيسية، بدءاً من ارتباطها بتأسيس المجتمع، مروراً بعصر الطفرة النفطية الذي أعاد تشكيل مفهومها، وصولًا إلى توسيع نطاق الذاكرة الجماعية لتشمل ذاكرة الدولة والنخبة والتفاعل مع العالم الخارجي.
وقالت: إن هذا التحول يعكس انتقال الهوية الجماعية من سياقات اجتماعية بحتة إلى تمثلات حديثة تتفاعل مع العولمة والإنجازات الوطنية، مثل استضافة كأس العالم، وامتلاك أندية رياضية عالمية، وبناء متاحف حديثة، ما يجعلها مشروعًا حداثيًا متغيرًا يعكس تطلعات المجتمع الخليجي ومستقبله.
ذاكرة المكان
ومن جانبها، تناولت د.آمنة صادق في مداخلتها ذاكرة المكان في الخليج، معتبرة إياه عنصراً أساسياً في تشكيل الهوية الخليجية، حيث يرى الإنسان الخليجي نفسه ابناً للصحراء والبحر، في إشارة إلى هويته الثقافية والاقتصادية. مشيرة إلى أن البحر كان على مدار التاريخ مصدرًا للرزق من خلال التجارة والغوص على اللؤلؤ والصيد، بينما شكّلت الصحراء نمط الحياة البدوية، ما عزز لدى أبناء الخليج قيم الاستقلال والمثابرة.
وقالت: إن الهوية الجماعية في دول الخليج العربي مرت بعدة مراحل رئيسية؛ وأن الذاكرة الجماعية في الخليج لم تعد تقتصر على السرديات التقليدية مثل الغوص والتجارة البحرية والبادية، بل توسعت لتشمل أيضًا ذاكرة الدولة وذاكرة النخبة، وذاكرة التفاعل مع العالم الخارجي.
وأضافت أن ذاكرة المكان في الخليج لم تكن بمنأى عن التغيرات المتسارعة، إذ شهدت المنطقة طفرات نفطية متعددة ساهمت في إعادة تشكيل البنية التحتية، حيث تحولت المدن الخليجية التي عرفها السكان في خمسينيات وستينيات القرن الماضي إلى مراكز حضرية حديثة مع نهاية القرن العشرين وبداية الألفية الجديدة، لافتة إلى أن هذا التحول يعكس انتقال الهوية الجماعية من سياقات اجتماعية بحتة إلى تمثلات حديثة تشمل العولمة والأدوار السياسية والإنجازات الوطنية.
وتابعت: إن مفهوم الهوية يتجاوز البعد البيئي إلى البعد الجغرافي والقومي، إذ يصف الخليجي نفسه بأنه “ابن الخليج”، في إشارة إلى البحر الذي يحدّ دول المنطقة، مما يجعل الخليج العربي فضاءً جغرافيًا للذاكرة الجمعية الخليجية، أما على المستوى المحلي، فإن ارتباط الإنسان بمكان نشأته ينعكس في وصفه بأنه “ابن الفريج” أو القرية أو المدينة، كما هو الحال في قطر حيث يعرّف بعض السكان أنفسهم بانتمائهم إلى أحياء مثل “فريج الجسرة” أو غير ذلك، مما يعكس الارتباط العميق بالبيئة الاجتماعية والثقافية القريبة.
وأكدت د.آمنة صادق أن هذه التغيرات أدت إلى استبدال أنماط الحياة التقليدية، مثل الفريج والأسواق الشعبية، بالطرق السريعة وناطحات السحاب والمراكز التجارية، مما ساهم في تآكل ذاكرة المكان أو تغيّر معانيها.
تجاوز التقليدية
أكد سعادة السيد خالد بن غانم العلي عضو مجلس الشورى، في سياق مداخلته، أنه لكي يتم بناء ذاكرة تاريخية، يمكن الوثوق بها، فلابد من تجاوز الذاكرة التاريخية التقليدية أو تلك غير التقليدية، كما يجب على المؤرخين الخليجيين الجادين إعادة كتابة تاريخهم للوقوف على مدى موضوعيته أو صحة الصورة المنقولة عن مجتمعاتهم، والتي بدورها تشكل الذاكرة التاريخية.
إسهامات حضارية
تنظم وزارة الثقافة يوم الإثنين المقبل، الفعالية الثالثة من موسم الندوات، في جامعة قطر، وذلك بعنوان “كيف نفهم تأثير الحضارة الإسلامية في العالم اليوم”، يحاضر فيها د.روي كاساغراندا الأكاديمي وأستاذ العلوم السياسية في كلية أوستن المجتمعية، وينحدر من أصول متنوعة.
وتسلط الندوة الضوء على الإسهامات الكبرى التي قدمتها الحضارة الإسلامية في مجالات العلوم والفكر الإنساني، ودورها المحوري في تشكيل مسار التقدم البشري، حيث يتناول المحاضر جانباً من الإسهامات ، ويتناول الأسباب التي أدت إلى تهميشها، وعدة الاحتفاء بها بالشكل الذي تستحقه.
منصة للحوار
يتواصل موسم الندوات هذا العام حتى 25 فبراير الجاري، بالشراكة مع جامعة قطر والمركز العربي للدراسات، وبمشاركة نخبة من الخبراء والمثقفين والمفكرين والأكاديميين من داخل وخارج دولة قطر وخارجها، ويأتي ضمن جهود وزارة الثقافة المتواصلة ونهجها الراسخ في تأسيس منصة للحوار الثقافي والفكري الجاد والمعمق حول أبرز القضايا الثقافية والمجتمعية.