في عام 1997 صدر كتاب “اليد الحمراء.. الجيش السري للجمهورية” لمؤلفه أنطوان ميلِّيرو بعد أكثر من نصف قرن على ظهور هذه المنظمة الدموية التابعة لجهاز المخابرات الفرنسي، والتي استهدفت أهم الشخصيات النضالية الكبرى في بلدان المغرب العربي الثلاثة تونس والجزائر والمغرب، بل وكل داعم لتحرر هذه البلاد في الخارج، خاصة أوروبا، فتتبعتهم بالقتل دون تردد أو رحمة.
وقد رصد ميلّيرو -وهو أحد مؤسسي هذه المنظمة- في كتابه الصادر بالفرنسية تاريخ هذه المنظمة وأدوارها الدموية التي لعب هو فيها الدور الرئيسي والمؤسس في المغرب الأقصى.
يذكر ميلّيرو في كتابه هذا أنه كُلّف في عام 1952 بمهمة الإشراف على إنشاء جهاز سري دموي مثل الجهاز الذي ظهر في تونس باسم “اليد الحمراء”، وقد تحمس ميلّيرو لهذا الأمر، وشرع في الاستعدادات والتحضيرات اللازمة.
وعقب وضع قائمة كاملة من الأعوان والضباط والقادة الوهميين الذين يحملون أسماء مستعارة وضع قائمة مُفصّلة للأشخاص الذين تنوي المنظمة اغتيالهم أو تصفيتهم بطريقة أو بأخرى.
وهكذا كان للمنظمة “السرية الإرهابية” التي رعتها الحكومة الفرنسية -منذ ما قبل عصر شارل ديغول وبعده- قوائم جاهزة بأسماء المناضلين والمقاومين للقضاء عليهم، وإفشال أي محاولة لاستقلال بلدانهم عن فرنسا.
التأسيسان الأول والثاني لليد الحمراء
يذكر الدكتور علي محافظة في دراسته “حركة المقاومة المسلحة التونسية” أنه بعد فشل الجهود الدبلوماسية السلمية بين عامي 1949 و1952 في تحقيق تسوية بين قيادة الحركة الوطنية التونسية والحكومة الفرنسية، عقدت الحركة الوطنية مؤتمرا سريا في 18 يناير/كانون الثاني 1952.
وفي هذا المؤتمر قررت الحركة إنهاء نظام الحماية الفرنسية واعتبار المستعمرين الفرنسيين مجرد جالية أجنبية، وفي اليوم ذاته قامت السلطات الفرنسية باعتقال عدد من قادة الحزب الحر الدستوري الجديد، وعلى رأسهم الحبيب بورقيبة، والمنجي سليم، والهادي شاكر.
ورغم هذا التضييق الفرنسي انطلقت المقاومة المسلحة التونسية ضد الاستعمار الفرنسي بعمليات فدائية جريئة، خاصة في جنوب تونس ومنطقة قابس، حيث استهدفت هذه العمليات ثكنات الجيش الفرنسي في أبي لبابة قرب قابس، بالإضافة إلى الهجمات على القوافل العسكرية الفرنسية على طريق سوسة وفي بلدة العوينات.
وردا على تصاعد نشاط المقاومة الوطنية، أنشأت السلطات الفرنسية عصابة إجرامية مكونة من المستعمرين الفرنسيين عُرفت باسم “اليد الحمراء”، وكانت مهمتها ملاحقة الوطنيين واغتيال قادتهم تحت حماية الشرطة والجيش الفرنسيين.
ويذكر المؤرخ الفرنسي جيل مونسيرون أن منظمة “اليد الحمراء” كانت تعمل بصورة رسمية ترعاها الدوائر الأمنية كجهاز المخابرات الفرنسي ومؤسسة الرئاسة، كما أشار مونسيرون إلى تورط شخصيات بارزة في أنشطة المنظمة، مثل ميشال ديبري، الذي شغل منصب رئيس وزراء فرنسا بين عامي 1959 و1961، كما أكد على عِلْم الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديغول بهذه الأنشطة.
ويعد عام 1957 بمثابة التأسيس الثاني للمنظمة وانطلاقها كما ونوعا في عملياتها، ويرجع ذلك إلى تولي الجنرال بول غروسان -الذي وُلد في الجزائر عام 1901- لقيادة جهاز الاستخبارات الفرنسية، وقد أصبح أحد الأسماء البارزة في مجال الاستخبارات الفرنسية، حيث يُنسب إليه دور محوري في إعادة تأسيس منظمة “اليد الحمراء”، فقد عمل على ضم مجموعة واسعة من المستوطنين الفرنسيين والمتعصبين.
