جنوب لبنان- تحاول مدينة النبطية في جنوب لبنان لملمة جراحها واستعادة ملامحها بعد العدوان الإسرائيلي الأخير، الذي لم يغير فقط شكل بنيتها التحتية، بل ترك أثرا عميقا في ذاكرة أهلها، فهذه المدينة التي تعد منارة الجنوب وعصب الحياة الاقتصادية، تعيش اليوم واقعا يفيض بالخراب، بعد تعرضها لأكثر من 300 غارة إسرائيلية خلال الشهرين الماضيين.
فمع اللحظات الأولى لإعلان وقف إطلاق النار، عادت الحركة تدريجيا إلى شوارع النبطية، وسارع السكان لتفقد منازلهم ومحالهم التجارية، رغم ما خلّفته الغارات من حفر وركام على الطرقات المؤدية إلى المدينة، وعكس امتلاء الشوارع بالسيارات إصرار أهل الجنوب على عودة الحياة إلى طبيعتها.
مشاهد الدمار لا تزال تطغى على كل زاوية في النبطية، التي تعد شريانا رئيسيا يربط القرى والبلدات المجاورة لها، فالمباني السكنية تحولت إلى أطلال، والمحلات التجارية باتت أكواما من الركام، حتى “سوق الاثنين” التاريخي الشهير الذي كان عصبا للاقتصاد والحركة التجارية في المدينة لم يسلم من التدمير الكامل، ليبقى شاهدًا صامتًا على حجم المأساة التي عصفت بالمكان.
دمروا كل شيء
في وسط هذا الدمار تروى قصص الصمود والتحدي، ومن بينها قصة العم حيدر، صاحب محل الأدوات المنزلية الذي أسّسه عام 1990، ويقف اليوم أمام ما تبقى من محله، وتغمره مشاعر الحزن والحسرة، ويقول بصوت مختلط بالألم والعزيمة “لم أشهد دمارا بهذا الحجم في حياتي، السوق بأسره تهدم، لكننا سنعيد بناءه مهما كلف الثمن”.
ومن بين أنقاض محله، يعبر العم حيدر عن استنكاره قائلا “هذا انتقام إسرائيلي، لكن لماذا يستهدفون الأسواق والمحال التجارية؟ ماذا فعلنا لهم؟”.
ثم يضيف بصوت مليء بالغضب “غارة واحدة حوّلت منزلا قريبا مني إلى كومة من الحجارة، لم يكن بيني وبين ذلك البيت سوى جدار، وكان يسكنه أفراد عائلة تعيش بسلام، ذلك البيت لم يكن يقاوم أحدا، ولا يحمل أي سلاح، هذا ظلم وهذا حرام”.
وعلى بُعد أمتار قليلة، ينشغل صالح، صاحب محل الألبسة، بتنظيف محله وإزالة الغبار عن البضائع والزجاج، ويسترجع ذكرياته عن السوق بينما يحدق في الركام، ويقول للجزيرة نت “هذا المكان ليس مجرد سوق، هنا نشأنا وكبرنا، ما حدث مؤلم، لكنه لن يُثنينا عن إعادة البناء”.
ثم يضيف، وهو يتحدث بقهر “من المحزن أن نرى حال هذا السوق على هذا النحو، ما حدث يقهر أرواحنا، فهذه ذكريات ورثناها عن أجدادنا وأهلنا، لقد دمروا كل شيء، لكن رغم ذلك، نحن صامدون وانتصرنا”، وفي الجهة المقابلة، تجلس امرأة أمام محلها المدمر وتقول “المهم أننا بخير، المال يعوض لكن الأرواح لا تعوض”.
ومن فوق أنقاض منزلها، تقف فاطمة التي هجّرتها الغارات، برأس مرفوع وترفع شعار النصر وتقول “هذا الدمار لن يكسرنا، والأرض التي احتضنتنا تستحق كل تضحية، سنبني من جديد ونحمي أرضنا”.
“سنعيد البناء”
يحمل “سوق الاثنين” تاريخا يمتد لأكثر من قرن منذ تأسيسه في الفترة العثمانية عام 1910، حيث كان ملتقى للمزارعين والتجار من مختلف مناطق الجنوب في يوم الاثنين لعرض المنتجات الزراعية والحرف اليدوية.
ورغم دمار السوق فإن أهالي النبطية يؤكدون أن “روحه لا تزال حية”، ويصفه أحد التجار بأنه “شريان الجنوب ونبضه الاقتصادي”، مضيفًا “إسرائيل بجريمتها الوحشية دمرت الحجر، لكننا فقدنا أكثر من ذلك، فقدنا أرزاقنا وبيوتنا، حتى أننا فقدنا إخوة لنا وأصدقاء شهداء، ورغم كل هذا لن تتمكن من تدمير إرادتنا، فإصرارنا أكبر من أن يحطم، سنعيد بناء السوق، وسيعود أقوى مما كان”.