![FRANCE - SEPTEMBER 16: General Of The Division Appointed Head Of September 16, 1957 (Photo by Keystone-France/Gamma-Keystone via Getty Images)](https://nasmisr.com/wp-content/uploads/2025/02/GettyImages-107706516-1738835460.jpg)
وكما يذكر علاء زريفة في دراسته “التاريخ الدموي السري لعصابات اليد الحمراء في الجزائر”، فقد شهدت التدشين خلال فترة حكومة غي موليه الاشتراكية (1956-1957)، حيث مُنحت الضوء الأخضر لبدء نشاطها، وكانت الأوامر تصدر عبر أجهزة الاستخبارات الفرنسية وتُرسل إلى قصر ماتينيون مقر عمل رئاسة الوزراء الفرنسية، الذي يمنح الموافقة شفويا دون ترك أي أثر كتابي.
وفيما بعد كانت تُتلف جميع الوثائق المتعلقة بالتنظيم حتى لا تصبح دليل إدانة لجرائمه، وخلال عهد الرئيس شارل ديغول، تولى العقيد روبير روسلات، المسؤول عن مصلحة العمل، مهمة إتلاف أي دليل أرشيفي أو وثيقة تخص عمليات “اليد الحمراء”، سواء المتعلقة بالاغتيالات أو التفجيرات. وفي الوقت نفسه، كان جاك فوكار، مستشار الإليزيه، يُشرف على إزالة أي خيوط يمكن أن تثير الشبهات حول دور المنظمة.
وقد اختير اسم “اليد الحمراء” بعناية وقصد في إشارة رمزية إلى الدماء التي أُريقت خلال عملياتها العنيفة، ولهذا السبب وصف أحد أعضائها، وهو قسنطنين ميلينك، المنظمة بأنها “آلة قتل لا ترحم”، وهو وصف يجسد طبيعتها الوحشية والدموية كما سنرى، وبهذه الطريقة، أصبحت “اليد الحمراء” أداة قمعية تعمل من وراء الكواليس، وتنفذ أجندات سياسية وعسكرية بدم بارد، تاركة إرثا داميا من الجرائم التي لا تزال شاهدة على فصل مظلم من العلاقات بين فرنسا ودول المغرب العربي.
وفي عام 1957، برز 3 رجال كقادة رئيسيين للمنظمة وهم: جاك فوكارت، الضابط السابق في الخدمات الخاصة والذي عُرف بأنه “الرئيس الفعلي” لليد الحمراء، والجنرال بول غروسان، وقسنطنين ميلينك، الذي شغل منصب مستشار رئيس الوزراء لشؤون الأمن والاستخبارات. بالإضافة إلى ذلك، لعب ميشال ديبري، الذي أصبح لاحقا رئيسا للوزراء ومقربا من شارل ديغول، دورا بارزا في عمل هذه العصابة وتطويرها.
وبحسب الباحث علاء زريفة، فعندما تولّى شارل ديغول السلطة في عام 1959، وضع 3 مبادئ أساسية لتنظيم عمل جهاز الاستخبارات الفرنسي وهي: التركيز على العمل خارج الأراضي الفرنسية واستهداف أهداف أجنبية فقط، والامتناع عن استهداف المواطنين الفرنسيين، والحصول على موافقة مسبقة من رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية قبل تنفيذ أي عملية.
ورغم هذه الشروط فقد شهد عام 1960 ذروة نشاط منظمة “اليد الحمراء” الإجرامي، حيث نفذت 135 عملية اغتيال، وأغرقت 6 قوارب، ودمرت طائرتين، في سلسلة من العمليات التي كشفت عن مدى وحشية المنظمة، بل شاركت في اغتيال فرنسيين متعاطفين مع تحرر الشعوب المغاربية.
![](https://nasmisr.com/wp-content/uploads/2025/02/بولعيد-1738835856.jpg)
أبرز المناضلين الذين اغتالتهم اليد الحمراء
أثناء الثورة الجزائرية (1954-1962)، نُفذت حوالي 200 عملية اغتيال استهدفت رموز جبهة التحرير الوطني وداعميها، بما في ذلك ناشطون وتجار أسلحة في أوروبا وشمال أفريقيا، وقد تميزت هذه العمليات بالدقة العالية والسرية المطلقة، وكان العديد منها عابرا للحدود.
ففي 23 أبريل/نيسان 1955، دشّنت منظمة “اليد الحمراء” مهام عملها في الجزائر، حيث شكّلت اليد الحمراء مجموعة مليشيات من المستوطنين الفرنسيين لاستهداف الجزائريين عبر الاختطاف والتعذيب والقتل.
وفي 28 أبريل/نيسان من العام نفسه، تم توسيع نطاق حالة الطوارئ في الجزائر، وفي 5 مايو/أيار من العام نفسه قررت الحكومة الفرنسية تعزيز المجهود الحربي الفرنسي في الجزائر بميزانية قُدّرت بـ15 مليار فرنك للقضاء على الثورة الجزائرية.
وفي اليوم التالي، قرر مجلس الوزراء الفرنسي إرسال 40 ألف جندي إضافي إلى الجزائر، واستدعاء قوات الاحتياط لدعم العمليات العسكرية.
وكان من أبرز العمليات تلك التي وقعت في ربيع عام 1956 استهداف عملاء “اليد الحمراء” اغتيال مصطفى بولعيد، أحد قادة الثورة الجزائرية بطريقة مبتكرة وغاية في التعقيد، حيث نفذ العملية فريق من قوات الكوماندوز التابعة لـ”اليد الحمراء”، وتسللوا إلى أحد معاقل الثوار في الجبال، وقاموا بتفخيخ جهاز راديو، مما أدى إلى مقتل بولعيد ومساعده.
وفي تونس ووفقا لمذكرات أنطوان ميليرو، العضو في “اليد الحمراء”، في كتابه السابق نفّذت هذه المنظمة الفرنسية السرية ما يقرب من 40 عملية في تونس وحدها، وكانت تلك العمليات تركّز على استهداف أبرز الشخصيات والنشطاء الذين لعبوا دورا رئيسيا في قيادة النضال الوطني ضد الاستعمار الفرنسي.
في الوقت ذاته، واصلت منظمة “اليد الحمراء” عملياتها الدموية في المغرب أيضا، مستهدفة شخصيات بارزة دعمت حركات التحرر، فمن بين أبرز ضحاياها كان السياسي الفرنسي جاك ليمايي دوبريويل، المعروف بدفاعه عن استقلال المغرب، حيث اغتيل عبر تفجير سيارته.
كما اغتالت المنظمة المحامي ألفونس أوجست توفيني، الذي كان يتولى الدفاع عن جبهة التحرير الوطني، مستخدمة الأسلوب نفسه. ولم تتوقف المنظمة عند ذلك، بل حاولت أيضا اغتيال زعيم الحركة الوطنية المغربية ورئيس حزب الاستقلال، علال الفاسي، ضمن سلسلة من محاولات إسكات الأصوات الداعمة للنضال ضد الاستعمار.
![Allal al-Fassi - علال الفاسي](https://nasmisr.com/wp-content/uploads/2025/02/2ae94dc9-6f0e-4da0-a64b-fb45fc2ac99a.jpeg)
اليد الحمراء في أوروبا
مع انطلاق الثورة الجزائرية عام 1954 وتأثيرها القوي الذي امتد إلى الساحة الدولية، وجهت منظمة “اليد الحمراء” عملياتها نحو تصفية النشطاء والداعمين لحركة التحرر الجزائرية في أوروبا أيضا.
ففي 5 نوفمبر/تشرين الثاني 1958، دبرت عملية اغتيال فاشلة لحسين آيت، أحد مؤسسي جبهة التحرير الوطني وممثل الحكومة الجزائرية المؤقتة في مدينة بون الألمانية، وذلك على الرغم من تمتعه بغطاء دبلوماسي تونسي.
وكانت إحدى العمليات الأكثر غموضا تلك التي وقعت في بروكسل، حيث استُهدف الناشط الجزائري أكي عاصو، وهو طالب في معهد الطب وناشط بارز لصالح جبهة التحرير الجزائرية؛ إذ كان عاصو مقربا من النقابي البلجيكي بيير لوغريف، الذي أبدى تضامنا كبيرا مع الثورة الجزائرية، وقد تزامنت عملية الاغتيال مع مقتل المحامي السيد ولد عودية في باريس باستخدام السلاح نفسه.
وفي سبتمبر/أيلول 1959، وقعت حادثة أخرى غامضة في منطقة فال داوستا بإيطاليا، إذ عثر متسلقو الجبال على حُطام طائرة على ارتفاع 3000 متر في منطقة تيستا دي بالبي. كان على متن الطائرة 5 أشخاص، من بينهم شخصية جزائرية مقربة من الزعيم السياسي الجزائري فرحات عباس، وقد قُتلوا جميعا في الانفجار الذي دمر الطائرة.
![](https://nasmisr.com/wp-content/uploads/2025/02/AFP__20210611t-1738838504.jpg)
ومع تصاعد الثورة الجزائرية واتساع تأثيرها خارج الحدود، امتدت عمليات “اليد الحمراء” لتستهدف ناشطين وأكاديميين أوروبيين كذلك، وذلك في محاولات دؤوبة لإضعاف الدعم الخارجي للثوار الجزائريين، ففي 25 مارس/آذار 1960، أُرسِل طرد مُفخَّخ إلى الأكاديمي البلجيكي جُورج لايبرش، المعروف بمساندته لاستقلال الجزائر، في واحدة من أبرز العمليات الإرهابية ضد شخصيات غير جزائرية.