ووسط ضحكات الأطفال التي بدأت تعود تدريجيا، تعلو أصوات فرق البلدية والجرافات التي تعمل على إزالة الأنقاض وفتح الطرقات، وينشغل السكان بزيارة محلاتهم لتقييم الخسائر، بينما تعمل فرق أخرى على ترميم شبكات المياه والكهرباء، لتبرز ملامح مدينة قررت ألا تستسلم.
دبين المدمرة
وعلى بُعد 12 كيلومترا باتجاه الشرق، تقع بلدة دبين في قضاء مرجعيون، التي لم يكن حالها أفضل من حال النبطية، فقد دمرت البلدة الجنوبية بالكامل بفعل العدوان الإسرائيلي، ولم تكن عودة أهلها إليها مجرد رحلة محفوفة بالمخاطر، بل مغامرة صعبة مليئة بالمشاهد المؤلمة، فالطرق داخل البلدة أصبحت شبه مستحيلة، والدمار الذي خلفه القصف الإسرائيلي منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023 حوّل البلدة إلى أطلال.
“الطرقات كلها مدمّرة، لم أستطع الوصول إلى بيتي بسيارتي” يقول كامل أحد سكان البلدة للجزيرة نت، ويضيف “عندما شاهدت حجم الدمار شعرت بالصدمة، بيت أولاد أخي دمر بالكامل، وبيتي تعرض لأضرار كبيرة، البلدة تغيّرت كليا، المنازل والشوارع وحتى المحال التجارية كل شيء تهدم”.
ويتذكر كامل، الذي نزح مع عائلته إلى عكار في بداية المواجهات “لم نكن نعلم شيئًا عن حال منازلنا، كل ما نعرفه كان عبر الأخبار عن الغارات اليومية، حتى جاء يوم سمعنا فيه أن الغارة كانت بجوار منزلنا”.
عاد كامل إلى البلدة بعد إعلان وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل، ليجدها شبه خالية، ويقول “منذ الصباح الباكر وأنا أتفقد المنازل والجيران، لكن قلة قليلة فقط عادت، والغالبية لا تزال غائبة بسبب الدمار الهائل”.
وداخل منزله، وجد كامل رسالة تركها المقاومون الذين احتموا به خلال المعارك، وبتنهيدة عميقة يقول “الحمد لله والله يعوض، المهم أن الله نصرهم”.
العودة للأرض
زهراء واحدة من سكان دبين، عادت إلى بلدة طفولتها بعد نزوح طويل، لتقف أمام دمار جزئي طال منزلها ومنزل جيرانها المجاور، الذي بات آيلا للسقوط، وتقول “عندما وصلت لم أتمالك نفسي، قبّلت الأرض فورًا، هذا الوطن هو جذوري ولن أغادره مجددًا”، تقول بصوت اختنق بالعبرات.
ورغم كل شيء، لا تخلو كلمات زهراء من نبرة أمل وسخرية إذ تقول “اشتقت لبستاني كثيرًا، كنت أربي فيه 70 دجاجة، لكن ما لقيت ولا واحدة، حتى الورود التي زرعتها اختفت، الجيش الإسرائيلي لم يترك شيئًا إلا وطاله الخراب”، وتضيف بابتسامة “هذا العام لن نجني الزيتون، راح علينا الموسم، كنت أحب الزراعة كثيرًا، من بقدونس ونعناع إلى باذنجان وملفوف، لكن الحمد لله، أهم شيء أننا عدنا إلى أرضنا”.
وأمام منزلها المتواضع، تجلس فاطمة وقد أثقلت ملامح التعب وجهها، بعد أكثر من عام من النزوح مع زوجها، تحضر القهوة وتتناول الحديث مع جارتها، بينما تغمرها ذكريات أيام ما قبل الحرب، وتقول للجزيرة نت “هذا فنجان القهوة له طعم مختلف هنا في البلدة، الهوا غير رغم أنه يحمل رائحة الحرائق التي أحرقت البيوت وغبار الدمار”.
وتتابع بنبرة مليئة بالشكر والحزن “كنت أتوقع أن أجد منزلي مدمّرًا تمامًا، لكن الحمد لله ما زال موجودًا، رغم الأضرار الكبيرة، روحي عادت إليّ مع عودتنا”.
دفعت بلدة دبين التي تبعد نحو 30 كيلومترًا من الحدود الجنوبية ثمن التصعيد الأخير -كسائر البلدات الحدودية- دمارا في البنية التحتية، ونزحت أعداد كبيرة من سكانها، ومع إعلان وقف إطلاق النار، لا تزال العودة حلما بعيدًا للعديد من العائلات التي فقدت منازلها بالكامل.