وقد ركّزت “اليد الحمراء” هجماتها بشكل خاص على تُجار السلاح الذين كانوا يشكّلون شريان حياة للثورة من خلال توفير الأسلحة والذخائر، وكان من أبرز هؤلاء التجار الألماني أوتو شلوتر، الذي تعرض لثلاث محاولات اغتيال.
ففي عام 1956، استهدفت اليد الحمراء مكاتبه في هامبورغ بعملية تفجير أسفرت عن مقتل نائبه، بينما نجا هو بأعجوبة، وفي يونيو/حزيران 1957، تعرضت سيارته للتفجير، مما أسفر عن مقتل والدته، في حين نجا هو مجددا. وقد عُرفت القضية إعلاميا باسم “قضية شلوتر”، حيث اتُّهمت منظمة “اليد الحمراء” بتنفيذ الهجمات، لكن التحقيقات لم تتمكن من تقديم أدلة قاطعة على هذا الادعاء.
ولم تتوقف عمليات اليد الحمراء في استهداف تجار السلاح الأوروبيين الآخرين الذين دعموا الثورة الجزائرية بإمدادها، فكما يذكر عائد عميرة في “اليد الحمراء.. آلة القتل لأجهزة المخابرات الفرنسية في بلاد المغرب” ففي 3 مارس/آذار 1959، لقي تاجر السلاح الألماني جورج بوشرت مصرعه إثر تفجير سيارته في فرانكفورت.
كما استهدفت “اليد الحمراء” فيلهلم بينسر، وهو أيضا تاجر سلاح وعضو سابق في الجستابو (شرطة هتلر السرية) والذي كان على صلة وثيقة بجبهة التحرير، رغم تلقيه تهديدات متكررة، واصلَ بينسر دعمه للثورة، إلى أن استُهدِف منزله في ميونيخ بعملية تفجير أسفرت عن فقدانه ساقيه.
![فرحات حشاد](https://nasmisr.com/wp-content/uploads/2025/02/c9096c74-1614-40a0-9679-a2042b502b39.jpeg)
ولم تقتصر عمليات “اليد الحمراء” على الأفراد، بل امتدت لتشمل استهداف شحنات الأسلحة، ففي 21 يوليو/تموز 1957، فجرت المنظمة سفينة “تايفون” في ميناء طنجة، كما فجرت سفينة “أطلس” في ميناء هامبورغ في 9 يوليو/تموز من العام نفسه، وبعد شهرين تم استهداف سفينة الشحن “إيما” أثناء إبحارها بين طنجة وجبل طارق.
وفي مدينة بون الألمانية، استهدفت المنظمة المحامي أمزيان آيت أحسن، مندوب جبهة التحرير الوطني الجزائرية في ألمانيا الغربية، حيث تم إطلاق النار عليه باستخدام رشاش في محاولة لتصفية صوت آخر من الأصوات الداعمة للثورة الجزائرية، كما نجحت المنظمة في اغتيال المحامي الجزائري أمقران ولد عودية أمام مكتبه في شارع سان مارك بباريس، حيث كان أحد أبرز المحامين الذين دافعوا عن نشطاء جبهة التحرير الوطني أثناء الحرب الجزائرية.
وقد تلقى عدد من السياسيين والمحامين الفرنسيين تهديدات بالقتل نجح بعضها بالفعل، وكان من أبرزهم المحامي الفرنسي جاك فيرجيس، وكذلك اغتيل كميل بلان، رئيس بلدية إيفيان، في مارس/آذار 1961، بسبب دور المدينة في استضافة مفاوضات بين الحكومة الفرنسية وجبهة التحرير الوطني الجزائرية.
أخيرا توقفت عمليات عصابة “اليد الحمراء” مع استقلال الجزائر عام 1962، الذي جاء باعتبارها آخر الدول المغاربية التي أنهت الاستعمار الفرنسي، وبفعل بنود اتفاقيات إيفيان التي وُقعت في 19 مارس/آذار 1962، والتي نصت على إنهاء كافة أشكال العنف ضد الجزائريين.
ورغم ذلك، لم تعترف الحكومة الفرنسية حتى الآن بمسؤوليتها المباشرة عن عمليات المنظمة رغم العديد من الكتب والمذكرات التي تؤكد علاقة المنظمة بالمخابرات الفرنسية ورئاسة الوزراء في خمسينيات القرن العشرين.
غير أن الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند كشف في عام 2013 عن وثائق من الأرشيف الفرنسي تؤكد تورط الاستخبارات الفرنسية في اغتيال الزعيم النقابي التونسي فرحات حشاد، مما يسلط الضوء على دور فرنسا في تلك العمليات السرية.